إيهاب الورداني - كما يفعل الناس.. قصة

وشوشت له.. فرشت الابتسامة وجهه .. تمددت حمرة الخجل .. كست الوجه الصبوح فاختلط اللونان الأبيض والأحمر في مزيج ساحر .. أعادت ما قالته في نظراتها .. أحس أن الموقف لا يحتمل الهذر .. قال بصوت خافت ممتطيا صهوة الجد :
ـــ خلف الخيمة .. أى مكان .. يمكنك الراحة .
بدت المدينة الحبلى بناسها على غير ما توقعت .. لم تر في حياتها ما ترى في الليلة الكبيرة من كل عام يتوافد الناس تباعا ــ في مجول ــ في الجرن .. من كل القرى المجاورة والبعيدة .. لكنهم فيما يشكلون من دائرة لا يبعدون كثيرا عن بؤرة العين .
( يا للزمان ، تتداخل الدنيا ــ رغم الاتساع ــ في بعضها البعض حتى لتبدو أنها انحصرت هنا ، تحت ذراعك يا سيد )
ـــ ها فيم سرحت .. هيا .
قلت لها حينما لاحظت انشغالها.. لكن نظراتها المستقيمة الجامدة تحولت نحوى فيما يشبه الطلقة :
ـــ والناس !
ـــ مالك والناس .. نحن في مولد .
في المساحة المحصورة مابين كشك الكهرباء والسور المغطاة بحشائش النجيل جلست القرفصاء .. شدت جلباب " سلفتها " وضغطت على شفتها كيما تكبح شعورا يجتاح بدنها .. اعترتها قشعريرة حينما بدأ الماء الساخن يتدفق منها .. قالت كلاما كثيرا كرغاوى الماء المدفوع .. لم يسمع منها سوى صوت الماء الذى انقطع فجأة كأنما قفلت بوابته قوة ما .
ـــ ممنوع يا ستات هنا.. قدام الشريط خدوا راحتكم .
أحدث صوت الرجل خضة ودربكة فأثار مكامن الذعر عند كلتيهما .. بانتا فأرتين لمحتا عيني قط .. كنت متكئا على قفة الزاد منتظرا الشاي الذي طلبته .. قال زوج خالتي ــ وكان ممدا جواري واضعا حذاءه تحت رأسه ــ متجها الي زوجتي :
ـــ خائبة .. كل هذا الفزع من رجل ؟
كانت صفحة وجهها شديدة الاحمرار كفيلة بإظهار ما تعانيه ــ وتخفيه ــ من ألم .. أعرف زوجتي حق المعرفة .. لا يسكتها إلا الشديد القوي .
توالت الصور متشابكة ومتلاحقة تجمعت فيها أحداث عام كامل ..عمر زواجنا .. استطالت قامتها وانفردت .. بان لي لسانها أقصر مما يتبقى .. قلت مداعبا :
ـــ من يراك الآن لا يصدق أنك أنت ..
أذهلني ما رأيت .. ( ما أقرب دمع النساء ! ) حاولت تطييب خاطرها دونما جدوى .. لا بد أن أفعل شيئا .. الكلام في مثل هذه الحالات لا يفيد .. نفضت عن ظهري أعواد القش العالقة .. قالت خالتي :
ـــ لو مزنوقة قدام العفاريت اقعدي .
ردت امرأة أخي :
ـــ السنة الفائتة ركبني الحياء لحد ما انسابت علي .
قلت وكأني أشد على يد زوجتي :
ـــ أصابعكم ليست متشابهة .. امراتي معها الحق .. نحن في زمن كل ما فيه يبحلق بلا حياء .. قال زوج خالتي :
ـــ ذنبكم على جنبكم ، ومن يحمل قربة مقطوعة " تشر " عليه .
من بعيد كانت السماء تستحم في لجة من الأضواء المنبعثة من النجوم المتراصة في تشكيلات هندسية .. خمنت زوجتي أنها الساحة فقلت لها عند عودتنا ــ بعد قضاء حاجتك ــ سنعرج عليها .
التفتنا عند سماعنا صفير قطار زلزل تحت أقدامنا الأرض .. جرت خلفه .. دفقات من الهواء أنعشتنا .. قال زوج خالتي :
ـــ حيلكم .. خطوتان واقعدوا .. ثم أردف : انتبهوا
كانت الأرض موحلة ببقع فاتحة وغامقة كأنها ملضومة بخيط .. حاولت السير علي قضيب القطار .. نظرت ورائي .. بيننا وبينهم أمتار عدة :
ـــ هذا يكفي .
ـــ هم يروننا .
ـــ أكاد لا أستبينهم .
ـــ عند عامود التليفون .
لم أتقدم خطوة واحدة عن ما حددت .. بدأت في خلع سترة البدلة وبنطلونها الرمادي.. وارتديت بيجامتي .. نزلت زوجتي المنحدر قليلا ما بين الحشائش وأعواد البوص .. قلت منبها :
ـــ حذار .. يبدو أنها ترعة .
ـــ ألا تود الاستحمام
قلت علي الفور مع علمي أنها تمزح :
ـــ دائما على جانبي الطريق مصرف .
كنت مستندا على عامود التليفون حين أشار الي بصمت آمر .. علقت الدهشة لساني عندما وصلته .. صرخت زوجتي حين مرق من جانبها ثلاثة.. ( تبينت فيما بعد أنهم أصدقاؤه ) أسقط في يدي كأنما الأرض انشقت وخرجوا .. حاولت التماسك .. أبرز لي كارنيها أزرق مفتوحا .. رغم بصيص النور لم أتبين حرفا واحدا ولا حتى صورته الملونة .. قال بأدب : ماذا تفعل ؟
رمقني الثلاثة بنظرة تحد.. هم أحدهم ناحيتي .. سابت مفاصلي عندما أمسكت زوجتي بذراعي وكأني أتشبث بها قلت :
ـــ عودي حتى تنتهي .
ـــ معك بطاقة ؟
البطاقة في جيبي .. وزوج خالتي وامرأة أخي وخالتي على مقربة منا .. من يدريك أنهم كذلك ؟؟
ـــ ليس معي .
حين سحبني من يدي صرخت زوجتي بعد أن أخفت تحت كمها الغوايش وقبضت بإحكام على السلسلة المتدلية من صدرها :
ـــ زوجي والله العظيم زوجي
اتحه الأربعة نحوها ..
ـــ وماذا تفعلان هنا ؟؟
أطرقت هنيهة .. اقتربت مني .. التصقت .. نادت بأعلى صوتها :
ـــ يا خالة .. يا زوج خالة .. يا فاطمة .. يا سيد ..
تلون وجه زوجتي وأنا أحكي لأمي بابتسامة شاحبة وزوج خالتي يقول :
ـــ فيها أيه .. لو كنتما بجانبنا .. كل الناس يفعلون ذلك ..


* نشرت هذه القصة في مجلة (القصة) يناير 1989م


- منقولة عن موقع
- صدى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى