عثمان حامد - هناءَ القلب، إلى القلب

-قفزتْ بنشاط إلى داخل الحافلة مع صديقاتها. كان منغمساً لحظتها في حوار باهت وعادي مع أحد الركاب العاديين، حول سعر التذكرة والزيادات الأخيرة، التي حددها أصحاب الحافلات الصغيرة على نحو مباغت. على كلٍ هو لا يملك إجابة محددة لهذه الأسئلة وتلك الاحتجاجات التقليدية المحفوظة لديه، علاوة على عدم مبالاته ـ فعلاًـ بمثل هذه النقاشات الميتة.

قفزت هي إلى الداخل، مزفوفة بباقة من الصديقات. لم يعرها في بادئ الأمر اهتماماً، غير أنّ عطراً خاصاً ونفاذاً قد غازل أنفه: عطراً نادراً لم يألفه من قبل وسط ركاب هذه الحافلة. ركاب محمّلين بأكياس مكدّسة بالخضار نصف المتهرئ وفواكه ليس من بينها التفاح والعنب على أية حال. عطراً لم يألفه منذ أن عمل سائقاً في خط السوق/حي الميناء، وهو من أفقر الأحياء بالمدينة. حيُ يزكم أنفه بالمناظر القذرة، ومياه البالوعات النافرة والمتدفقة على الدوام، فوق ظهر الشارع المخدد بالحفر والنتوءات. هذا بالإضافة إلى كلمات الركاب البذيئة، وشتائمهم المتلاحقة بشكل يومي، ذلك حينما يتعلق الأمر بطلبهم التوقف في المحطات المفتعلة. فلكل راكب محطته الخاصة به، (يسميها هو بالمحطات المزاجيّة).

إحساسه باللاجدوى يجعله متفهماً لكل ذلك ومستسلماً له، مادامت حياته مدججة بالرتابة والانتظار المبلل بالقلق. إنه ثمة انتظار ما، ثمة أمل يقبع هناك. أحلامه هي الحاضر الوحيد في هذا المشهد البائس. إذ هو لا يملك إلا أمنياته وأحلامه الصغيرة المنثورة في فضاء روحه المنهكة، فهي طاقته الوحيدة التي يخترق بها أحزانه وهمومه الجمّة.

قفزت إلى داخل الحافلة، وانتبذت لنفسها مكاناً وسط صديقاتها/ العصافير، في مؤخرة الحافلة. لم يمضِ وقت طويل على جلستها تلك، حتى تحركت من مقعدها وتقدمت باتجاهه في مقعد القيادة، لتسأله بأدب واضح وهمس شفيف، كأنها تخاف أن تخدش سكون الركاب المتعبين، ذلك السكون المهدود بالتعب والهموم البائنة. سألته بهمس كمن يدلق سراً جليلاً :

ـ لو سمحت! الحافلة دي بتمشي بشارع الصهريج؟

ألتفت إليها مستديراً بوجهه ناحيتها قليلاً، ويده ما تزال ممسكة بتراخٍ وكسل، على عجلة القيادة. وفجأة جنُ جنونه، وانسكبت روحه وفاض جسده عرقاً، حينما رآها هكذا كالوردة متفتحة بجانبه. إنها هي بكامل طلعتها وإشراقها.

ردُ عليها باضطراب وتأتأة :

ـ أيوة ......... أيوة بتمشي !

ـ طيب ممكن تنزلنا هناك مع نهاية الشارع، قبل الفرن؟

ـ أيوة جداً جداً !

رجعت هي مكانها في مؤخرة الحافلة، بينما ظلّ هو مشدوهاً ومحاصراًً بحالة هي مزيج من النشوةِ والإثارةِ والخوفِ.

فتاة بطعم العشق. كانت تضع على أنفها زماماً صغيراً من الفضة، "نفس الزمام الذي أضافه لها في خياله لاحقاً"، معقوفاً ومتدلياً بحذر على يسار أنفها كأنه يود تقبيلها، بل كأنها ولدت به لتبدو هكذا. هناءَ. مكتنزة الروعة والألق. كانت تلبس بطريقة هادئة، وبسيطة، ووضعت على كتفها طرحة شفافة، منزاحة عن رأسها كثيراً، بالشكل الذي يجعل جزءاً من شعرها هارباً، ومتمرداً لينسدل برفق فوق الطرحة.

قال مازحاً، ذات مرة، لصديقه مأمون:

ـ تصور يا مأمون شكل هناء، (وهو الاسم الذي ابتدعه لها من عنده) من غير زمام! أعتقد أنها ستؤول إلي إنسانة أخرى، شقاء ـ مثلاً ـ أو قل...، قل أيّ واحدٍ من فوضى تلك الأسماء، الرائجة هذه الأيام. لأن هذا الجمال والبهاء "الزمامي"، خلقت عليه لتبدو هكذا. هناء من غير سوء. ما أروع اكتمالها وتفجّرها!

وبما يشبه التندُّر واللامبالاة، ردّ عليه مأمون:

ـ سيبك بالله من هذه الأوهام، وخليك واقعي قليلاً. ثم إنك بهذا التحوير تُسِئُ إليها بطريقةٍ ما، إنها مداعبة فجّة، إن كنت لا تدري.

ـ قاطعه متهكماً:

ـ قل ولاء ياخي، حتى لا تزعل، إن كان اسم شقاء هذا يزعجك.

ـ لقد حَيرَتني بهذه "الهناء" . إنها فتاة من الخيال دماً وروحاً، واسماً. إنها أسطورة من وحي أوهامَك التليدة، علاوة على أنِيّ لا أملك الوقت الكافي لمثل هذه التُرهات، والخُرافات، أعترف لك بأنيّ محب واقعي وأموت في عشق الفتيات الواقعيات.

ـ بس، إنت يا مأمون لم تساعدني في التعرّف عليها بشكل جيد. اسمها، تلفونها أو عنوان سكنها، صديقاتها، يعني...

ـ يا أخي، أنا لم أر في الحفل إنسانة بكل هذا الوهج وتلك المواصفات المدهشة. هناك المئات اللائي تردَدن على الحفل في ذلك اليوم. وكل الذين سألتهم ـ أنت ـ عنها، لم يتعرّفوا عليها بأي كيفية من الكيفيات، ربما لأن المعلومات التي ذكرتها عنها غير كافية، بل لأن نصفها في رأسك أنت فقط، في خيالك. هكذا أنت دائماً، تشتتني بهذه الأفكار المشَوّشَة وتزحمني بطريقتك العجيبة في مزج الأشياء والأفكار وتركيب علاقاتها كيفما تشاء.

ـ أظنني رأيتها ذات مرة، بكافتيريا كليّة التمثيل والإخراج، عندما كنت أذهب هناك، لتوصيل مجموعة من الطالبات، أو ربما!

لم يعرفْ كم من الوقت مضى على هيامه وارتباكه ذاك، ليكتشف أنها ستغادر الحافلة ـ بالطبع ـ بعد قليل، وربما لن يراها إلى الأبد. وهاهو ذا شارع الصهريج، لم يتبق عليه إلا بعض الوقتِ. إذن كيف يدعها تختفي بكل هذه المجانية والسهولة، وهي التي هبطت عليه – للمرة الثانية – وكأنها هديّة من السماء! فهو في حقيقة الأمر، قد رآها للمرة الأولى في حفل زفاف شقيقة مأمون، قبل أكثر من عام. رآها بشكل خاطف وسريع، عندما كانت تَهِمُ بالذهاب من الحفل. ولأنها كانت تجلسُ في مكان منزوٍ، وغير بائن شكلها بالكامل، فلم يتمكن من رؤيتها بطريقة جيدة. إلا أن ضوءاً خافتاً، قد تسرب إلى جزءٍ من وجهها، فانبلج كلوحة عريقة لمصور فوتوغرافي بارع وأصيل. ومنذ تلك اللحظة، تأكد له أن هناك شيئاً غامضاً وأخّاذاً قد تسلل إلى نفسه. فهتف في سره: يا لها من إنسانة غير عابرة! إنها متوطنة في مكان ما في حديقة الروح.

فكّر في داخله عميقاً: "كيف لي أن أدعها تفلت هكذا، من غير أن أعرف طريقاً يقودني إليها أو خيطاً يؤكد لي بأنّي سأراها، ألتقيها لأقول لها: أنها أنتِ. هنـاء. أنت التي تجيئينني من رحم حياتي المكدسّة بالفشل، والحماقات والتفاهات. تنبتين فيّ كالشمعة من صلب خيالي وتوقي، بملامحك المغسولة بموسيقى الألق والنقاء، لتعبثي بي ما شئتِ، فهلا أخذتني إلى حيث ملكوتك الدافئ، يا مدى البحر وأفقي.

كيف لي أن أدعك تذهبين هكذا، وأنت تُعبِقين خيالي وحلمي بحضورك المشاغب دوماً! أيّ حيُ هذا الذي يحتضنك؟ هذه الأحياء المفعمة بالحياة، تلك التي تخبئ في باطنها الكنوز البشرية والأسرار العتيقة والفتيات المدهشات مثلك. إنها قطعاً من حي السرايا، لأن هذا الوجه الملائكي، وذاك العطر النفّاذ، لم آلفهما طوال ثلاث سنوات، هي عمري الذي عملته بهذا الخط. لماذا لا أعمل في خط السرايا/ السوق؟، ربما هي من حي الميناء نفسه! إذن من الأفضل أن أقترح على نفسي خطاً دائرياً؛ وهذا ليس مجازاً؛ ألم يقل لنا أستاذ الهندسة التحليلية بالمدرسة الثانوية أن الخط المستقيم نفسه آيلٌ إلى دائرة، في نهاية الأمر، شأنه في ذلك شأن كل خطوط الكرة الأرضيّة؟، مع أنيّ لم أكن أفهم في ذلك كثيراً. والحق أنيّ كنتُ لا أستسيغ مدرس الرياضيات، ربما لهذا السبب كرهتُ كل ما جاء به. ياالله........ وما علاقتي أنا بهذه الفلسفة وكل هذه التعقيدات والحذلقة الطائشة . إذن سأقترحُ على نفسي خطاً دائرياً يجوس المدينة من كل الاتجاهات، من الشرق إلى الغرب، ومن القلب إلى القلب".

لم يتبقَّ من شارع الصهريج غير دقائق، وهو مبعثر، مضطرب، وعشرات الحيل والأفكار تتقافز برأسه، من غير أن يقتنع بوجاهة إحداها. جميعها تتمركز حول فكرة رئيسية، حميمة، واحدة: كيف له أن يضمن بقاءها داخل الحافلة، مزيداً من الوقت، حتى يتسنّى له حبك خيط يجاذبها به أطراف الحديث ويتعرف به عليها.

فكّر – مثلاً – في أن يعطل محرّك الحافلة لبعض الوقت، ليدّعِي محاولة إصلاحه، أو أن يختار طريقاً آخر ملتوياً وأطول. تأكد في داخله مليّاً أن كل هذه الحيل الهشة والماكرة، لن يكون لها – في الحقيقة – تأثير وجدوى، من غير معرفته المسبّقة بها. أي أنها ستذهب أدراج الحسرة والخيبة المتجذرين في داخله منذ أن تَفَتَّح على معنى الحياة. أحسّ بالدوار والغثيان، وفوضى عارمة قد دبّتْ في جسده، كأنّ أوصاله قد تفككت، أنتابه إنهاك مفاجئ كحالة من ينتظر حدثاً استثنائياً ومهماً في حياته، نَسِي عالم الركاب والحافلة، شعر برغبة ملحة في الذهاب إلى أقرب مرحاض! وبينما هو في حالته تلك، مسمّراً على عجلة القيادة، صاحتْ هي وصديقاتها من مقاعدهن في مؤخرة الحافلة:

ـ بالله نزّلنا هِنا. هِنا.

وأردفتْ هي:

ـ شكراً يا أخي، نحن خلاص وصلنا.

نزلتْ صديقاتها أولاً. قفزتْ كل واحدة منهنَّ خارج الحافلة كسربٍ من الفراشات في كرنفال السحر والجمال. ونزلتْ هي.

نزلتْ واختفتْ عن نظره فجأة ـ ربما إلى الأبد ـ في غابة الزحام، وحقيقة الواقع ومراراته. بينما ظلّ هو فاغراً فمه، ومسمّراً على عجلة القيادة.



عثمان حامد

أمستردام 2004

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى