مريم عبدالعزيز - فارس الظل الحزين "دون كيخوتة".. قصة قصيرة

تسير فى الممرات التى تطل على الساحة بشبابيك متتالية تكشف أركان الساحة بشكل بانورامي، تتابع بشغف المسيرة، ليست تقصد المسيرة فى حد ذاتها ولكنها تراقب البطل الذى يهتف فوق الأعناق، المظاهرة كالحياة فيها من يسير مع موجها الهادر وفيها من يسطع نجمه فيحمل على الأعناق بصوت جهورى ومهارة فى نظم الشعارات.
دخلت الجامعة فى آوان لم يكن للنشاط الطلابى فيها سبيل، يطارد خيالها مشاهد من حياة أبيها الجامعية، طالب يسارى منضم لإحدى التنظيمات الصغيرة يتظاهرون، يتناقشون، يعلقون على الأحداث يطاردهم الأمن فيعتقل بعضهم، تبحث عن بطل ترى فيه صورة للمناضل السبعينياتى فى الألفية الجديدة حيث الأحداث المحلية فيها بعيدة كل البعد عن تظاهرات الطلاب فى الجامعة، تقع عيناها عليه وهو ينظم الصفوف يتقدمها يهتف فيهم فيرددوا خلفه يتلقى ضربة من جندى عندما يحاول اجتياز الباب الخارجى ، تنضم أحيانا بدافع التعاطف مع القضية ولكنها حين تفكر فى الأمر على نحو مختلف تقول ماذا يضير أمريكا إذا تظاهر الطلاب فى بلاد العرب اعتراضا على غزو العراق، ثم ماذا يضير الأمن إن كان سبب المظاهرة لا يخص أحداثا داخلية.
تفكر فى الاقتراب ثم تتراجع، لا تدرى إن كان التراجع خوف من الصد أم أنه عدم اقتناع بتلك التركيبة التى تحاول أن تجمع الضدين يمين ويسار، شاب من خلفية ريفية ينتمى لما يسمى فى الجامعة بالتيار الإسلامى كمسمى مطاط يضم كيانات مجهولة يجمعها شاغل واحد، وفتاة ذات مرجعية يسارية تصدق أبيها أحيانا وتظنه مدعٍ كباقى الآباء أحيان أخرى، لم يكن أبيها يدعى أنه الأول على أقرانه كما هو متفق عليه ضمنيا بين الآباء ولكنه كان يدعى تاريخا من النضال الطلابى فى عصره الذهبى يتنافى فى نظرها مع الحال الذى تراه عليه، إذ كيف يتحول من زعيم طلابى لمواطن مستأنس يتمدد على الأريكة يقلب قنوات التلفاز فى المساء وفى النهار يذهب للعمل ليؤمن لأبنائه أولويات الحياة مع هامش ضئيل من الرفاهية، لأجل هذا كله اكتفت بمراقبته عن بعد طوال سنوات الدراسة ثم مضى كلٌ فى سبيله.
اليوم تركت سيارتها عند أقرب محطة مترو لمنزلها لتستخدم المواصلة الأسرع فى جوف القاهرة، تعلم أن السيارة وإن كانت نعمة ولكنها فخ فى أحيان كثيرة لذا تحاول تفادى ذلك الفخ خاصة إذا كانت قاصدة مثلث برمودا كما اعتادت أن تسمى المنطقة الواقعة بين ميدان التحرير ورمسيس والسيدة عائشة، تهبط السلم فى مقاومة للتدافع ثم تدرك عدم جدوى المقاومة فتترك قدميها للتيار.
يتحرك الناس فى المترو فى كتل صعودا وهبوطاً، دخولا وخروجا هكذا اتجاه الأغلبية يسيطر على وجهة الكتلة، ديمقراطية بشكل ما جعلتها تركب العربة المختلطة بدلا من عربة السيدات، لم تنزعج فالوضع فيها على ما يبدو أفضل من الأخرى، اتخذت ركنا وأسندت ظهرها عليه محتضنة حقيبتها وأخذت تقلب فى وجوه الرجال على المقاعد، لا أمل فى أن يقوم أحدهم بحركة بطولية ويقول لها: "استريحى يا مدام"، توقفت عند أحد الوجوه ربما تعرف ذلك الرجل، أغمضت عينيها لتبحث فى ذاكرتها عن ذلك الوجه حتى وجدت صورة مشابهة ربما لم تكن متطابقة تماما إذ ازداد الوجه استدارة بينما اختفت الرقبة فى حضور طاغ لترهلات اللُغد، مرة أخرى تتردد فى الاقتراب، تفتح عينيها لتجده يهبط مع الكتله الهابطة غير محمول على الأعناق بانحناء فى قامته التى كانت تظنها أطول من ذلك.
لم يمهلها الوقت لتتأكد إن كان هو نفس الشخص أم لا، ربما التدافع فى ممرات المترو ذكرها بالتدافع فى المظاهرة لذلك لم تطفو فى ذاكرتها سوى صورته، حدثت نفسها أن الأبطال فى مظاهرات الجامعة ليسو أبطالا فى الحياة أو ربما مواجهة الحياة كمباراة فى رياضة الأيكيدو لتكسير العظام ينسحق الأبطال أمامها، اليوم فقط تدرك أن أبيها لم يكن مدع، اليوم تذهب إليه فى المساء تعد فنجانا من القهوة وتستمع لحكاياته بوعى مختلف.


* ملحوظة
قصة (فارس الظل الحزين "دون كيخوته") من المجموعة القصصية "من مقام راحة الأرواح" للقاصة مريم عبد العزيز.


* عن بوابة الحضارات
بوابة الحضارات | قصة قصيرة.. فارس الظل الحزين "دون كيخوتة"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى