إبراهيم جاد الله - قلب أم.. قصة

فى غيبتها طوال الليل ومعظم النهار حتى موعد الزيارة وهو يعوى كالذئاب ،ويضرب برأسه كل مايلاقيه كالدببة ، ويعلو صراخه الهائج كالملقى من شاهق وقت سقوطه ، وكالمتربص بنظراته التى لاتستقر وأنفاسه التى لاتهدأ، إن كان ملقى بجوار حائط العنبر من الخارج أم فى الحديقة الصغيرة المفروشة بنجيل مصفر قبل حلول موعد الزيارة اليومى بساعات ، وكالتائه المخذول بأصابع يديه المنفرجة المتباعدة وكفه التى تدعك الأخرى فى توتر وعينيه اللتين بهما انكسار وحول ، فى رواحه ومجيئه ساقطة رأسه على صدره بالردهة المستطيلة بعد انصرافهم .
وكلما يضجر المرضى ومرافقوهم من ضجيجه- وكلهم أحوج لراحة للجسد بلا توتر - يحقنه الطبيب حديث التخرج حقنة الفالينيل ، فينام محمود مهدودا لاتكاد تسمع له أنفاسا ، بينما شخير الآخرين يتناثر هنا وهناك فوق الأسرة، وتنصرف مشرفة العنبر إلى غرفتها ترقد ما تبقى من ليل ثقيل ، ويفرغ المكان من كل ملمح حياة.غير ضربات أجنحة فراشات كبيرة ذات بطون مستطيلة حول لمبة النيون بالعامود الوحيد عند بوابة المستشفى الحديدية ، وأصوات بعيدة واهنة من شرفات لاتزال مضاءة ، وأسنان فئران تقرض كسرات الخبزوقشر البطيخ وبقايا الطعام فى صندوق المخلفات خلف العنبر .
وما إن يلمع أول ضوء من زجاج النوافذ العالية العارية العريضة ،ويتسلل من شقوق طويلة فى أبواب العنابرالأخرى إلى الأسرة حتى ينتفض محمود كالمذعور ، يسحب الأغطية من فوق الأجساد المتهالكة المهدودة بالمرض والحقن المهدئة ، ويجعر من حلقه المفتوح عن آخره كالذئب حين يعوى ،ويضرب الباب برأسه محدثا جلبة تثير ضيق وحنق الكل المفتقر إلى راحة نفس وهدوء أعصاب، ويخرج إلى الردهة المستطيلة التى تفتح أبواب العنابر عليها ، ويضرب بيديه المقاعد الخشبية ، ويرمى جسده الضامر فوق إحداها ممسكا شعر رأسه بعنف ، وداقا جبهته بإحدى قبضتيه صارخا من ألم يفور فى رأسه ويغلى داخل جمجمته .
وما إن ينفتح الباب الرئيسى فى أول الردهة ويطل عمال النظافة برءوسهم وفى أياديهم دلاء الماء ومساحات البلاط حتى ينتصب راخيا ذراعيه بجوار فخذيه ومدليا رأسه على صدره وأنفاسه تعلو وتهبط ، فيطلع لها صوت من منخاره كالنهيج ، فيباشرون عملهم الصباحى متحاشين استئذانه كى يسهل لهم التنظيف ويكتمل، فتمتد أياديهم بالمساحات على البلاط حول قدميه مؤثرين عدم الاحتكاك به ، لينصرف هو بلا رغبة زاعقا نحو الخارج مرميا على أحد المقاعد بالحديقة الصغيرة المواجهة وهو على نفس فعلته.
وعندما يلوح لمشرفات التغذية مرآه وهن يوزعن وجبة الإفطار حتى تبدأ حمرة خجل أنثوى على ملامحهن ، فلحظة دخولهن هى بدء انعتاق لسانه ، وتنفلت منه ثرثرة لاتتوقف طوال نهاره تخمن منها صورة قد يقترب بها خيالك إلى جزء من حقيقة مرضه العصبى، تتوالى قذفاته الجارحة على كل امرأة خلقها الله ، صارخا برأيه عاريا قبيحا ومبتذلا ، وتتوارى المشرفات خجلا رغم تعودهن ذلك منه كل نهار، تتبعهن الممرضات والحكيمات وقت توزيع جرعة الدواء الصباحية على المرضى.
ولما تناقش إحدى الحكيمات مريضا أو مرافقا أو طبيبا ويلمحها يأتى من حيث موضعه صارخا مشوحا بكلتا يديه ، مستغيثا من نار تلهب نافوخه من الداخل ،ويشد شعر رأسه بأصابعه لاطما وجهه بكفيه ، ولاعنا أمه وكل نساء الدنيا وكل امرأة تحادث رجلا غريبا عنها ، فيلقاه الطبيب الفارع الممتلىء العريض الصدر كالعادة ، آخذا رأسه تحت إبطه مهدهدا وغامزا بجانب فمه لممرضة تتبعه ، بيدها حقنه الفالينيل تغرزها بعرق بإحدى ذراعيه ينسحب على إثرها إلى سريره وهو يترنح ، يرفعه إليه من يتصادف وجوده لحظتها لينام على بطنه ، يغط وينفخ من فتحتى منخاره بالوسادة ، يفيق وقد امتلأت الردهة المستطيلة فى الموعد اليومى عصرا بالزوار على اختلاف هيئاتهم ، يلتفون جماعات حول كل مريض ، بينما ينسل هو خارجا إلى الحديقة الصغيرة زائغ البصر ، يركبه هم وقلق وترقب مجىء أمه متأخرة كعادتها ، حاملة أكياس الفاكهة وأطباق الطعام ، مكدودة ، يلمع حزن ثقيل فى عينيها السوداوين ، وتتغضن ملامحها الشابة بألم من أجله وضيق الحال ومشقة الطريق والسفر ، فهى الآتية كل يوم من قرية بعيدة بآخر حدود المحافظة، ليلقاها ، وقد هيأ نفسه فوق فراش من النجيل الأصفر بالبصق تحت قدميه بصوت فيه احتياج وقرف ، وباللعنات ، وحين تحاول أمه مرتجفة تبرير تأخرها الذى يدركه ، يرمى وجهها بكل ما أمامه من طعام وآنية وقوارير،فتنهض مفزوعة كالعادة متنمرة صارخة ومستغيثة بالسماء أن تريحها منه ومن أفعاله وهمه وبلوته ، ويظل هو يلاحقها بأقذع الشتائم التى تخترق شرفها حتى يختفى شبحها خلف البوابة الرئيسة للمستشفى المحاط بالأسوار فيلملم هو ماتناثر بيديه، وينسحب عائدا إلى سريره حتى صبيحة الغد الذى تتكرر وقائع الأمس به وبكل تفصيلاتها.
ولكن حين صرف مسئول النظام بالمستشفى جموع الزوار عند اقتراب موعد انتهاء الزيارة اليومية فى يوم تال ، كان هو لايزال فى وقفته بالحديقة فوق بقعة ناحلة من النجيل المصفر، ومسندا كتفيه إلى شجرة تساقطت أوراقها ، وكانت قد ارتخت عضلات وجهه تماما واستكانت أعضاؤه كلها ، واستقرت إلى هزال وإعياء ، وعينا مليئتان بالدموع تلتهب منهما الأجفان لطول التحديق فى المدى البعيد. فى ما بعد البوابة الحديديةالتى أغلقت وسمع هو صريرها وهو منتصب بوقفته وقد فقد الرجاء أن تأتى أمه هذا النهار، وهى حالة لم تحدث منها منذ جاءت به إلى المستشفى قبل شهرين أو يزيد ، فانسحب يجرجر خطواته وكأن أكياس ملح علقت بها، ودموعه محشورة بحلقه ، وخوف ملفوف بوحشة وحزن يملأ جوفه لينتفض له قلبه ، ويظل مرميا على سريره محدقا فى سقف العنبر لاتطرف له جفن ، ودموعه تخر على جانبى صدغه ، ولم تنفع معه طمأنة كل من اقترب منه ، وإن كانوا شعروا بقليل من هدوء لتوقفه عن هياجه .
ولما تسلل أول ضوء لنهار آخر ، واستيقظ الكل ، وباشر العمال نظافة العنبر والردهة والممر الطويل ، وأنهت المشرفات توزيع الإفطار على المرضى ومرافقيهم ، وأتممن تسليم جرعات الدواء الصباحية ، وامتلأت الردهة عصر هذا اليوم بالزوار كالعادة ، كان محمود لايزال فى رقدته على ظهره فوق سريره ، تأخذه غفوة قصيرة ، يفيق بعدها على دموع تملأ مقلتيه ، ونظراته تحدق فى بعيد ساهمة شاردة ، غائبا عن كل ماحوله من صخب أو تهامس
وفى لحظة مفاجئة ، ساد صمت بين كل الزوار والمرضى والعاملين بعنبر الأمراض النفسية حين لاح مقدمها عند البوابة الحديدية تخطف الخطو ، وحبات عرق خرزية تلمع حول حدقتيها وعلى وجهها المكدور، وفزع يملأ روحها ، بينما تضفى طرحتها السوداء حول رأسهاكثيرا من توجس وخوف وهم ثقيل ، ولما لم تجده بمكان انتظاره لها كما اعتادته ، ارتجف فى صدرها قلب أم، وغمر جسدها عرق ساخن ، لكنه ما إن لمحها من بين دموعه على باب العنبر بالداخل حتى انتفض صارخا يدق جبهته براحة يده ، واختلط نشيجه بدموعه الملحية المتساقطة غزيرة حين كان يأخذها بين ذراعيه ، ويرتمى فوقها على أرض العنبر وقبلاته تلاحق رأسها التى تحاول الانفلات، بينما الدموع تغمر وجهيهما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصة قلب أم ، من مجموعة، من أوراق موت البنفسج، أصوات أدبية،
1995

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى