رسالة من دوستويفسكي إلى أخيه، من قلعة بطرس وبولس ( سجن الباستيل القيصرى الشهير)

تاريخ: 22 ديسمبر 1849

أخى يا صديقى العزيز!

لقد حُسم مصيري! لقد أدانونى بأربع سنوات من الاشغال الشاقة فى سجن سيبيريا. وبعد الخروج من السجن سوف اصبح مجندا محروما من الحقوق المدنية بما فيها حق الكتابة لمدة ست سنوات.. سوف اروى لك القصة من أولها. لقد نقلونا الى الساحة العامة لسجن القلعة. وهناك قرأوا علينا حكم الاعدام. ثم أمرونا بتقبيل الصليب
وكسروا سيوفنا فوق رؤوسنا باعتبار اننا انتهينا. وبعدئذ اغتسلت غسلة الموتى، ثم ألبسونا الاكفان يا أخي. وصفّونا ثلاثة، ثلاثة على الجدار تمهيدا لرمينا بالرصاص. كان ترتيبى السادس، وكنت انتمى الى الوجبة الثانية التى سينفذ فيها حكم الاعدام. ولم تبق لى الا دقيقة واحدة لكى أعيش. فى تلك اللحظة فكرت فيك يا اخي، فى اللحظة القصوى التى لا تتجاوز الثوانى كنت انت وحدك فى خيالي. وعندئذ عرفت الى اى مدى أحبك يا أخى الحبيب.
ولكنى فى آخر ثانية قبيل التنفيذ دُقت الطبول وأعلنوا عن العفو الملكى الذى وهبنا الحياة من جديد!.. هل تستطيع ان تتصور تلك اللحظة؟ من يستطيع ان يتصورها؟ ولكن على الرغم من كل ما حصل لى فلم أفقد الشجاعة ولا الأمل. الحياة فى كل مكان هى الحياة. الحياة موجودة فى داخلنا وليس فى العالم الخارجي.
لا تبكِ على يا أخي، ارجوك لا تبكِ.. قَبّل زوجتك واطفالك وتحدث لهم عنى لكيلا ينسوني. فربما التقينا يوما ما.. لم اشعر فى اى يوم من الايام بمثل هذا الفنى الروحى الذى يغلى فى داخلى كالمرجل. ولكن هل سيصمد جسدى على المحنة؟ هذا هو السؤال. انى ارحل وانا مريض. ولكن لا بأس، خلها على الله... لا تخف يا أخي. فقد تحملت كثيرا من المصائب فى حياتي، ولم يعد هناك أى شيء يخيفني. ليكن ما يكون.. فى أقرب فرصة سوف أعطيك من أخباري.
هل من المعقول الا أكتب شيئا بعد الآن؟ هل يمكن ان تنتهى حياتى الأدبية وانا لا أزال فى بداية البدايات؟ آه يا أخي! كم من الصور المعاشة والافكار سوف تموت فى رأسي، سوف تتبخر الى غير رجعة اذا ما حصل ذلك. نعم انى سوف أموت اذا ما مُنعت من الكتابة. اكتب لى يا أخى كثيرا. اكتب حتى عن الاشياء التافهة، وبخاصة الاشياء التافهة، العادية، اليومية. فأنا سأكون فى المنفى بعيدا عن الحياة. مفصولا عن الحياة.
ولكن بحق السماء لا تبك. لا تبك على يا أخى لا تبك.. اعلم انى لم افقد الشجاعة ولم يتخل عنى الأمل حتى فى أحلك اللحظات قبل لحظة الاعدام بقليل كنت أعلم ان خبر اعدامى سوف يقتلك فى أرضك.. ولكن الآن تجاوزت هذه النقطة، ولم يعد هناك من خوف. انى أولد من جديد. لا يعرف معنى الحياة الا من فقدها أو أوشك على فقدانها. ما ان أعود الى الماضى حتى افكر بكل الوقت الضائع سدى. افكر بلحظات البطالة والعطالة والضلالات والفرص التى راحت.. كم اخطأت بحق نفسى وروحي.. عندما افكر بكل ذلك اشعر بنزيف دام فى قلبي. الحياة عطية، الحياة هدية ثمينة جدا ولا نعرف قيمتها الا عندما نفقدها أو تصبح مهددة فعلا. الحياة سعادة. فى كل دقيقة يوجد قرن من السعادات.. آه من طيش الشباب! والآن اذ اغير حياتى اشعر وكأنى أولد بصيغة أخرى».


(1854)

* نقلا عن بوابة الحضارات
بوابة الحضارات | "حلم رجل مثير للسخرية" مذكرات من داخل سجن دوستويفسكي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى