عبد القادر أحمد الشيخ - ترَقُّب.. قصة قصيرة

لم تكن آخر قُبلة، لكن ما حدث قبل ذلك كان مثيراً. فبعد قدومي للمنطقة بيوم، خرجت أتعرف على شوارعها وساكنيها، مساجدها ونواديها، تعثرت بها عند فسحة صغيرة في منزل طيني عريق تنبت على حوائطه حشائش خضراء، يطل على شارع فرعي هادئ، به غرف لم أعدها، سوره قصير. أبصرتها خلسه، منحنية بأدب على الأرض، ونهداها يتنازعان داخل فستان فضفاض ، بينهما سلسل ذهبي رقيق يلمع في الشمس، لطالما تبعتهما عيناي كبوصلة . رفعت رأسها ببطء، كأن السماء نادتها، فيما كانت الأرض تستبقيها، وكما لو أنها مجبورة على ذلك .
اعتدلت، رمت مكنستها عنها بعيداً كلعنة، ضمت صدرها بيدها ، فيما أطبقت بيدها الثانية أطبقت على فمها. فاتسعت عيناها لتحتويني، أنا الذي كنت مذهولاً بها . أخذتني إلى داخل غرفة كاتمةً صرخة أوشكت أن تفلت من فمها . جلست على سرير مصنوع من الخشب وحباله من سعف النخيل، تمددت عليه وأخرجتني كخطيئة وألقت علىَّ بتعاويذ. كنت شاخصاً أمامها بكامل شبقي، لم تحدثني وإنما تركت لعيناها مهمة الحديث "ولو رأيت عينيها لملئت منهما حبا." تركتني أمضي بها ، ألملم ما تبقى مني، وبقدرة قادر، عرفت طريق منزلي الذي ابتعدت عنه مسافة ثلاثة شوارع ومسجد يأتي بعده نادٍ. منزلها خلف مدرسة.
نمت مباشرة، عاجزاً عن احتمال جمالها الباذخ. أوقظتني برفق من حلمي حين أردت تقبيلها، توقف قلبي اجلالاً لنبضها ثم عاد ليمنحني السلام، سالمتها، قالت:
ــ لماذا تترك بابك مفتوحاً ، وهل تنام على الأرض دائما؟
لم تمهلني الرد، وربما رددت لها، لكنني عجزت عن سماع ذلك، هل انا الذي يجيب أم هي السائلة، تناولت منها طبقاً أعدته للضيف الجديد، كما أوصتها أمها.
وهي فتاة مطيعة، تنظف منزلها ، وطبخها شهي ولذيذ، فتاة أعدت لأن تكون زوجة، أخذت بنصيحة جدتها التي تركتها عند أمها.
تنتظر أباها الذي يعود مساءً من صفوف البنزين، بعدما يترك حجراً مكانه، ويدفع مقابل تحريكه بالساعة، حتى الحجر أصبح له ثمن، هكذا قالت، وعندما يعود يحكي لها عن طرائف وعجائب الصفوف، وكيف أن سائق بوكس، أنشأ صداقة مع سائق لوري، جنى منها عروسا لإبنه الذي يناوبه في الصف الطويل. أبوها فيما يتناول عشاءه المكون من قراصة وحليب، به سمن بلدي، يتم حكايته وهو متمدداً على سرير خشبي في الفناء الذي قامت نهارا بنظافته.. يواصل أبوها حديثه : وأما صاحب العربة البرادو لم نره، لم ينزل زجاج نافذته،لكن كانت له لحيه مخضبه أبصرناها من وراء الزجاج ، على وجهه تمتد آثار شقائنا، وتفوح من عربته رائحة عرقنا.. التفت سائق البرادو لعامل محطة البنزين المسكين مشيراً للوحة العربة ، فعبأ له عامل المحطة بنزيناً لو وزع على صفوفنا لكفاها. فيما انحني لصاحب العربة البرادو حراس النظام الذين يراقبوننا طيلة النهار .. انحنوا له ، ثم أطلق لعربته العنان ، سألت بأئع التسالي الذي ينقل لنا أخبار مقدمة الصف:
ـــ ما لذي يحدث؟
ــ ناس الجهاز قالوا تعبوا ماشين ينوموا حبه وجايين..وغايتو بس الله يهون.
أنست من حديثها وحديث أبيها الذي تحكيه، فيما كانت تجلس على طرف السرير، تمسح خمارها الأسود وتبحث عن شيء في الأرض، أو ربما تخاطبها بطريقة ما، فالكل يريد أن يحظى بشرف محادثتها، وأنا بينهم أبحث عن تفسير لسر عذوبة صوتها ونعاسي، سألتني عن قهوتي : هل أحبها سادة، أم بالزنجبيل؟
قلت: كما تصنعينها فقط أضيفي عليها قليلاً منك وهكذا سيعتدل مزاجي.
ضحكت في دلال فنبتت على غرفتي أزهار، من نرجس ، نظرت بدهشه إليها فحلقت منها فراشات ملونة، نظرت إلي وجدتني غارقاً فيها، نهضت، فعادت الغرفة تلعنني من جديد، وساعتي التي عرفت معناها تلكأت في دورانها، حاولت سحبها مانعتني، قضيت تلك المدة التي أجهلها في النظر لبابي وساعتي، مر وقت ظننته دهراً ولم تظهر، نهضت بما تبقى لي من قوة لأن الانتظار أرهق جسدي النحيل. فجأة ظهرت لي كأمل ضائع، تمشي على مهل إيقاعها، وتتراقص على يديها الفناجين، يحفها بخور يمني، قدمت إلي ومنحتني المزاج على طبق من نغم، وقالت بعدما صبت بعض منها على فنجان تتلألأ نجومه
ــ هو لن يأتي.. لكن من الذي سيقنع والدي..
....من الذي سيقنعني أنا بأنني لست في حلم.. هكذا تمتمت..
صبت فنجاناً ثاناً وقالت
ـــ هذا(تنى) إن شربته ستصير بكري وتناي. فعرفت أن فنجانها الأول بكرى.
استمرت تحدثني عن طقوس قهوتها، تقلي بنها، ثم تسحقه مدندنةً بأغنية مزاجية : (البن البن تنتنو يلاّ)...ثم تجعل الماء يغلي بجمرات من الفحم. هي لا تحب الغاز فهو يفسد القهوة، هكذا قالت، ثم أردفت : ويفسد المزاج، ثم قبلتني، هكذا ارتشفتها قبلةً واحدة عدلت مزاجي، سألتها من أنت؟ .. فأجابت :
ــ أنا بنت الطين وحفيدة النيل، أمي نخله وأبي الصباح، أنا فتاة خرجت من صلب القبيلة ودفنت تحت شهوات الرجال، علمتني أمي أن مهمتي النبيلة هي إرضاء البطون وإشباع الغرائز، فعملت بنصيحتها، وأشبعت صديق والدي ، الرجل الطيب، الذي كلما خرج والداي لغرض ما، أتى إلي يحملني يبن ذراعيه ويدخلني حيث لا يتبعنا النور، ثم يحرثني ويزرع فيَّ بذور بيضاء، وكأنه يقول : هكذا ستكبرين وستصبحين كاملة الأنوثة، وحينما نبتت ثماري، تركني محملة بفيض من ضوء، ممتلئة به، بلا حصاد، سافر حيث لا يمكن إدراكه، مازالت أنفاسه اللاهثة تثير جلدي، سافر، ومن يومها بتُّ أكرم المسافرين، علني أجده قد أرسل لي يعزيني في فيضه المندلق مني سهواً، ذات مخاض.
أمي لملمت ما تبقى مني من شرف، ووهبتني للحياة، حيث بت لا أصلح لها..


قاص من إرتريا



* القصة الحائزة على المركز الأول في الدورة الرابعة لمسابقة (محمد سعيد ناود للقصة القصيرة التي تنظمها سنويا (مكتبة أغردات العامة على الانترنت) 2018م


- عن إيلاف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى