نجيب محفوظ - الله

تشهد حياة الإنسان منذ النشأة الأولي التي عرفها العلم والتاريخ بأن الدين كان وما يزال عنصرا جوهريًا فيها، يقوم بدوره الجليل في صدر الإنسان وضميره ويمتد أثره إلي ميدان المجتمع الفسيح فلا يدع ظاهرة من ظواهره إلا ويؤثر فيها ويضفي عليها من لونه، ولذلك كانت فكرة الله وهي محور الدين وروحه أكبر ما يثير الشغف ويغري بالإطلاع. وما من مفكر أو عالم إلا وقد تعرض لها وكان له عنها رأى أو اعتقاد ولسنا نحاول الآن أن نسطر موضوعًا صوفيًا نأتي فيه على خوالج قلبنا وما نقدس وما نعبد ولكنا نريد أن نعرض جوانب هذه الفكرة الموزعة بين المفكرين من مختلف المذاهب لنرى ما قدر لها من المعتقدات والآراء.

وقد ذهب المفكرون في تقدير الله ثلاثة مذاهب فمنهم من رآه بعين الفكر والعقل والمنطق وهم جماعة الفلاسفة، ومنهم من عرض فكرته على المناهج العلمية مستعينا بالتجربة والاستقراء وهم علماء الاجتماع، ومنهم من بذل الجهد لبلوغ غايته بالقلب والشعور وهم طائفة المتصوفين.
الله والفلسفة: الفلسفة تؤلف بين أجزاء الوجود وتضمها في وحدة منتظمة القوانين وتضع على قمة هذه الوحدة الله سواء اعتبرته خالقًا أو منظمًا مستقلا عن الكون أو حالا فيه. فلقد تعرضت فكرة الله من بادئ الأمر إلي فرضين جعلا من الفلاسفة طائفتين في العصرين القديم والحديث أولهما وهو مذهب المؤلهة يرى الله جوهرا مستقلا عن العالم

يسمو بذاته على ذاته ويتميز بجوهره عن جوهره ويعلو بماهيته على قوانينه، وثانيهما وهو مذهب الحلول يرى أن الله يحل في الكون ويمتزج به امتزاجًا يمتنع معه وجود خالق ومخلوق، قديم وحادث، فليس يوجد إلا جوهر واحد الأشياء أعراضه وأحواله.
ولنعرض عليك آراء بعض الفلاسفة القدماء من كلا المذهبين. فمن أتباع المؤلهة أفلاطون والله عنده روح عاقلة، تدبر شئون العالم وتسهر عليه واضعة نصب عينيها المثال الأحسن، وهو نشر النظام والتناسق والجمال في كل مكان. ولكن أفلاطون أبقى في ألهه نقصين فجعله منظمًا الوجود لا خالقًا له ورضي أن يكون غير كامل القوة لأن الشر لا يزول كله من العالم ومحال أن يزول كله.

ومن عمداء هذا الرأي أرسطوطاليس وكان يرى أن الوجود أزلي وأن الحركة أزلية، ولكن الحركة ليست علة ذاتها فلابد من وجود علة أولي هي علة كل حركة، وهي ذاتها غير متحركة وهو ما يسميه بالمحرك الأول، وكل ما في هذه العلة كامل وهي الله.
وماهية الله عقل خالص ولكن ما عسى أن يكون موضوع هذا العقل؟ هل يكون الوجود؟ كلا. لأن الوجود ناقص وقد يوجد من الأشياء ما الجهل به خير من معرفته، فموضوعه أجل وأكمل ألا وهو ذاته، فالله عقل يتأمل ذاته أو هو كما يقول ابن سينا عقل وعاقل ومعقول.
والواجب ملاحظته هنا أنه ما دام الوجود أزليًا فاله أرسطوطاليس لم يخلقه وهو إلي ذلك يجهله كما رأينا.

ونستطرد إلي مذهب الحلول وتمثله في القديم مدرستنا الرواقية والإسكندرية. أما الرواقيون فيتصورون العالم كائنًا حيًا ويجعلون له كبقية الأحياء موضعًا للتدبير أو روحًا وهي الله. تمتزج به وتكون وإياه شيئا واحدا، ولما كانت نزعة الرواقيين مادية فقد جعلوا الله روحًا مادية أو نسمة نارية وأن كانت مشبعة بالفكر. وأما مدرسة الإسكندرية فقد آلف مؤسسها أفلوطين بين آراء أفلاطون وأرسطوطاليس والرواقية فقال أن الله ثالوث لأنه مكون من ثلاثة أوجه أبدية. فيوجد الواحد المطلق اللانهائي الذي هو مبدأ كل شئ والذي يعلو بذاته على كل شئ، ومن هذا الواحد يفيض العقل وهو محتوى الأفكار ومجتمع المثل العليا كما تصورها أفلاطون وماهية هذا العقل أن يتأمل ذاته، الرأي الذي يذكرنا برأي أرسطوطاليس، ومن العقل يفيض الروح، وهذه اذا تحركت أحدثت الزمان والمكان والطبيعة وهذه تذكرنا بالروح الرواقية.

وهذه الفلسفة حلولية من حيث أنها لا ترى وجودًا لغير الله، والله لا يخلق الوجود ولكن الوجود يفيض عنه كما تصدر الحرارة عن النار، ولكنها من ناحية أخرى ليست كاملة الحلولية كحلولية الرواقية لأن الله ليس مستغرقًا بأكمله في الوجود وما تزال هنالك وجوه للتمييز بين تلك الأوجه الثلاثة. فإذا عرجنا إلي العصور الحديثة ألفينا تغيرا ظاهرا في فهم فكرة الله يظهر أثره في مذهبي المؤلهة والحلولية. فعند المؤلهة نجد أن الله اتصف باللانهاية ففلاسفة هذا الرأي يرون أننا وأن استطعنا أن ندرك الله إلا أننا نعجز العجز كله عن أن نحيط به، كما يرون أن تحديد صفات الله يأتي من قياس كمالاته العليا على مثال كمالاتنا الإنسانية الناقصة.

كما اتصف بالقدرة على الخلق، فالله القديم كان منظمًا لا تتجاوز قدرته التنسيق والترتيب أما الله الحديث فخالق بمعنى أنه يخلق - كما يقول سنت توماس - من العدم ويحتاج إليه كل الوجود ولكن التسليم بهاتين الصفتين يثير مسائل عسيرة الحل، فالتسليم لله بصفة اللانهاية والأخذ بالاعتراض الذي مؤداه أن لا نهائية الله وكمالاته يجب ألا نتصور

على مثال الصفات الإنسانية يوقعنا في حيرة كبرى لغموض معنى الله وإغلاق أذهاننا عن تصوره فما هي ماهيته؟ وعلى أي مثال يمكن تصورها؟ وإذا كانت طبيعته بهذا الغموض فكيف يمكن أن نضيف إليها أي صفة من الصفات إطلاقًا؟
وأما مذهب الحلول فقد اتخذ أشكالا كثيرة نكتفي بعرض مذهب سبينوزا منها ولعله ابهاها جميعًا يعرف ذلك الفيلسوف الله بأنه كائن مطلق اللانهاية أي أنه جوهر مكون من أعراض لا متناهية كل منها يعبر عن ماهية لا نهائية أبدية، والجوهر هو ما يقوم بنفسه ويدرك بذاته دون حاجة إلي سواه، وعليه فالله هو الجوهر الأوحد وهو يحوي في ذاته كل ما يوجد فهو يمتد في أعراض لا متناهية العدد لا نعرف منها سوى اثنين الفكر والامتداد، ولا نتصور أن هذا الفكر الذي نضيفه لله كفكرنا مركب من عقل وإرادة مثلا وإلا كنا نتصور الله على مثال الإنسان، كذلك إضافة الامتداد إليه ليس تعني أنه جسماني فهذا الامتداد هو الماهية التي لا تتجزأ، وأما بقية الأشياء الجزئية فليست إلا أحوالا من تلك الأعراض الآلهة فالنفوس أحوال من عرض الفكر والأجسام أحوال من عرض الامتداد، وجميع ذلك هو الله فجميع ما في الوجود من أجسام ونفوس هي أحوال من الامتداد والفكر اللذين هما عرضان من أعراض الله اللامتناهية فجسمك حال من عرض من أعراض الله ونفسك حال من عرض من أعراض الله وأنت - في النهاية - الله.

ومما يلاحظ أن الحلوليين لا يدعون مجالا للخلق لأن الله هو الموجود فقط ولكن يبقى سؤال معضل وهو كيف يمتد الجوهر إلي أعراض والإعراض إلي أحوال؟ كيف آل جوهر الله إلي الأحوال التي أنا واحد منها.
هذان هما المذهبان اللذان يتنازعان على تفسير طبيعة الله، وهما ليسا كل ما يقال في الفلسفة الدينية فقد يعترض معترض ويقول فلتكن هذه هي الآراء في الله ولكن ما الدليل على وجوده؟
وبهذا السؤال ننتقل إلي مسألة أخرى هي البراهين على وجود الله
وعندنا ثلاثة أنواع من هذه البراهين
1) براهين ميتافيزيقية تقوم على النظر العقلي البحت.
2) براهين طبيعية تقوم على تأمل الوجود الخارجي.
3) براهين أخلاقية تقوم على الإحساس بالعالم الأخلاقي.
فأول البراهين الميتافيزيقية البرهان الوجودي وأول من لفت النظر إليه سنت أنسلم ثم أتبعه ديكارت فليبنتز فالحلوليون، وهذا البرهان يبدأ من تعريف الله بالكمال المطلق وهو ما يظن القائلون به أنه يوجد في العقل بالبداهة التي تمتنع على كل شك، ويستنتجون من هذا التعريف أن وجود الله (في الواقع) ضروري ويمكن وضعه على الشكل الآتي
لله هو الكائن المطلق الكمال (وهذه حقيقة بديهية لا تحتاج إلي استدلال) الوجود كمال الله موجود لله هو الكائن الوحيد الذي تستدعي ماهيته وجهده أو كما يقول ديكارت ماهية الله تستدعى أن يكون موجودًا كما أن ماهية المثلث تستدعي أن يكون مجموع زواياه = 2 ق
ولو أننا فرضنا أن الكائن المطلق الكمال غير موجود في الواقع لعنى فرضنا أنه غير كامل ولوقع التناقض الملموس. والحق أن تصور كائن كامل شئ وفرض وجوده في الواقع شئ آخر. اذ كيف يجوز أن نتجاوز مجرد التصور العقلي إلي تقرير وجود حقيقي.

وقد يمكن التسليم بمثل هذا الدليل اذا أمكن تصديق فلسفة أفلاطون الواقعية التي تجعل للمثل العليا العقلية حقيقة واقعية في عالم آخر هو عالم المثال فالفكرة العقلية المجردة لا في هذه الفلسفة حقيقة واقعية لا شك فيها. ويوجد برهان آخر ينحو نحو البرهان الوجودي من حيث اعتماده على العقل ولكنه يميل نوعًا إلي المنهج التجريبي، وواضعه ديكارت فهو يقول أنه يجد في عقله فكرة عن اللاتناه وتساءل من أين يمكن أن تأتي لعقله هذه الفكرة؟

أما أن تأتيه عن العالم الخارجي أو من ذاته، ولكن ليس في العالم الخارجي شئ لا متناه، والعقل ذاته متناه محدود فلا يستطيع أن يبدع اللا متناهي، وإذا ثبت أنها ليست من إحدى هاتين الناحيتين فلابد أن الذي خلقها في عقله كائن لا متناه أو هو الله نفسه، تركها في العقل الإنساني كأثر للصانع فيما صنع. والبراهين الطبيعية تقوم على التجربة والمشاهدة المحسوسة وقد ميز كانت منها نوعين. واحد يعتبر العالم ككل واحد وآخر يتوجه بملاحظته إلي حالة من أحوال الوجود مثل النظام ثم يصعد منها مهتديا بقوانين السببية حتى يبلغ الله، والأول هو برهان فلاسفة المدرسين وفحواه أن العالم في مجموعه ممكن الوجود أي أنه من الممكن أن يوجد ومن الممكن ألا يوجد وليس به من ضرورة توجب أن يكون موجودًا أو تمنع تصور عدم وجوده ومن كان هذا شأنه فهو لابد أن أتى عليه دهر لم يكن موجودًا فلو لم يكن يوجد كائن واجب الوجود وقادر على إيجاد غيره لما وجد هذا الوجود الممكن. ويبدو هذا الدليل مقنعًا لأنه يعتمد على التجربة والإحساس ولكن كانت يقف أمام فرض وجود الخالق الموجد لذاته الواجب الوجود وقفة التردد والشك لأنه فكرة مجردة لا تمت إلي التجربة بصلة من الصلات. والثاني يبدأ من مشاهدة نظام الكون العجيب الذي يدل في كل خطوة من خطواته على غائية ظاهرة. ولما كانت الغاية قرينة العقل لأنه هو الذي يقدر ويدبر فلابد أن يكون للكون علة عاقلة.

ولكن مشاهدتنا هذه لا تكفي للحكم على وجود الهة كامل لا متناه، فتجربتنا محدودة وما تعرفنا من غايات الطبيعة ونظامها محدود بها، فهو لا يساوي الاستدلال على آلة كامل لا متناه. وأما البرهان الأخلاقي فيعتمد على وقائع خلقية وظاهرات نفسية ومؤداه أن الشعور الأخلاقي والتمييز بين معاني الخير والشر وحساسية الضمير تشير جميعها إلي وجود آلة مشرع يفسر وجوده تلك المشاعر السامية التي تختلج في الوجدان والتي لا يمكن أن تصدر إلا عن مثله، وهو ليس برهانا بمعناه المنطقي ولكنه اعتقاد قلبي جدير باحترام العقل النظري وأن كان بعيدًا عن ميدانه.
هذا استعراض لفروض الفلسفة عن فكرة الله من حيث طبيعته ووجوه الاستدلال عليه أو هو ذكر لجهد العقل المجرد في محاولاته لمعرفة الله وفي فرصة أخرى نأتي على ذكر آراء الاجتماعيين والصوفيين.


مقال كتبه عام 1936..

بوابة الحضارات | "بوابة الحضارات" تحتفل بذكراه فى مقال كتبه عام 1936.. نجيب محفوظ يكتب: الله

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى