شيرين ماهر - خفقةُ بلا مأوى..!! - قصة قصيرة

هكذا كانت كلماته ذات النبرة الرخيمة، وهجاً لا ينطفئ.. وأصداؤه الهادئة المُنغَمة، ولعاً لا نهاية له.. ونفاذ أحاسيسه الخاطفة، ظلالاً حالمة تُسكِر مَن استظل بها، فى حين كان لقاؤها الشغوف معه بمثابة خفقة من نوع خاص، تمنحها إشراقة حياة.. تُسعِدها كلما نبضت.. تُضفى على وجهها "ابتسامة" براقة تُضىء قلبها .. وتمنحها إطلالة متلألأة، كلما فاح عبق التذكُر.
فى الواقع لم يكن صوته المُنساب حولها سوى انعكاساً صادقاً لما اختصته به مُخيلتها من لوحات عشقية منقوشة فى ذهنها وعلى جداريات توقعاتها، وعلى الرغم من القطيعة التى نسجتها السنوات بينهما، سرعان ما تمدد شذاه فى محيطها الحائر دون استئذان، عندما أطل عليها قبيل صدفة تآمرت على قطع مصالحتها مع هذه الجفوة التى سبق وأن ارتضاها كلاهما.
راحت تتساءل خِفية عن ذلك السر الذى اختطفها مع شهيق كلماته الشهى وزفير أنفاسه المُشبَع بندى الحياة، ثم راودتها الإجابة بأنه لا عَجب فى ذلك، فمَن عَشِق، لا يُعلِن توبته مُطلقاً.. وما شهقات المُحبين إلا صياغة فلسفية لعلاقتهم بالحياة، فهناك مَن تهواهم الحياة وتلهث لاستعمار جنباتهم، وهناك مَن تخشى السقوط فى مقابر أجسادهم !!
تحاول ألا تَستغرِق فى تأمُل عينيه التى افتقدت احتوائهما، وتركل الدنيا بخواطرها المتدافعة التى انهمرت على وجدانها لمواساتها.. فهمست لها سراً: " ليس بالامتلاك تَكتمِل الأنصاف، بل أحياناً ما يَقتُل الامتلاك وميض الاكتمال، الذى يشبه نجمة النور المُزيَلة، التى تتمادى فى دلالها، كلما استشعَرت تفردها فى الأفق ".
" يالله .. مازال صوته الأخاذ يحتفظ بقدرته المبهرة على اختصار المسافات الزمنية والمكانية والشعورية ؟ " هكذا ردد قلبها دون أن يتفوه بكلمة.. كان ينجح دائماً فى اجتياز منعطفات الوقت، وتَسلُق قِمم الغياب، وبمجرد أن استقبلت اهتزازات صوته، ذابت معه ذرات البَرَد المُتراكمة على شجيراتها رهن انتظاره الطويل ..!!
كان لإطلالته الروحية على عالمها انعكاسات "أرجوانية"، فدائماً ما راق لها منحه تلك الدرجة اللونية، التى تتوافق مع شخصيته الغامضة، فكم كان جاذباً مثل "حُمرته الداكنة".. شجياً مثل "زُرقَته الخفية".. ساحراً وممزوجاً بـ "العنفوان والوقار" فى آن واحد.
هكذا اكتملت مراسم سطوعه على مراياها، وأخذت تتسارع دقات قلبها على وقع كلماته الحانية المفاجئة التى اشتاقت لأصدائها، وتهافتت أذنيها لاستقبال شدوه الآسر، الذى لم تكن تتهيأ له بعد، فأجمل الأشياء تأتينا بلا موعد وكذلك دون تاهُب.!!
وعلى الرغم من تلك الكواليس البسيطة التى دارت بينهما محض لقاء قدرى بعد سنوات متناثرة، إلا أنها كانت تشبه الاشتعال المباغت، الذى أزاح الستار عن كارثة تنمو فى دنياها المبتورة، التى بدت مكتملة الأركان، لكنها فى واقع الأمر تفقد أكسجين الاشتغال وتزخر بزفير الانطفاء.. تتمرغ فى رماد العزوف وتبحث عن غطاء للروح.. تَمتثِل للنهايات العادية، وتنقب فى ثقة بين ذكراها عن تميمة السعادة.
ولكن مع الأسف يبدو أنها قد تمادت فى أحلامها، ولم تضع سيناريوهات منطقية لمثل هذا المرور العابر.. وبمجرد أن تَسرب صوته متلاشياً من فضائها، مٌنذِراً بانقضاء كواليس اللقاء، استدركت أن خفقاتها المُتعجِلة، كانت حقاً بلا مأوى، وراحت نيران الاشتياق تخمد داخلها وتستكين عند ملتقى الظلال الباردة التى تباعدت عنها برحيله الفاتر.
ظلت تتأمل كثيراً تفاصيل الحالة التى اعترتها، فما كانت سوى استغراق مُخلِص فى الذكرى.. استغراق يخلو من الأهداف وحياكات المستقبل.. استغراق يفقد هويته.. لا ميلاد له ولا ممات، لكنه كاف، كى يَهِبها الحياة فى لحظات الصقيع، وينهى سعادتها الكاذبة دونه.
وبالرغم من الخواء الذى خيم عليها دُفعةً واحدة بعد مغادرته، إلا أن شيئاً ما آسر المكوث إلى جوارها.. تلك الخفقة الراقصة بين دقاتها المضطربة آبت المغادرة معه.. كانت خفقة مميزة، يُمكِن للمارة أن يتسمعوها من شدة تفردها.. كادت أن تَفر من بين ضلوعها، كى تتبَع مَن هجرها وغاب دون أدنى التفاتة.. ذاك الذى عزف لحنها ونظم أنشودتها بدقة متناهية، ثم تلاشى، مثلما تذوب المُزْن بين أحضان السحاب الكثيف، ليتساقط دمعها فى سكون.



* عن
بوابة الحضارات | قصة قصيرة.. خفقةُ بلا مأوى..!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى