عمر التجاني - الــــرّادي

الجـزء الأول

هذه الحكاية إياكم والظن بأنها مجرد كضبة، فلم يكن معروفا عني أني كضّاب فيما سبق. هذا التبرير القوي لأن الحكاية بها شئ من سعة الخيال كما سترون. وسعة الخيال تلك أخذتها من صديقي حسن عثمان فهو رجل جدّ مهذب، فلا يصف أي شخص بأنه كذّاب ولو عن طريق المزاح؛ فلم يحدث أن قال فلان ده كضّاب ؛ بل كان يقول بدلا عنها فلان ده خياله واسع شوية أو خياله واسع كتير وذلك حسب درجة الكضبة. المهم نبدا حكاية الرّادي مع بابكر. الحكاية قديمة شوية عندما جاء محمد المهدي من السعودية وأهدى للأسرة راديو سانيو إنقليزي.

ـ يا أخي سانيو ده ما إنقليزى سانيو ده ياباني، يعني مصنوع في اليابان.

ـ قال ياباني قال. أهي دي قدامك قدر الضربة مكتوب بالإنقليزي ما بتعرف تقرا إنقليزي ولا شنو. حالتك دي قريت الجامعة.

يبدو أن محمد المهدي عندما قدّم لهم هديته أشار بأصبعة كعادته إلى كلمة سانيو الملصقة على واجهة المذياع أو خلفه.

ـ ده راديو سانيو ممتاز ما تبوظوه.

ولم يشر من بعيد أو قريب لبلد المنشأ. وبلد المنشأ هذه تعلمتها من صديقي ود العبيد فعرفت أنها تعني بلد الإنتاج. المهم ظل بابكر يحمل جهازه الخطير النافذة التي أطل منها على العالم فعرف إندونيسيا والملايو وغابات كينيا. فتوسعت مداركه بصورة كبيرة وسريعة، فتراجع بدرجة أقل حدة من أن سانيو صنع إنقليزي وكان يقول ياباني مجمّع في بلاد الإنقليز. وتحول الّرادي غلي مصدر قوي لمعلوماته، ولكن الشيء الأخطر هو تحول بابكر من فنانه المفضل علي حسن صالح الذي كان يفضله على أولاد جاره وعوض السنوي وعبد الصادق القدواب تحّول إلى ود البادية بل أخذ يؤكد أن علي حسن صالح لا يعرف الفن مطلقا. الفنان ود البادية ولّلا بلاش. وذلك لأن حكاية الجؤذر الممراح شوية قاسية عليه فهو مغرم ب ياشمش أصله يومك ما بمش.


إلى أن جاء ذات يوم وفي الصباح يا فتّاح يا عليم بالله الّرادي تقول درابة. وكلمة درابة عندنا في بربر لا يوصف بها أي شئ سوى الرادي عندما يصمت أو الزول المافيه فايدة. ولأن رادي بابكر بقى درابة ظن بابكر أن هذا من البطارية فاستبدلها بأخرى من الدكان. غير أن الأمر لم يتغيّر وأدرك بابكر إن عطلا أصاب الرادي ا يجب إصلاحه، فأخذ يراوح بين أتبرة المدينة الكبيرة المجاورة لبربر لعدة أيام عارضا الرادي على المصلحاتية، وكانت لدى بابكر فكرة مفادها أن المصلحاتية غير مضموني الجانب، فإذا ما تركت الرادي عندهم فسوف يعفشوه ليأخذوا منه الصالح لبيعه واستبداله بآخر قديم، وكان يصر على المصلحاتية أن ينتظر الرادي ولما لم يكن هذا ممكنا فهو يعود أدراجه في المساء في الباظ الأخير. وأخيرا اقتنع ولم يعد يذهب لأتبرة.

بقي عدة ليال يتقلب في فراشه، فقد كان الرادي سميره في تلك الليالي الكالحات، وبغتة عنت له فكرة كومض كطيف كخيال لماذا لا يجرب أن يقوم بإصلاح الرادي بنفسه.

ـ يا ولد ده رادي سانيو ما تبوظ راديك السمح ده.

ـ يا ولد منو القالك حيخرب هو ما أصله خربان.

ـ يا ولد يقوموا الناس يضحكوا عليك بالخصوص حيضر الأغبش المدرس ده عينوه مدرس كيفن ما بعرف. والمقصوف ده محجوب سيد الدكان.

ـ يا ولد هن دايرين يعرفوا كيف ما هو أصله الرادي بايظ.

ـ يا ولد خليهم الدايرين يقولوه اليقولوه رادي وانا مخير فيه.

وبات ليلته يقلب أفكاره واستقر أخيرا على رأي قاطع.

ـ يا زول أول من العين شافت فرشت تقروقة الصلاة ختيت الرادي فوقها جبت سكين المطبخ وايد الفندك والمعلقة. ويازول أقول لك أول من فتحت الرادي القا لك سليكة ناطة بس ربك رب الخير أول مكان ختيته ليك فيه الرادي كركر قمت ثبتها ليك بي أصبعي شديد طوالي الرادي غنى وحكمة الله ما يجيب إلا ود البادية (الحب ذهور) يا زول جربت ختيت لها صابونه ما نفع ومرة تانية عجين ومرة معجون سيقنال كولجيت. المصيبة ما دايرها ليها لحام ششفته عند اسماعين السمكري زي حق المصلحاتية بالظبط. يا زول طوالي بسرعة مشيت لي اسماعين لقيته قاعد يشتغل ومعا هو جماعة ومن ضمنن أمونه كان عندها شرقرق. انتظرته لامن خلص شغله، ولامن جابو الفطور قمت قلت ليه، أنا ياسماعين داير أسألك الخرابة دي بي تجيبوها من وين وأشرت ليه على اللحام والكاوية. قام قال لي يالخرابة داير تبقى سمكري وللا شنو. قام قال عاد النكلمك يالخرابة ديل بي نسويهن برانا اللحام من بطاريات العربيات القديمة. والكاوية معلقة نحاس قديمة. وتبقى المشكلة في كيفية الحصول على معلقة النحاس والبطارية القديمة فتذكر أن حبوبة عاشة لديها كم هائل من الأواني النحاسية ولكنها صعبة المراس، فكيف يمكن إقناعها. وكم كانت دهشته عظيمة عندما ناولته إياها حتى دون أن تسأله داير بها شنو. ثم جاء دور البطارية القديمة فأخبره عمر طلب الملقب بعمر سفنجة بأنه يمكنه الحصول على البطارية من موقف العربات إذا ما سأل فايز أو محمد الجميل. بيد أن فايز ظن أنها هبة من السماء هبطت عليه فطلب مبلغا كبيرا أما محمد الجميل فقد طلب الساهله، حق العدل بس. وبالفعل تمت العملية فحول البطارية إلي إصبع لحام والملعقة إلي كاوية، كما شرح له السمكري قمت لحت ليك السليكة ديك والرادي قام فتح وقال بق نان تاني خرب.

فتفشى الخبر وعم القرى وكاد أن يبلغ الحضر، وقد أذاعه بابكر بنفسه، إما بإخبار الناس مباشرة بأنه قام بإصلاح الرادي ،هذا إذا لم يكن يحمل الرادي معه، وهو أمر نادر الحدوث، أما إن كان يحمله كعادته فإنه يقوم برفع صوت الرادي ليعلو كل صوت.

وذات عصرية وهي الفترة التي يقوم بابكر فيها بالطواف بالرادي من الحلة إلى موقف الباظات حيث يقابل بابكر الباظات الجايات من الخرطوم بعد الساعة اربعة، وفجأة لمح بابكر أحد أبناء النوبة وهو يحمل رادي عليه غطاء آيه في الجمال، فصمم على أن يعمل للرادي قميص مثل ذلك وتوجه من فوره إلى ود اب عامر الترزي الذي لا يرفض له طلبا. عليك الله ياود ابو عامر خيت لي قميص لي رادي ده.

ـ حاضر بعمله ليك لكن ما الليله بكرة، الليله عندي شغل كتير تعال بكرة تلقاه جاهز إن شاء الله.

ـ لا لا لا بكرة ولا إن شا الله أسع تيه تخيتو لي ماني زاحي من بكاني ده.

وكان ود اب عامر يقول بابكر ده راجل مبروك لكنه لايوق ملاح سبروق. وكم كانت لباكر فرحة عارمة وهو ينصرف مزهوا يحمل راديهو مع قميصه الجديد.


لعل بشرية كانت ترى ألا سبيل لدفع مبالغ للمصلحاتية لإصلاح راديها القديم فآثرت أن تعطية لبابكر فإن قام بإصلاحه فهو المطلوب وإن لم يكن فلا عتب ولا ملامة لأن راديها أصلا بايظ. وبالفعل أخبرت بابكر بهذا الطلب وتردد في قبول طلبها فبشرية لها موقع خاص في حياته فإذا ما رفض كان يخشى من غضبها عليه وإن قبل ولم يتمكن من إصلاح الرادي فسوف يغدو حسب توقعة سيغدو في نظرها زول ساكت ما بيعرف حاجة. وقد أقنعته بأن الرادي أصلا بايظ ولا ضير في أن يبوظ زيادة وقالت له بالحرف الواحد

ـ إنت يا بابكر ما سمعت بالمقاله الأعور طقوه عينه قال اصلها بايظة. وأخذ منها الرادي وكله أمل أن يتم إصلاحه على يديه ليرضي بشرية.

حدثني بابكر بنفسه قائلا:

ـ تعرف يا ود شيخنا شلتلك الرادي وقمت يا زول فتحته ليك ، نضفته كويس، القالك حاجة صغيره بلحيل، زي الشاكوش حاولتها جاي جاي أصله رادي بشرية ده درابة، أخد فيّ النهار كله، يازول الساعة اربعة قربت قوم حصل باظ الخرتوم.

نهض بابكر ولبس العراقي وهو يهم بالخروج قابله الطاهر لدى الباب.

ـ يا ولد جنيت وللا شنو مالك مارق وعراقيك بالقلبة.

وكأنما كانت تلك الكلمة هي مفتاح الحل. لماذا لا يكون لهذه النصيبة عدله وقلبة. ورجع ولم يغير العراقي ولم يخلعه كعادته عندما يكون في غرفته. رجع إلى الرادي الذي تركه مفتوحا على الأرض، وقد كان يظن أن رادي بشرية لا فائدة فيه ولا يمكن إصلاحه. المهم يا ود شيخنا وقع لي إلهام من السما يا زول حولت أخت النصيبة دي جاي وللا جاي بالعدلة وبالقلبة، ربك كريم الرادي كركر قمت لحمتها ليك والرادي غنى زي الترتيب. لم ينتظر حتى يطفئ النار التي أوقد للحام ولم يبدل العراقي الذي مازال بالقلبه بل اضاف عليه أن لبس السفنجة بالقلبة. حمل الرادي وطاف به الحلة، فعلمت البلدة أن نصرا جديدا أصاب بابكر؛ انقسمت البلدة تجاه تلك الظاهرة إلى فريقين؛ فريق يرى أن المسألة لا تعدو كونها خبطة حظ فأصابت، وفريق يرى أن بابكر مخه نضيف ويفهم في شغل الروادي. أما الفريق الذي كان يعتقد أنها مجرد خبطة حظ فقد قاموا بإعطاء بابكر رادي عبد الرحمن المدير القديم ليقوم بإصلاحه باعتبار أنها صدفة ولن تتكرر.

دهش الجمع وهم في انتظار باظ الخرتوم في الضل عندما جاء بابكر وقد تغير شكل مشيته تماماً، جاء ولم يحيي بل وضع الرادي وسطهم وقال لحيدر:

ـ يا ود الأغبش ده مو راديكم الأديتوني ياهو عليك الله إن ما فتحته. رفض حيدر وقال له

ـ يللا أها ورينا شغلك.

وتكرم ود الشيخ وأدار مفتاح الرادي فإذا بالرادي يلعلع دكان ود البصير الذي لا يحبه حيدر مطلقا. وبدأ بعض الجمع يتراجع عن ضربة الحظ، وأضيف إبداع جديد لبابكر الذي انصرف مزهوا بنصر أصاب. وعرضت عليه عروض كثيرة غير أنه اعتذر بحجة ألا وقت لديه وإنه مشغول.


وفي ذات مساء جاءت بشرية ومعها جارتها أم سلمة تحمل راديها الخربان، بيد أن بابكر ورغم إعزازه لبشرية إلا أنه رفض وبإصرار، وخصته بشرية بالرسول وبي الأوليا جملة وقالت له فيما قالت بتديك نص جنيه. لماذا لا يقبل العرض ونص الجنيه ما حاجة ساهله. لكن ربما لا ينجح خذه المرة فكيفيه نصره السابق مع بشرية. وخرج من بيته والزهو يملأ جنبيه. وفي الطريق صادف حيضر الذي لا يقر له بالموهبة الجديدة التي هبطت علية من السماء فبادر حيدر قائلا:

ـ أسمع يا ود الأغبش والله انتو أهلكم ناس تمام وإنت ذاتك كنت زول تمام لكن الأيام دي قمت لك في مسخرة جديدة أنا والله بعرف أصلح الروادي وأي رادي خربان بصلحه؛ اسع تيه بشرية جابت لي ردي أم سلمه وابيت أمسكه منها وكمان قالت لي بديك نص جنيه أكان ماك عارف أعرف.

رد حيدر محاولا شرح وجهة نظرة بطريقة لم ولن يفهمها بابكر أبدا فقال.

ـ يا أخي أنا ما قلت إنت ما بتعرف تصلح الروادي أنا قلت إنه المسألة بتاعة اللإكترونات دي مسألة ما ساهله الناس بي تقرا ليها كليات سنين. ثم تانيا الرادي لمان يبوظ عايز اسبير إنت بي تعرف تجيبها بي تعرف اساميها وأرقامها ومقاساتها كله اسبير عنده اسم علمي واسم تجاري انت بي تعرفها وعنده رقم يحدد نوعة ومقدرته، انت الحاجات دي بي تعرفها؟

صمت بابكر كعادته في المواقف الحرجة فقد أدخله حيدر في علم لا يعرف هو حتى اسمه، فقرر في دواخله أن يتصالح مع حيضر ود الأغبش، فقد رأى فيه شخصا خطيرا يعرف أشياء لا يعرفها هو، ولكن حيدر قد يسخر منه أمام الناس بأنه زول ساكت ما بيعرف حاجة، لكن هذه ليست من صفات حيضر، وإذا بحيدر يتابع حديثه.

ـ أنا عندي واحد صاحبي يتاع إلكترونات في أتبرة بوديك ليه يوريك الإسبيرات وعدة الشغل ويكتب ليك أساميها، بس إنت جهز الفلوس وأنا مستعد في أي لحظة أمشي معاك. وما تكلم زول تقوله حيدر قال لي وللا قلت ليه خليها سر، بعدين أسع تيـّـه ما تمسك أي رادي لغاية ما تجيب عدة الشغل، وبعدين أمسك مقدم ما في حاجة اسمها لا من الرادي يتصلح لو ما اتصلح تكون ضيعت وكتك في الفاضي.

ـ أيوه ياود الأغبش أنا ماقلت لك إنت زول تمام ما فيش حاجة اسمها لا من يتصلح الرادي والله يقدرني علي جزاك.

وتمت العملية بسرية تامة، ولم يعلم بها أحد، وأصبح بابكر يستلم الروادي ويزيدها أعطالا على تلك التي بها والعذر معروف وهو الرادي داير اسبير لامن أمشي وأجيبه من أتبرة، ومع هذا تبدلت حياة بابكر كلية، ومن ضمن تبدلاته أنه أخد يرتدي البنطلون، وتزوج بشرية، وأيضا من ضمن تبدلاته أن اصبح اسمه الباشمهندس وتلك قصة سيرد ذكرها لا حقا، وأصبح محله مكان ترتاده الطبقة المثقفة على حد زعمه.

ـ يا زول أقول لك اليوم داك اربحا اصلي ما بنساهو جات بشرية دي الساعة ديك أنا ما عرستها ، يجي معاها خواجة عيونه خدر شايله جهاز يشبه الروادي وقال لي لو تكرمت يا ....

قمت قلت ليه باشمهندس بابكر:

ومن ساعتها اصبح اسمه الباشمهندس.

قام قال لي:

يا باشمهندس بابكر انا عايزك تصلح لي الجهاز ده أسع تيــّـه.

والقصة التي لم يروها بابكر هو أن ذاك الخواجة اعتاد أن يحضر كل عام وفي ذات الوقت لا نعرف لماذا يجئ وما يفعل في الصحراء وربما ناس الحكومة بي يعرفوا.

رفض بابكر أن يستلم الجهاز بحجة أنه الشغل بالدور ويا خواجة إذا بي تجي بكرة أهلا والله شيل جهازك واتوكل.

أخيرا رضخ الخواجة وترك جهازه وانصرف وبمجرد انصرافه قام بابكر وبحذر شديد فتح الجهاز ووجده يشبه الأجهزة المكدسة عنده بالعشرات فنظفه ووضعه في مكان بارز ليوهم الناس أنه اصبح يصلح أجهزة الخواجات.

في صباح الغد جاء الخواجة ودخل إلي محل بابكر ولم يسلم وذهب مباشرة إلى جهازه أدار مفتاحة وأخذ يصفق وقال:

ـ هايل باشمهندس بابكر أخيرا الجهاز اتصلح كم حسابك يا باشمهندس بابكر؟

رد بابكر ولم يكن يعلم أنه مبالغ جدا:

ـ انا والله حقي مية جنيه لأني جهازك ده عمات ليه اسبير غالي شوية.

دهش الخواجة ونظر إلي بابكر نظرة ملؤها الشك والريبة. غير أن بابكر استدرك قائلا:

ـ لكن اقول لك ياخواجه البي تجيبه جيبه انتو ما ناس ضيوفنا واكرامكم واجب علينا.

ناول الخواجة بابكر عشرون جنيها وهو مبلغ ضخم.

وفي لحظة لا يعرف فيها لم قال بابكر للخواجة.

ـ يا خواجة ما تبيع لي الجهاز ده.

رد الخواجة بقوله:

ـ لا يا باشمهندس أنا ما بسافر بدون الجهاز ده لأنو جهاز اتصال. لكن بوعدك عندي جهاز جديد طلبته ولمان يصل بديك الجهاز ده مجانا ده وعد.

منح بابكر بشرية جنيه أخدر، عرفانا لها لأنها هي التي دلت الخواجة لمحل بابكر، وتقربا منها إذ لها موقع خاص في نفسه وساهمت بشرية في نشر الخبر الذي سمعه كل سكان البلدة.

وبعد أيام قليلة وقفت عربة الخواجة أمام محل بابكر ونزل منها الخواجة حاملا الجهاز معه، فظن بابكر بادئ الأمر إن الجهاز تعطل ثانية وذهبت به الظنون شتى. ولكن الخواجة بادر بالتحية وقائلاً:

:ـ يا....

رد بابكر

ـ بابكر

فقال الخواجة يا باشمهندس بابكر ده الجهاز حسب وعدي ليك هدية مني ليك مجانا.

وشرح لبابكر كيفية استعمال الجهاز وتحويله إلى جهاز إرسال واستقبال. وانصرف الخواجة دون أن يقول له بابكر شكرا فلم يسعفه الحظ لقولها لأنه لا يعرف ماذا سيفعل بجهاز كهذا. ولما جاء ود الشيخ كعادته كل صباح لمحل بابكر وجدها بابكر فأسهب بابكر في شرح الجهاز لود الشيخ ولقد دهش بابكر قبل ود الشيخ عندما قال بابكر في الجهاز الو... الو واحد اتنين تلاتة فسمعها بوضوح في جهاز الرادي الذي كان مفتوحا بالقرب منه. انطلق ود الشيخ للسوق ليقول للناس بابكر داير يخلي الهندسة ويبقى مذيع. وهكذا انطلقت تلك الإشاعة ولكن بابكر اعتبرها حقيقة واقعة وتلك هي بداية قصة الإذاعة التي ربما سعدت بحكايتها لكم في مقبل زمان آت.

* يليه الجزء الثاني، "الإذاعة".

تعليقات

الجزء الثاني المكمّل لـ "الرادي"
عمر التجاني


عندما أعلن المؤذن بجامع الأنصار، أن اليوم الجديد قد بدأ، هبّ النّاس من فُرِشِهم منصرفين الي أعمالهم، وفي السّوق كانوا بعد أن يفتحوا دكاكينهم، وينظفوها، ويرتبوها، يجلسون حليقات، حليقات، ويشربون قهوة الّصباح، من مقهى حمّيدة، في إنتظار الزبائن، والمشترين. وفي تلك الأثناء تكون إذاعة بابكر ثبث أخبار الصّباح، وهم يستمعون اليها بشغفٍ وشوق ..وفي ذات يوم بحثوا عنها فلم يجدوها .فقال قائلٌ منهم:

ـ الله يستر البلد فيها إنقلاب ولا شنو؟ دحين سمعتوا البيان الأول؟

رد عليه عثمان بطيخ:

ـ لو بقى في إنقلاب، خلي بالك حتكون دي ثورة قصيّر .

وقصيّر هو شهر شعبان. ولأن الحدث خاص ببربر، فلا بد أن يكون الشهر مطابقا لإسمه المعروف عندنا في بربر..فالشهور القمرية لها أسماء خاصة عندنا، تبدأ بالويحيد، وسايق، والموالد الأثنين، والكرامات الأثنين، ورجب، وقصيّر، ورمضان، والفطرة الأولانية، والفطرة العقابية، والضحية، تلك عدة الشهور اثني عشر شهرا بالتّمام والكمال.

فقال ود الكريب:

J يمكن أصبحت خربانه.

قام جلال نطّ قال:

ـ البارح نمت خليته ينضم، حتى جاب سيرة الظابط الجديد، الجابوه في مركز البوليس، وأخذ الخلق يسالون عما جرى لبابكر وإذاعته. وقد كانت الّصدمة جدّ قوية، عندما جاء الجماعة البايتين في الحراسة ليلة الأمس. والجماعة ديل تم القبض عليهم وهم يبحثون عن (العرقي)، وبالرغم من أنهم لم يتحصلوا عليه في تلك الليلة، إلا أنه تمّ القبض عليهم، وإيداعهم الحراسات بتهمة البحث عن الحرام. وهم بالحراسة إذا بالبوليس يأتي ببابكر، وأودع في زنزانة منفردة، وقد أكد علي ماسورة أنه رآه شوف العين.

والله حتى كمان أحمونا نقرّب منه ونساله من الحاصل.

وتفشى الخبر في المدينة بكاملها. وتجمهر الخلق أمام مركز البوليس يسألون عن الحاصل من بابكر ولبابكر.. وعندما جاء ضابط البوليس، سأل هو أيضا بدوره:

ـ الحاصل شنو؟ الخلق دي ماله متلمه؟

فقيل له أنه الجماعة ديل بي يسألوا عن بابكر. فما كان منه إلا أن ردّ وبحزم آمراً الجمع بالإنصراف والتفرق، وقد فعل ذلك خشية وقوع (الفتنة)..وخرج الجمع من مركز البوليس ولكنهم جلسوا في ظل المركز الصّحي المواجه لمركز البوليس .ودخل عدد منهم الي مكتب ودّ عجب الضابط الأقل رتبة. فأخبرهم ود عجب أن الضابط الجديد أعلى رتبة منه , وإنه المسألة عسكريّة يعني أوامر . وأنا لمان الأمر أكان بي يدي زي ما كنتو شايفين بعرف بابكر تمام .أمبارح بالليل خالص جاني الضابط في البيت وسألني في واحد في البلد عامل ليه إذاعة ؟ قلت ليه أيوه ده واحد إسمه بابكر وحكيت ليه الحكاية. قام قال لي وليه ما منعتوه؟. يعمل إذاعة بدون تصريح، والله عجيبة، أمشي اعتقله ودلوكت. طبعا نحن في بربر لا نستعمل كلمتي حسّع، ولا دلوكت، فنحن نقول أسع تيه، كما يقول ودّ عجب نفسه. المهم ما علينا نرجع للحكاية، وتمّ اعتقال بابكر رهن التحري والتحقيق. والضابط الجديد ختاله طابور تهم أقلاها الإزعاج العام، رغم أن أحداً لم يشتك قط من إزعاجٍ سببه له بابكر. بعدين في واحد قال إتكلم في السياسة، ده منو؟ فيكم زول سمع الكلام ده. أسعتيه من التحقيق بي نعرفه. التحقيق لسه ما بدا مع بابكر.

فقال ودّ ابو عامر وكان أكثرهم تأثرا لما حدث لبابكر.

كمان فيها تحقيقات؟ عليكم الله شوفوا جنس مشاكل! بابكر مالو ومال التحقيقات!

فقال ودّ عجب للجماعة:

ـ وماً نحن حنوديه أتبره، وما في حلّ غير إنه الجماعة يعملوا طلب ضمانة لإطلاق سراحه. غير كده ما في حل. إذا القاضي وافق. ولا من تجي ساعة القضية ليها مية فرج.

فتحمس أحد المحامين أولاد البلد، بعمل العريضة، بطلب الضمانة. وبقي السؤال: من الذي تكلم في موضوع السياسة ؟

فقال ودّ ابو عامر الدائم الاستماع لإذاعة بابكر:

ـ ي أدمسه ده أستاذ حسن عبد الحميد. قعد يقوله في جنس نضم بابكر مابيعرفه بالمرة، الوضع الراهن والحالة الإقتصادية والتحوّل الديمقراطي، والطبقة العاملة.

وحكاية الطبقة العامله كل معلومات بابكر عنها، أنه عندما ترك الزراعة، وإمتهن مهنة فني إصلاح الروادي، علماً بأنه يزيدها أعطالا على التي بها. وذات صباح، أمام دكان محجوب بائع الجبن، وأستاذ حسن عبد الحميد ده ذاته قال لبابكر وهو يمر أمامهم:

ـ عال يابابكر، خلاص خليت طبقة الفلاحين وإنضميت للطبقة العامله.

ردّ فرح نيابة عن بابكر:

ـ طبقة عاملة ايه يا أستاذ، بابكر إنتقل الي طبقة الفنيين، الراجل فني اليكترونات يعني باشمهندس تقول له طبقة عاملة.

وهنا قال محجوب ساخراً:

ـ هو فضّل فيها طبقة عاملة ؟

مما جعل حيدر يتدخل رغم قلة كلامه، ويرد بشئ من الحدة:

ـ إنت ما راجل رأسمالي عندك دكان، ما عايز الطبقة العامله صاحبة المصلحة الحقيقية.

وقد اعتقد بابكر أولاً أن الطبقة العاملة التي لم يدافع عنها فرح، وهاجمها محجوب، هي شيئ غير مرغوب فيه، ولكن تدخل حيدر زيّنها في ناظرية مرة أخرى. فهو يؤمن إيمانا قوياً بما يقول حيدر .أما طبقة الفلاحين فلم يكن يدري أنه فلاح أبداً إذ أن الفلاح لايوجد إلا في السيلما وهو يرتدي جلباباً اسود ويحمل ابو عشرة وعنده "داموسة" هكذا فهمها بابكر وهولا يمتلك لا أبو عشرة ولا الـ "داموسة".

حسن عبد الحميد وحسب شهادة فايز، الذي يحضر لموقف الباظات باكراً، رغم أنه نام متأخراً ليلة الأمس ففائز عازف البنقز الأول ببربر. أفاد فائز بأن حسن سافر لبلده داك البعيد في الصعيد. وأضاف متهكماً:

ـ الدايره اليلحقه هناك.

في تلك الحالة يكون أستاذ حسن أهدى لفائز ما يسره.

***

نقل بابكرالي أتبرة في حراسةٍ مشددةٍ، بكل ما تعني تلك الكلمة ، لمتابعة التحقيق معه. وذهب في ذات الحين وفد من أعيان البلد، لتقديم طلب الضمانة، ولشرح أن بابكر لا علاقة له بالسياسة، الممنوعة ولا الغير ممنوعة، إن مسألة الإذاعة نفسها مسألة لعب وضحك أكثر منها..فأستقبلهم الضابط الكبير بمكتبه، وقدم لهم نبذة عن القوانين، والتهم الموجهة لبابكر، وكونه بابكر لا يعرف القانون فهذا ليس بعذر، لأن القانون وحسب رأيه لا يحمي المغفلين، ثم أردف قائلاً:

ـ بعدين ياجماعة إنتو عارفين إنه البلد في حالة حرب مع قوى الإستكبار العالمي والإستلاب الحضاري ، وإنه التعامل مع الأعداء دي جريمة كبيرة يعني...

وهنا قاطعه عمّ الطيب المعروف بحبه لأهل البلد.وقد قال بحدة وغضب ناسياً انه أمام سلطة مهيبة وقوية:

ـ ياودّ أخوي إنت يتحمّل الأمور أكثر من طاقتها، مية مرة قلنالك بابكرده لا بيعرف الأعداء ولا الأصدقاء، ده زول داير يملا وكته باللعب، والضحك، والونسة، وهو عموماً مونس الخلق.

دهش الضابط من هذه الصيغة التي تفوه بها ذلك الشيخ الكبير. ولا يمكن إلا أن نحمد للضابط إنه كان ودّ ناس، يقدر الناس الكبار. فقال مهدئاً الموقف:

ـ طيب يا عمّ الطيب، أقول لك دلوكتي، قدّموا العريضة للقاضي، وبعد ما يوافق، بنطلق سراحه. لكن ما الليله ولا بكره، إنتو أمشوا، وأنا بوعدكم أكمل الباقي حسب الأجراءات المتبعة.

***

كان من عادة كمال قسم الله أن يخرج كل يوم في العصرية، ليجلس أرضاً مع عمّ موسى الذي إعتاد هو أيضاً أن يجلس في إنتظار بائعي القشّ لشراء عشا البهايم. في تلك اللحظة وصل بابكر، ونزل من البرينسة القادمة من أتبرة، مكسور الخاطر..ولكن ولحسن حظه كان أول من قابله كان كمال قسم الله الذي بادره بعبارة أعادت له معنوياته المنهارة:

ـ تعال هنا يا بابكر المناضل الجسور مرحبا بالمناضلين الأحرار.

وقعت تلك العبارة التي إستقبله بها كمال قسم الله موقعا حسناًورفعت من روحه المعنوية لدرجةٍ كبيرةٍ، وجاء محييّا. ولم يدلف لمنزله ليقبع فيه حسبما كان ينوي، بلّ توجه لتوه الي السوق، ماراً بمكتبة السر بريمة. إذ كان يعد نفسة من الطبقة المثقفة، فلا بد له في هذه الحالة أن يكون أول مكان يبدأ به هوالمكتبة، ولم يجد السر ووجد حسن والذي لم يقصّر أبداً في إكرامه بل قام بالواجب كما ينبغي. أما بقية الخلق فقد كانوا جدّ فرحين بمقدمه، وهاك ياشايات وياقهوات ، والجماعة في سوق الخضار أعطوه كيس خضار. وكيس لحم، وكيس خبز. وذهب لبيته مسروراً.


وحينما جنّ الليل ودجى، وجات الصنّة، غير صوت القعوي أو كما يقول ناس الصّعيد القعونجات، وصوت الصبرة يجيك من بعيد. يعطيك إحساساً عميقاً بحزن سرمدي لا متناهي ووحشةٍ وسكون مطبق، حتى يخيّل إليك أنك لوحدك في هذا الكون، وإن الكون لا يعدو أن يكون إلا تلك البقعة التي تحتويك منفرداً. افتقد الناس إذاعة بابكر، وتأكدّ أنها كانت شيئاً مهماً. إذاعة لندن للأخبار وإذاعة بابكر لطعم الحياة في تلك البقعة. وكانت إذاعة بحق ٍوحقيقة، أو كما وصفها سيد الصايم، بأنها تلبي تطلعات الجماهير. فقد كانت تذيع لنا الأخبار التي يعرفها الناس، مثل الليلة نفيسة نفست وجابت بنيّة، إن شاء الله من المستورات.مع أن البلدة من أقصاها إلي أقصاها تعرف أن نفيسة نفست وجابت بنيّة، إلا أن سماع الخبر من إذاعة بابكر لا يؤكد وقوع الحادثة فحسب، فهو يعطيها الوجود الذي لا يدرك الحواس، بلّ بالوجدان..والمعروف عن إذاعة بابكر أنها ما فتئت تجد استحساناً عند أهالي البلدة، فداوموا على سماعها بكرة وأصيلا، وزلفى من الليل، خاصةً عند الأخبار والتي اختار لها بابكر وقتاً فريداً وحيوياً، وهو بعد صلاة المغرب حيث يكون الخلق في تلك الساعة مجتمعين لشرب شاي المغربية في منازلهم، دون التقيد بساعة الحكومة، فيذيع لهم الأخبار التي يعرفونها، وتهمهم. ويمكنهم التأكد من وقوعها. فلا علاقة للخلق هنا بالأمطار الغزيرة التي هطلت بجزر التشي فيشي، ولا الانفجار المدوي الذي وقع بعاصمة الصّقيع وأدى إلي مقتل ثلاثةٍ من المارة. ولا الانتصار الساحق الذي حققه ماثيون علر تريثوك في التزحلق على الجليد. فهم لم يشاهدوا الجليد من قبل، والأمطار عندنا نادرة جداً، ولن يذهبوا لمأتم الثلاثة الذين قتلوا في الانفجار. كانت أخبار بابكر مثل: وصل عثمان أب شريط في باظ الضهر قادما من سنار حمد الله على سلامته المرق من داك البعوض . وغادرنا بقطار تسعة مشترك كريمة كمال الصادق متوجهاً إلي بلاد الشايقية، ربنا يكتب سلامته.أما أخبار الرياضة فدي الوحيدة العامله ليه مشاكل فهو متعصّب جداً لنادي الأمير، وكم من مرة قذفه جماعة اللمل (الأمل) بالحجارة نكاية به وبأخباره. وأما أخبار الوفيات والتي تكون قد عُلِم بها مسبقاً فكانت أقرب للتأبين. وقد حدث مرة أن توفي قريب لبابكر، فلم يتردد في أخذ جهازه معه لبث مراسم الدفن مباشرة. غير أنه وبعد فوات الأوان، أدرك أنه لم يكن موفقاً البتة في هذا، حيث أن جميع الأهالي إما كانوا بالمقابر للمشاركة في الدفن، أو كن في بيت البكا للمسابلة وعمل ملاح الخدرة، والقرع.

في تلك السنة كان هنالك فيضان عارم للنهر الخالد، فأخذ بابكر (زمام المبادرة) بإذاعة اخبار البحر أول بأول، وأحياناً نقل مباشر. مع العلم بأن جميع الأهالي كانوا يذهبون كل يوم للبحر لمعرفة الترعة وقعت أم لا. وأهمّ ما في إذاعة بابكر أنه كان يستعمل لغة جدّ عظيمة.البحر تسّب و البحر شرد، السمك العميان، فلا منسوب النبل ولا إنحساره ولا هم يحزنون. وحكاية البحر تذكرني بالنشرة الجوية فهي تذاع بعد وقوع الحدث لا قبله. وهي تورد أخبار الطقس بالأمس وليس غدٍ أو بعده، يعني ما توقعات الطقس، بل الشيء الذي حدث فعلاً. فتسمع مثلاً أمس بالليل زنقت شوية، بعدين قريب الصبح جابت لها كتاحة بعد الكتاحة جابت لها نسمة باردة. أمس بالليل كان في شوية قرّاص، وقد أخبرني الأستاذ فضل الله حسن عدلان أن معينيفة بها شوية قراص. ومراسلنا بالهجانة الأستاذ عبد المنعم حمدي ذكر بأن الهجانة خالية مؤقتاً من البعوض. وقد ضحك شرف محمد العالم القادم من الخليج, لهذه الفكرة، واقترح عليه أن يقوم باعطاء الفكرة للإذاعة الكبيرة (الما بجيب اسمها) لتنقل لنا أخبار البعوض، ودرجة القراص في مدن السودان المختلفة وأن تبتدع لنا فكرة لقياس درجة القراص والبعوض وحتى العقارب.

لا يُعرف من الذي أوحى له بفكرة الإعلانات، فطاف على الخبازين والتجار وبائعات الواقود، شارحاً فكرته ولكن حينما وصل الي دكان عمّ الطّيب، الذي يكن له قدراً عالياً من الود والمحبة، ويبادله بابكر بذات الإحساس، قائلا له:

ـ يا ولدي هنا التجار ما بيعلنوا عن بضاعتهم، قدر البي تجيهم يا باعوها بالّدس، يا بالدين، لكن أنا بكلمهم ليك يدعموك. سرّ بابكر لكلمة يدعموك وبالدّعم الذي وصله حقيقة، حتى أنه أفرد له برنمجا كاملاً لهذا الدعم، مشيداً بالذين قدموا له الدعم. فقد إفتقد الناس إذاعة بابكر، وأعلنوا له بهذا صراحة، مما زاده يقيناً بأهميته. ولعل أكثر الذين إفتقدوها شقيقتي نونه، التي تداوم على سماع الإذاعات، وخاصة إذاعة بابكر.

***

منذ أن أعطى الخواجة ذلك الجهاز لبابكر، وحّوله بابكر الي إذاعة. فهو صغير الحجم، وسهل التشغيل، ولا يكلف إلا بطارية رخيصة الثمن، وقد تمت مصادرته، حتى البطارية صودرت بحجة حماية الجبهة الداخلية. وقد ساعد في إنتشار إذاعة بابكر عدة عوامل أهمها أن الكهرباء بمدينة بربر، ظلت ولعقود خلت مقطوعة عن البلدة دون أن يهتم أحد من الحكومة بإصلاحها، فلا مسلسل ولا غيره. والثاني هو أن الأهالي لا يحبون سماع الإذاعة الكبيرة (الما بجيب إسمها) فهم يستمعون لإذاعة لندن، وهم ينتظرونها لتنقل لهم خبراً واحداً. المرة الفاتت تأخر كثيراً، المرة دي لم يذع حتى توفى ماجد سرحان.

جاء تنقو الصغير في زيارة لبربر، وكعادته طاف مسلماً على الخلق، كبير وصغير بدون فرز. وعند مروره بمقهى ودّ ابو خفّ، في طريقه ليسلّم على ود أبو عامر وجد بابكر وقد تجمهر حوله خلق كثير، فقال تنقو لبابكر:

ـ إنت يا بابكر تاني ما تقعد في القهاوي، إنت محلك نادي بربر، مع اامثقفين.

وكم كانت إجابة بابكر على تنقو مدهشة حقاً لمن حوله حينما قال:

ـ أنا يا أستاذ محلي مع البروليتاريا المستضعفة أدافع عن قضاياها.

ولما زالت الدهشة من الخلق ضجّوا بالضحك، حتى سمعه كل الخلق بالسوق. ضحك الجميع حتى(شبه جملو) البوليس السري، الذي يعرف جميع الخلق ببربر أنه بوليس سري، ولم يلق القبض طيلة فترة عمله على أحدٍ، حتى تقاعد للمعاش. ولكن (شبه جملو) قال من باب المداعبة لبابكر:

ـ الطبقة العاملة العاوزة تغتس حجرك، أوعك من جنس النضم ده .

أما بابكر فقد ترك عادته القديمة بالصمت عند المواقف الحرجة ,وقال لعبد الجليل:

ـ أيوه يا (شبه جملو) عارفنك بوليس سري، لكن أقول لك قولة، بلد عميانة، ما بتقدر المواهب. وأقولك تاني بلد إنعدمت فيها حرية التعبير.

وضجّ المقهى بالضحك والتصفيق، وانتظر بابكر حتى هدأ المقهى وأردف قائلاً:

ـ أيوه بلد إنعدمت فيها حرية التعبير ......
 
أعلى