بغداد أحمد بلية - الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية وأسباب تفردها

عانى الأدب الجزائري الحديث و بخاصة الرواية كثيرا من مشكلة الترجمة، فإذا كانت الظروف السياسية التاريخية مانعا في ترجمة الإبداعات الأدبية إلى اللغة العربية في عهد الاستعمار، فإن مرحلة ما بعد الاستقلال كانت مليئة بتباشير التغيير و الارتقاء. عانى الأدب الجزائري الحديث و بخاصة الرواية كثيرا من مشكلة الترجمة، فإذا كانت الظروف السياسية التاريخية مانعا في ترجمة الإبداعات الأدبية إلى اللغة العربية في عهد الاستعمار، فإن مرحلة ما بعد الاستقلال كانت مليئة بتباشير التغيير والارتقاء. بيد أن الحركة الأدبية أخذت منحى جديدا، ركيزته الفصل بين الكتابة باللغة الفرنسية و الكتابة باللغة العربية، و هذا سار الإبداع في مسارين مختلفين الأول ينهل من الآداب الفرنسية وينسج على منوالها… يحاول إثبات تميزه بالمضامين و لكن يبقى أبدا حبيس اللغة الفرنسية ، وبالتالي حبيس الانتماء، أما الثاني فيحاول الإسهام بطريقته الخاصة في تطور الرواية العربية. كان من الممكن جدا الاستفادة من الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية لتطوير الرواية المكتوبة بالعربية، بترجمة إبداعات الروائيين الرواد أمثال مولود فرعون ومحمد ديب ومولود معمري ومالك حداد وأسيا جبار إلى اللغة العربية، و انتشار النسخ العربية عند شرائح القراء بطريقة تمكنهم من الاطلاع عليها بصفة دائمة بإعادة النشر كلما ازداد الطلب عليها.
فنحن لم نعايش مغامرات دون كيشوت للإسباني سرفنتاس بلغته الأصلية ، و لم نعرف أعمال الروائيين الروس أمثال فيودور دوستويوفسكي و لا غوغول و لا ماكسيم غوركي أو ألكسندر سوليتسين و شولوكوف بلغتهم الأصلية ، و لكن الترجمات الفرنسية السائدة عندنا هي التي مكنتنا من التعرف على الأدب الروسي و كذلك الأدب الأنجليزي كروايات ولتر سكوت التاريخية أو شارل ديكنز الواقعية أو إميلي برونتي و شارلوت برونتي او جورج صاند أو جيمس جويس الإرلندي، وحضر الأدب الأمريكي بغير لغته ، مع روايات فيتزجيرالد و جون شتنبك و إرنست همنغواي، كما اطلعنا على الأدب الإيطالي مع جيوفاني فيرجا و ألبرتو مورافيا و إيناسيو سيلوني، و لا ننسى الأدب الألماني مع غوته و فرانز كافكا ..
إن الإصرار على تداول إبداعات الروائيين الجزائريين باللغة الفرنسية جعل الهوة تتسع بين المبدعين الجزائريين ، وعوض أن تتأخر الرواية العربية إلى غاية السبعينيات من القرن العشرين لتعرف أول رواية ذات حبك فني جيد متمثلة في اللاز لطاهر وطار وريح الجنوب لعبد الحميد بن هدوقة كان من الممكن الاستفادة من التجربة الفنية لكتاب جزائريين كتبوا باللغة الفرنسية ، و بالتالي يكون تطور الرواية أكثر نضجا من مساره الحالي .
لم يهمل المهتمون بشؤون الأدب ترجمة روايات الخمسينيات و الستينيات من القرن الماضي فقط ، و إنما غضوا الطرف تماما عن الروايات السابقة لتلك الفترة، روايات لم يكتب لأصحابها معايشة الثورة أو الانضمام إليها .
وراح الكثير من مؤرخي الأدب يراهنون على محمد ديب و مولود فرعون و مولود معمري على أنهم رواد الرواية الجزائرية ، و يحددون سنة 1950 على أنها البداية الحقيقية للرواية في الجزائر ،غير أن الكتابة الروائية سبقت ذلك التاريخ بأزيد من نصف قرن.
ظلت جل تلك الإبداعات حبيسة أدراج المكتبات العتيقة ، لا يتداولها إلا المتخصصون ، و لم تعرف طبعا جديدا منذ صدورها أول مرة ، بينما نجد نصوصا من الأدب الفرنسي و الإنجليزي تعود إلى القرون السادس عشر و السابع عشر و الثامن عشر يعاد طبعها في حلل بهية ، حتى و إن كانت ضعيفة السبك ركيكة الأسلوب، فأهميتها التاريخية سبب معقول لنشرها ورواجها.
من بين الروائيين الرواد نجد شكري خوجة صاحب رواية ” العلج أسير البرابرة ” المطبوعة سنة 1929 بدار أراس للنشر بباريس ، إسم و رواية لا نسمع لهما ذكرا إلا في كتب تاريخ الأدب ، و لكن المترجمة سامية سعيد عمار منحت المؤلف و روايته حياة جديدة بترجمتها إلى اللغة العربية، فهذه الترجمة قد تمكننا من التعرف أكثر على نص روائي يعود إلى الثلاثينات من القرن الماضي ، بغض النظر عن قيمته الأدبية ، فإن أهميته تكمن في التأريخ للرواية الجزائرية.
حال رواية شكري خوجة هي نفسها حال روايات كل من ابن رحال و سليمان بن براهيم و نصر الدين دينه أو أحمد بوري و القايد بن شريف و عبد القادر الحاج حمو و محمد ولد الشيخ و غيرهم .. روائيون لم يعاد نشر رواياتهم و لم تترجم إلى اللغة العربية ، ما عدا محمد ولد الشيخ الذي نشرت روايته ” مريم بين النخيل ” سنة1984.
أثارت الرواية ذات الرسم الفرنسي في الجزائر نقاشا حادا منذ عقود من الزمن ، لا يكاد يهدأ حتى يستثار من جديد ، كما أن رحيل محمد ديب سنة 2004 ، بعدما فقد الأدب الجزائري مولود فرعون و كاتب ياسين و مولود معمري و مالك حداد و من المتأخرين رشيد ميموني ، كان سببا في نبذ الخصومات والنظر إلى الظاهرة الأدبية بنوع من الموضوعية.
يجب التاكيد على أن الكتابة الروائية فن جديد في الأدب العربي ، منبعه الآداب الأوروبية ، إذ كانت الرواية في القرنين السابع عشر و الثامن عشر وسيلة للتسلية من خلال العجائبية الخيالية و روايات الفروسية ، ثم عرفت أوروبا ضمن منطق التطور الإجتماعي والسياسي و الفكري الرواية الرومانتيكية مع جان جاك روسو و سننكور و لاكلو و فكتور هيجو، ثم ظهرت الرواية الواقعية في القرن التاسع عشر مع بلزاك و زولا و فلوبير وكذا ديكنز و دوستيوفسكي…
إن الزخم الكبير من الروايات الفرنسية التي تعود إلى القرنين الثامن عشر و التاسع عشر الصادرة في فرنسا و المتداولة في المكتبات ، أو التي أعيد طبعها في دور النشر بالجزائر و منها أسكيرول و شرلو و شاراس و سوبيرون و هومو في الجزائر العاصمة أو دار شازو و بلازا و فوك بوهران أو دار بوي بقسنطينة، وكذا إبداعات المستوطنين أنفسهم كانت الزاد الذي تغذى به بعض الجزائريين في مطلع القرن العشرين، بعدما فرضت عليهم السلطات الفرنسية التعليم باللغة الفرنسية ، و حظرت التعليم باللغة العربية ، كما سعت إلى محو كل أثر للشخصية الوطنية و بخاصة ما تعلق بالدين الإسلامي ، و في غياب التواصل مع الشعوب العربية المجاورة لم يجد المثقفون الجزائريون آنذاك إلا تقليد الأدب الفرنسي ، سواء في أشعاره أو كتاباته النثرية بداية بالمقالات التي كانت تنشر في المجلات و الصحف التي أخذت تعرف الوجود، ومنها الشبان الجزائريون (وهران 1904 ) والهلال والإسلام والراشدي والحق ( بين 1904 -1912 ) و كلها صحف مزدوجة اللغة .
ويتفق النقاد على أن الرواية المسماة كولونيالية لم تبلغ مكانة الروايات الفرنسية ، بل كانت ضعيفة الحبك، يطرح أصحابها أفكارا مسبقة نابعة من تفوق الجنس الأوروبي و تخلف العربي ، يسيطر عليها رأي المؤلف و ينعدم فيها التحليل الدقيق للشخصيات الروائية كما يبدو جليا العنصر التعليمي فيها.
وكان لزاما على بعض الجزائريين ممن أحسوا أنهم يمتلكون القدرة على التعبير بلغة المستعمر أن ينسجوا على نفس منوال تلك الروايات السائدة في بيئتهم على سبيل التقليد ، و بعضهم حاول إظهار براعته في ممارسة الكتابة بلغة المستعمر. وهكذا نشر أحمد بوري رواية متسلسلة في جريدة الحق و هي مسلمون و نصرانيات (1912)ثم تبعه القايد بن شريف و روايته القومي أحمد بن مصطفى (1920) ثم عبد القادر الحاج حمو الذي ألف زهرة زوجة المنجمي (1925)و تليها العلج أسير البربر لشكري خوجة، ولا ننسى بعض المحاولات الشبه قصصية مثل ” إنتقام الشيخ ” لابن رحال(1891) أو العمل الثنائي بين سليمان بن براهيم و نصر الدين دينيه ” خضرة فتاة من أولاد نايل ” (1910) .
أما روايات ما بين الحربين العالميتين فليس لها ما يميزها من الناحية الفنية ، و منها رواية ” عيسى الزهار ” لمحمد سيفي (1945) و ” بولنوار ” للإخوة زناتي (1945 ) و” ليلى “لجميلة دباش (1947 ).
وفي تلك المرحلة أثارت انتباه القراء رواية متميزة و هي ” مريم بين النخيل ” للروائي محمد ولد الشيخ نشرتها دار بلازا بوهران 1936 .
ويبدو أن أصحاب تلك الروايات الرائدة من دعاة الإندماج ، لذلك لا نكاد نعثر على آثارهم في المكتبات الجزائرية ، ما عدا رواية محمد ولد الشيخ التي أعيد نشرها سنة 1985 ، مما مكننا من الإطلاع على محتواها، والتعرف على مقدرة صاحبها في التحكم في فنيات السرد.
لم تبلغ الروايات الجزائرية الأولى درجة فنية من السرد القصصي ، و هذا لاعتمادها على تقليد الروايات الكولونيالية من جهة ، و لكون الرواية كانت فنا قصصيا جديدا على الأديب الجزائري، بل العربي بعامة، وبما أن الجزائري لم يتمكن من الإطلاع على النماذج العربية في فن الرواية فكان لزاما عليه التقليد ، و هذه حتمية أدبية .في حين تمكن الشاعر الجزائري بسهولة أن يبعث و يبدع في فن الشعر لعراقته ، فبالرغم من مضايقات المستعمر إلا أن الشاعر وجد ركيزة أدبية اتكأ عليها ، فكان تقليد القدامى أولا ثم بدأ التجديد في الأشكال التعبيرية الشعرية، أما الرواية فلا يمكن لمبدعها أن ينطلق من العدم.
ومع مطلع الخمسينات تغيرت اهتمامات المثقفين و السياسيين ، و بدأت تلوح في الأفق بوادر الإحتجاج والثورة و إثبات الذات ، فكانت أول محاولة من طرف مولود فرعون (1913 -1962 ) من خلال روايته ” نجل الفقير ” 1950 ، الذي صور معاناة الطبقات الفقيرة في المجتمع الجزائري ،يتبعها الأرض و الدم 1953 و الدروب الصاعدة 1957 ، و يظهر محمد ديب بعمل متميز ” الدار الكبيرة ” أولا ثم ” الحريق ” 1954 و بعده ” النول ” 1957، وفي نفس المرحلة يقابلنا مولود معمري بعملين هما “الربوة المنسية ” 1953 و” إغفاءة العادل”1957 ، أما كاتب ياسين فيبدع ” نجمة ” (1956)، ثم نجد روائيا آخر يظهر على الساحة الأدبية هو مالك حداد بروايته ” الإنطباع الأخير ” 1957 ، ثم ” سأهديك غزالة ” و التلميذ و الدرس ” .بينما نجد صوتا نسويا فريدا يفرض نفسه من خلال ” العطش ” 1957 و “المتسرعون “1957 للروائية أسيا جبار .
كل هذه الأعمال الروائية بلغت درجة من الإتقان في السرد ، و التحكم في البناء الدرامي للفن الروائي ، فلا عجب في ذلك إذ تمكنت الرواية الكولونيالية من بلوغ درجة عالية من العمق مع روائيين مشهورين أمثال إيمانويل روبلاس” مرتفعات المدينة ” 1948،و كذا ألبير كامي (1913 -1960) من خلال أعماله الخالدة الغريب (1942) والطاعون (1957).
و قد التقى كل من محمد ديب بألبير كامي و إيمانويل روبلس في شتاء 1948، و اتفقوا على إنشاء مجلة كراسات أدبية ، و التقى مولود فرعون بإيمانويل روبلس ببوزريعة بالجزائر العاصمة وهو الذي شجعه على الكتابة.
ومن ناحية أخرى فإن الرواية تطورت في أوروبا و بخاصة فرنسا و كذلك في الولايات المتحدة و أمريكا اللاتنية ، و كان لهذا تأثيره الخاص على كتاب الرواية في العالم ، فقد مزج كل من إرنست هيمنغواي ( لمن تقرع الأجراس 1948 ) وجون شتانبك ( فئران و رجال 1939 ) بين التحليل الصحفي و السرد الروائي ، و بهذا أصبح التركيز عند الروائي على الأحداث و الوقائع مهما كانت طبيعتها ، و هذا ما جسده بجلاء جورج أرنو ( أجرة الخوف) و هرفي بازان ( الأفعى في قبضة اليد) و( الرأس أمام الجدران) ، و كذلك ميشال دوسان بيار مع( المستحيل) ، بينما يتوجه ميشال سيزبيرون إلى التحقيقات الصحفية فيحولها إلى روايات مثل (الكلاب التائهة بدون قيد ) بحيث صور مصير الطفولة الجانحة .و هكذا أخذ الروائيون يعرضون عن قصص الطبقات الغنية و المتوسطة من مجتمعاتهم ليتحولوا إلى الطبقات الفقيرة و البائسة مثلما نجد عند جون شتانبك (عناقيد الغضب) و كلدويل ( طريق التبغ )و( أرض الله الصغيرة ).و في إسبانيا يستحضر الروائيون تفاصيل
الحياة القاسية للمحرومين و البؤساء من المجتمع ، من خلال رواية ” الكور ” و الغريق 1939لأرتورو باريا و كذلك دروب الليل لجوان سبستيان أربو و كذلك المتكبرون لجيزوس فرنندز سنتوس ، أما إيطاليا فقد عرفت الواقعية الجديدة التي تتوجه إلى فئات منسية من المجتمع الإيطالي من الفلاحين و الفقراء ، و هكذا كتب ألبرتو مورافيا” إمرأتان” و إيناسيو سيلوني” خبز وخمر” 1937 و كارلو ليفي ” توقف المسيح بإيبولي ” 1945 .
كما كان للتيارات الأخرى أثرها على الروائيين الجزائريين كالتوجه الفني التأملي في مصير الإنسان مع أندري مالرو و فولكنر و بروست و فرجينيا وولف وجون بول سارتر ، و ما .قام به فرانز كافكا من تفكيك الشخصية و فضاء الرواية ، مع دمج الملاحظات الفكرية مع روبير موزيل ، أو تبئير السرد مع دوس باسوس. أو تيار الرواية الجديدة مع ناتالي ساروت وألان روب غرييه.
و لكنه تأثير لاحق ، أي في الستينات و ما بعدها ، أما مرحلة الخمسينات فكانت مرحلة تصوير المجتمع البائس الفقير ، و كان الروائيون يستندون على سيرهم الذاتية ليصبغوا العملية السردية بالإنطاع الذاتي الصادق.
إن الغرض من تحليل ظاهرة الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية ليس قبولها أو رفضها ، أو الإطراء عليها أو نقدها ، و إنما الغرض منه تبيين أن الرواية كفن غربي حديث النشأة في الأدب العربي ، أما تطوره في الرواية المكتوبة بالفرنسية فمرجعه الرصيد الهائل من الروايات الأوروبية منذ القرن السادس عشر إلى غاية الخمسينات من القرن الماضي ، و بالتالي فإن مقارنة تطور الرواية المكتوبة بالعربية التي ظهرت في نهاية الأربعينات مع أحمد رضا حوحو ” غادة أم القرى ” 1947، أو ” الطالب المنكوب ” لعبد المجيد الشافعي 1951 أو الحريق لنورالدين بوجدرة (1957) أو صوت الغرام لمحمد منيع 1967 ، بروايات محمد ديب أو كاتب ياسين أو مولود معمري و مالك حداد فيه نوع من المغالطة التاريخية .

بغداد أحمد بلية
* ناقد جزائري

* نقلا عن المجلة الثقافية الجزائرية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى