إدوارد وليم لين - 28 - المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم في النصف الأول من القرن التاسع عشر.. للأستاذ عدلي طاهر نور

تابع الفصل التاسع - اللغة والأدب والعلوم

يلحق بالأزهر في ركنه الشرقي (زاوية العميان) يعيش فيها الآن حوالي ثلاثمائة ضرير فقير، وأغلبهم من الطلبة، على الأوقاف المحبوسة عليهم. وقد عرف هؤلاء بسلوكهم طريق التمرد والعنف والتعصب. وقد حدث منذ زمن غير بعيد أن دخل سائح أوربي الأزهر وشاع أمر حضوره، فأخذ العميان يبحثون عنه صائحين: أين الكافر؟ سوف نقتله! وجعلوا يتحسسون طريقهم إليه للقبض عليه. بينما لم يظهر غيرهم رغبة ما في مهاجمة الدخيل. وكثيراً ما كانوا ينتهجون، قبل تولي محمد علي الحكم، مسلك الطيش والضجيج كلما حسبوا أنفسهم مظلومين، أو كلما أنقص راتبهم في الطعام، فكانوا يخرجون إلى الشوارع مصطحبين بعض الإدلاء مسلحين بالعصى، يخطفون عمائم العابرين، وينهبون محتويات المتاجر. ولم يكد يعين الشيخ القويسني، أشهر علماء الأزهر الحاليين، شيخاً لزاوية العميان منذ بضع سنين، وكان كفيفاً، حتى أوجب جلد كل ضرير هناك، إلا أن العميان ثاروا عليه وقيدوه ثم جلدوه جلداً أشد بكثير مما قاسوه، وأكرهوه أخيراً على ترك منصبه

وكان التعليم مزدهراً ازدهاراً عظيماً في القاهرة قبل دخول الجيش الفرنسي أكثر منه في السنين الأخيرة. وقد عانى التعليم كثيراً مما أحدثه هذا الغزو من الرعب والهرج. وكان يكفي قبل ذلك العصر أن يقوم الشيخ المتخرج من الأزهر بالتدريس لولدين من أولاد الفلاحين المتوسطي الثروة ليعيش في بحبوحة. إذ أن تلميذيه كانا يقومان على خدمته ونظافة منزله وتجهيز غذائه. فكانا وإن شاركاه الطعام يعتبر أن خادمين له في كل آن. فيتبعانه أينما ذهب، ويحملان نعليه (وكثيراً ما كانا يقبلان حذائه بعد خلعه) عند دخوله المسجد، ويعاملانه في كل حين معاملة الأمراء. وكان الشيخ حينئذ يلبس الملابس الفضفاضة والمقلة العظيمة. وكثيراً ما كان المارة يسرعون إليه عندما يمر بالطريق راجلاً أو راكباً طالبين منه الدعاء لهم؛ ويعتقد من تحقق رجاؤه أن البركة حلت به. وإذا مر الشيخ بإفرنجي راكب وجب على الإفرنجي أن يترجل. وإذا ذهب إلى الجزار لشراء اللحم (إذ يرى أن الذهاب بنفسه خير من إرسال غيره) رفض هذا أن يتناول الثمن وقبل يده معتبراً طلب الشيخ شرفاً وبركة. أما الآن فقد انحط شأن هؤلاء الشيوخ حتى يصعب عليهم الحصول على معاشهم إن لم تكن مواهبهم منقطعة النظير

ولا جرم أن علماء المسلمين يعوقهم الدين عن السير في بعض سبل العلم. وقد تفصل الخرافة في أمور اختلف فيها الناس أجيالاً طويلة. وهناك وسيلة غريبة لحسم النزاع في أي موضوع ديني أو علمي أو في أي حادث، أضرب لها مثلاً. فقد قص على إمام الشيخ المهدي المفتى السابق الحكاية التالية: كان الشيخ محمد البهائي، وهو رجل مثقف يعتبره العامة ولياً من أولياء الله، يستمع إلى درس الشيخ الأمير الكبير شيخ المالكية عندما قرأ هذا حديثاً للرسول من الجامع الصغير للسيوطي وهو (إن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة في الجنة) وأخذ يشرح الحديث بعد أن لخص تاريخ الحسن والحسين ملاحظاً أن لا أساس للرأي القائل بوجود رأس الحسين في مسجده بالقاهرة. وهنا قال محمد البهائي: فتملكني غم شديد لهذه الملاحظة لمخالفتها ما أعتقد وما زلت أعتقد، بوجود الرأس الشريف في هذا المشهد. ولكني ما كنت لأعارض الشيخ لشهرته وسعة علمه.

وانتهى الدرس وخرجت أبكي. فلما جن الليل قمت أدعو الله وأبتهل إليه ولجأت إلى رسوله الكريم (ص) متوسلاً أن أراه في المنام ليخبرني بحقيقة الأمر. فرأيتني أسير إلى المشهد الحسيني. فلما دنوت من القبة أبصرت بها نوراً ساطعاً فدخلت فوجدت أحد الأشراف واقفاً بالباب. فحييته فرد التحية وقال: (سلم علي رسول الله). فأرسلت النظر نحو القبلة فرأيت الرسول (ص) جالساً على عرش وعلى جانبيه وقف رجلان. فرفعت صوتي قائلاً: (الصلاة والسلام عليك يا رسول الله) عدة مرات وأنا أبكي. فسمعته (ص) يقول لي: (أدن يا بني، يا محمد) فأخذ الرجل الأول بيدي وقدمني إلى الرسول (ص). فحييته فرد التحية وقال: (جزاك الله خيراً على زيارة رأس الحسين يا بني). فقلت: (يا رسول الله هل رأس الحسين هنا؟) فأجاب: (نعم. إنه هنا) ففارقني الحزن وفرحت وثبت جناني وقلت حينئذ: (يا رسول الله سأقص عليك ما أكده شيخي وأستاذي الأمير في درسه). وأعدت عليه قول الشيخ. فأطرق (ص) ثم رفع رأسه وقال: (إن النقلة معذورون). واستيقظت فرحاً سعيداً ولما ينقض الليل بعد. فعيل صبري بطوله وجعلت أترقب طلوع النهار لأذهب إلى الشيخ فأقص عليه الرؤيا. فلما طلع الفجر أقمت صلاتي وخرجت إلى منزل الشيخ وأخذت أطرق الباب بشدة. فأسرع البواب فزعاً يسأل من الطارق؛ فلما عرفني فتح الباب، ولو كنت غيري لضربني. ودخلت الفناء وأخذت أصيح: (سيدي! يا سيدي!) فاستيقظ الشيخ صائحاً: (من هذا)؟ فأجبته: (أنا تلميذك محمد البهائي) فتعجب الشيخ لحضوري في هذا الوقت وقال: (يا الله! ما هذا؟ ما الخبر)؟ فقد ظن أن حادثاً عظيماً نزل بالناس. ثم قال: (انتظر حتى أقيم الصلاة). فظللت واقفاً حتى نزل الشيخ إلى الغرفة السفلي ودعاني إلى الصعود. فصعدت دون أن أحييه أو أقبل يده تحت تأثير الرؤيا، وإنما قلت: (إن رأس الحسين في مشهده بمصر، لا شك في ذلك). قال الشيخ: (وما دليلك على ذلك؟ وإذا كان مستندك صحيحاً فأرنيه). فلقت: (ليس هذا في كتاب). فقال الشيخ: (هل رأيت رؤيا)؟ فرويت له الرؤيا وعرفته أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرني أن الواقف بالباب هو علي بن أبي طالب، والواقف على يمين العرش أبو بكر وعلى يساره عمر بن الخطاب؛ وأنهم حضروا لزيارة رأس الإمام الحسين). فوقف الشيخ وأخذ بيدي وقال: (هيا بنا نزور المشهد الحسيني). فلما دخل القبة قال: (السلام عليك يا أبن بنت رسول الله. آمنت أن رأسك الشريف هنا بعد الرؤيا التي رآها هذا الرجل، لأن رؤية الرسول في المنام حقيقية؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي). وحينئذ قال الشيخ: (لقد آمنت أنت وآمنت أنا ولا يمكن أن تكون هذه الأنوار خادعة)

وقد أثار حديث الرسول صلى الله عليه وسلم السابق مناقشات أخرى بت فيها بالطريقة نفسها، أي بالرؤيا. ولا يجرؤ أحد على مجادلة صاحب الرؤيا إذا كان ذائع الصيت في العلم والورع

يفيد ما أشرت إليه في بدء هذا الفصل أن بالقاهرة عدة علماء في وقتنا الحاضر، وأن بغيرها من المدن المصرية بعض العلماء الآخرين. ويعتبر الشيخ حسن العطار وهو شيخ الأزهر الآن أحد مشاهير العلماء المعاصرين. وهو وإن يبلغ في التوحيد والفقه مبلغ بعض معاصريه كالشيخ القويسني خاصة، ضليع في الأدب. وهو مؤلف كتاب (الإنشاء) الذي يعتبر مجموعه فائقة من الرسائل العربية في مختلف الموضوعات، وضعها نموذجاً للأسلوب الإنشائي. وقد طبع هذا الكتاب في مطبعة بولاق. وقد ذكرت أسم هذا المؤلف تنفيذاً لوعد قطعته على نفسي، إذ طلب أن أنوه بمعرفتي له وأن أبين رأيي في علمه ظنا أنني سأنشر في بلدي أحاديث عن أهل القاهرة

وقد أشتهر بحق الشيخ محمد شهاب بجودة أدبه ورقة شعره. وكان أنسه وذكاؤه يجذبان الأصدقاء إلى منزله كل مساء، وكنت أحياناً أشترك في مسراتهم. فكان الشيخ يستقبلنا في غرفة صغيرة مريحة، فيدخن كل منا شبكه، وتقدم إلينا القهوة. وكان حديث الشيخ أعذب ما يقدم لنا. وفي القاهرة أيضاً علماء يتمتعون بشهرة عظيمة في اللغة والشعر. ويستحق الشيخ عبد الرحمن الجبرتي - وهو من مؤلفي القاهرة المتأخرين - أن يشار إليه بصفة خاصة، إذ أنه وضع تاريخاً جليلاً لحوادث مصر منذ القرن الثاني عشر لهجرة. وقد توفي عام 1825 أو 1826 عقب قدومي القاهرة لأول مرة. وتنتمي أسرة الشيخ الجبرتي إلى الجبرت في جنوب شرق الحبشة على شاطئ المحيط، ويدين أهل جبرت بالإسلام، ولهم رواق في الأزهر، ومثل ذلك في مكة المكرمة، وفي المدينة.

لم يعد الشعر الجاهلي يفهم على حقيقته في القرنين أو الثلاثة الأولى للهجرة لغرابة ألفاظه، فمن باب أولى لا نجد الآن من يستطيع شرح هذه النصوص القديمة. غير أن هناك في مصر من تضلع من علوم الصرف والنحو والبلاغة والأدب بالرغم من سيادة التوحيد والفقه في هذا البلد. وقلما عرف علماء مصر تاريخ بلدهم معرفة جيدة، وأقل من ذلك معرفتهم بتاريخ الأمم الأخرى. أما الذين لا يحترفون الأدب من سواد الشعب فمحصولهم الأدبي منحط النوع. ويجيد الكثير من التجار الأغنياء فن القراءة والكتابة، ولكن قل من يخصص أكثر وقته لدراسة الأدب. ويعتبر من حفظ القرآن جميعه أو أكثره، واستطاع أن يتلو قصيدتين أو ثلاثاً، أو يضمن الحديث بعض الأمثال، رجلاً كامل الثقافة. وهناك تجار في القاهرة أميون فيلجئون إلى أصدقائهم ليكتبوا لهم حساباتهم ورسائلهم. إلا أن هؤلاء التجار لا يهتمون بذلك على العموم، فيقومون بعمليات حسابية ذهنية معقدة بسرعة فائقة ودقة مدهشة.

ويخطئ المسيحيون في أوربا في اعتقادهم أن المسلمين أعداء العلم على اختلاف أنواعه تقريباً. والحقيقة أن العلم في الوقت الحاضر تحده حدود ضيقة، فقل من يدرس الطب والكيمياء والرياضيات وعلم الفلك. وتجد أغلب الأطباء والجراحين المصريين حلاقين يجهلون العلم الذي يباشرونه جهلاً مضراً وتنقصهم المهارة فيما يمارسونه.

ويرجع بعض ذلك إلى تحريم الدين تشريح الجسد. إلا أن بعض المصريين الشبان يتلقون الآن دراسة أوربية في الطب والتشريح والجراحة وعلوم أخرى لخدمة الحكومة. وكثيراً ما يرفض المرضى من المصريين كل مساعدة طبية متوكلين على العناية الإلهية أو معتمدين على السحر. ويدرس في هذا البلد علم تحويل المعادن أكثر من دراسة علم الكيمياء الصرف، وعلم التنجيم أكثر من علم الفلك. ولا يستعمل في مصر من آلات الفلك غير الإسطرلاب والربع المقنطر تقريباً ويندر أن نشاهد مرصد (تلسكوب) هنا. وقلما تستعمل الإبرة المغناطيسية (البوصلة) إلا لمعرفة القبلة. ويصنع لهذا الغرض في دمياط بوصلة صغيرة ملائمة (تسمى قبلية) تبين اتجاه القبلة في المدن الكبيرة للبلاد المختلفة. وأغلب المدن بها مزاول تبين الوقت ظهراً وعصراً في أماكن متعددة وفصول مختلفة. ويجهل هؤلاء الذين يدعون علم الفلك الأصول العلمية الصحيحة ويعتبرون القول بدوران الأرض حول الشمس إلحاداً مطلقاً؛ ويستخدمون علم النجوم في حساب التقويم السنوي

(يتبع)

عدلي طاهر نور

مجلة الرسالة - العدد 455
بتاريخ: 23 - 03 - 1942

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى