السيد نجم, - ليلة من ألف وخمسمائة ليلة.. قصة قصيرة

"الإنتظار يقتلني والصبر"تمتمت بهذه الكلمات، وهي تنظر شفتيها أمام المرآة المكسورة.
الجميع لابد أن يعرف.. الحقيقة تفضح نفسها دائمًا كجنين يكبر بين أحشاء أنثى، كرائحة العفن تزداد رويداً ولكنها تأتى فى النهاية.
والكل عند باب الدار جلوس.. سيدات يتلفحن بالسواد، رجال كبار، صبية صغار.. وشيوخ فى إنتظار قصة اليوم. لكل يوم قصة، وحتى الآن ألف وخمسمائة قصة، ما زالت السيدة تقص، وما زالوا ينتظرون.
هناك عند مدخل الدار حيث يجلسون فى شكل الدائرة وفى مركزها تمامًا تقف هي، يبدأون بالسؤال:"أين عنتر يا صابرة؟"
ويتابعون بالحاح:"الحقيقة يا زوجته الحبيبة.. نريد الحقيقة"
وتدور حول نفسها دورة ودورة ثانية ثم ترميهم ببسمة واثقة.. تقول:"صلوا على النبى""اللهم صلى عليه"
"لحد الأمس كان العقاب الحبس، حبسوه المجرمين فى الزنزانة وحده.. فكر عنتر.. وفكر.. وفى فترة قضاء الحاجة فى الصباح التالى بإشارة كان تم الإتفاق مع ثلاثة من إخوانه. والصبح طلع ودخل اليهودى الأصفر يرمي بشىء من فتات أكل الكلاب، من خلفه إندار وركل أحدهما برجل والآخر بكف.. سقطا.. ماتا ومعاً ومن ضربة واحدة"
"الله أكبر"، "ربنا يقويه"، "وبعدين"
"خطف المفاتيح وفتح الزنزانات كلها، وفتح العنبر وتسلل من السور، وكل من يقابلهم يقتلوه.. بالعصا والبندق، بالكف وبكل ما وجدوه.
"عددهم.. عددهم كام يكون؟"
"تقولوا كام.. هه.. أربعون!"
"يا سلام".. "يا عينى".. "قلبنا معاه"..
"مش كفاية.. هو قال لي مش كفاية"
"يعنى إيه؟!"
"نروح نقابله فى الجبال، على الرمال.. فى قلب التيه التايهه فى عينه.. على الطريق الطويل نروح له.. المهم نبدأ اليوم.. لا ..الليلة، لا، الآن.. قبل ما يزهق، قبل ما الصفرة تسرق النور من عينيه وتصفر الأشياء، كل الأشياء"
مر أمامهم أحدهم، كان ضابطاً بالقوات المسلحة، رتبه كبيرة.. إبتسم لها.. زمت شفتيها.
أشار لها بالرغبة فى حديث، قامت ودخلت حجرتها، أجلسته على المقعد الوثير الخشبي. حاول الرجل أن يبتسم، حاولت أن تبدو طبيعية.
أراد أن يقولها.. أقسمت عليه بشرب الشاى، شرب الشاى ومن معه.
أراد أن يقولها.. أقسمت عليه يسمع قصة زوجها عنتر، يسمعها كما سمعها الجيران.
أراد أن يقولها.. منعته حتى فترة قصيرة. غابت لحين، وعادت بأجمل وأجدد ما عندها من ملابس، وأكدت على أحمر الشفاه الكريزى.
أشارت إلى شغتيها.. "عنتر يحبه غامق"
أراد أن يقول لها.. جلست وقالت له:"بل أقولها أنا"
دهش الضابط ومن معه!
"بل أقولها أنا.. مات عنتر.. أليس كذلك؟"
"ليس تماما ولكنه ما زال مفقودًاً.. منذ الأربع سنوات، لذا سنعامله معاملة الشهيد"
"إذن.. ما زال تائها، ما زال تائها.. ما زال؟"
الرجللوى شفتيه!عنتر فى الجبل.. أليس كذلك، عنتر فى الصحراء.. ثم صاحت وعلا صوتها..
إندفع الجميع ودخلوا الحجرة حتى ضاقت بهم..
قالت لهم ها هو الضابط الكبير يقول تائه، عنتر فى الجبل، تائه.. نروح نقابله فى الجبال.. على الرمال.. فى قلب التيه التايه من عينيه على الطريق الطويل.. نروح له.. المهم نبدأ.. اليوم.. لا .. الآن.



(نشرت بمجلة روزا اليوسف الاثنين 9ابريل 1973م- العدد 2239)

* نقلا عن
قصة "ليلة من ألف وخمسمائة ليلة" - السيد نجم - صدى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى