أدب المناجم ياسين لمقدم - طريق جرادة

تنطلق بهم المركبة البيضاء في اتجاه الجنوب والشمس لما تزل بعد تتمخض شفقا وراء الهضبة الشرقية لولي الله سيدي محمد الصالح، هم ستة والسابع سائق سيارة الأجرة. كل له غرضه الذي يقطع إليه مسافة تصل إلى الخمسين كيلومترا في نهاية كل أسبوع حيث ينعقد السوق الكبير لمدينة جرادة. لا يزال أثر السهاد يطبع محاجر بعضهم بزرقة داكنة واحمرار في بياض العيون. عالج السائق جهاز الراديو بعصبية بعد أن صار البث متقطعا، ثم اكتفى بإطفائه ليغوص الجميع في صمت مكتفين بالتثاؤب وتعقب المناظر الرمادية المجذبة على امتداد البصر.
الرجل المسن الذي يجلس جنب السائق، منذ أكثر من عقد من الزمن ينتقل بانتظام صباح كل الآحاد إلى مدينة الفحم حيث يلتقي بزملاء المنجم في مقهاهم المعتاد، حيث سيكررون نفس الأحاديث عن ذكريات العمل وعن الخيانة التي تعرضوا لها ممن انتدبوهم للدفاع عن مصالحهم حينما قررت الشركة توقيف العمل وتسريح الآلاف من العمال. ثم يترحمون على من رحل منهم ومن لا يزال جثمانه حبيس الإنهيارات. يتذكر دهاليز المناجم وعتماتها حيث كانت تعتمل في دواخيلهم أحاسيس الرهبة من التهدمات الصخرية والتوجس من أطياف غريبة لا يتبينون تقاسيمها وهي تمرق بسرعة بينهم تعبق بروائح الموت المنتنة، ويصدر عنها شواظ لافح . الطريق أمامه آخذة في الإلتواء فتتداعى إليه صور الماضي الغبشية، تنأى به إلى الزمن المثخن بسواد الفحم في ظلمات بطن الأرض التي لفظت قسرا العديد من الرفاق بكسح دائم. تذكر تقاسمهم للطعام والإدام، إحتجاجاتهم للرفع من الأجور، كرعهم للقناني الرديئة في عطلهم الأسبوعية بصحبة ناعمة. يحمد الله في دواخله على النجاة ولو باعتلال صدري يزيد حرجا مع الأيام.
وإلى يمين العجوز يجلس بائع الملابس المستعملة وقد بعث بسلعته في الليلة الفائتة مع معاونه. يتنقل بين جميع أسواق الناحية ويتحسر دائما على الأيام الذهبية لمدينة جرادة حيث كان يكتفي بسوقها لبيع كل بضاعته إلى العمال. ويعتبره معارفه ذو حظ كبير إذ كان الناجي الوحيد من إنقلاب الزورق الذي دافع الموج العاتي في رحلتهم الشتائية نحو الجنوب الأروبي. انطلقوا والريح رخاء ولكن شاء اليم ما لا يشاؤون ، ولقد صارع الغرق والبرد إلى أن انتشلته يد رحيمة لن ينسى أبدا قوتها وحميميتها. ولم يكن ليطيق القهر في خيام السخرة بالإليخيدو فقرر العودة مكابرا. ومن ورائه يجلس الشاب الذي وضع في صندوق السيارة عدته لخلع وتركيب الأسنان. هو أيضا يرتحل على مدار الأسبوع بين الأسواق. وفي الماضي ولما كان يتعذر عليه الرجوع إلى مدينته خلال الليالي الشتوية الطويلة الماطرة يضطره الحال إلى المبيت بالفنادق الوضيعة، حيث يتقاسم العشرات غرفة فراشها الحصير مع القرادين والحواة. وكلما تزحزح في جلوسه ليداري خذرا برجله لضيق السيارة فاحت من أعطافه رائحة الديوكسيد والتي تجعل الرجل الأصلع إلى يساره يتحسس بلسانه ما تبقى من أضراسه المنخورة. وهو يرتحل إلى وجهته لشراء بعض من لحم الضأن والحوايا المعروفة بجودتها في هذه المدينة المحاطة بالجبال حيث المراعي العشبية. وأما الخمسيني الأنيق الذي يجلس وراء السائق ويكد في الحفاظ على تصفيفة شعره، فلمقصده طعم الغواية. تزحزحوا جميعا في أماكنهم دافعين عنهم الخمول والهواجس بعد أن لاحت لهم الجبال السوداء في أفق المدينة. ولما دخلوها توادعوا بنظرات صامتة إلى لقاء متجدد.


----------------------------------------------
*جرادة : مدينة منجمية بشرق المغرب


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى