جمال الغيطاني - هداية أهل الورى لبعض مما جرى في المقشرة.. قصة

أطلعت على هذ المخطوط في خزانة كتب أحد الجوامع القديمة بالجمالية، وأثارني بغرابة موضوعه، إذ لايمت إلى أي من المسائل المتعلقة بالفقه أو الشرع، حيث تضم هذه الصفحات ذكريات آمر السجن الذي عرف في عصور المماليك الغابرة بالمقشرة، وكثير من صفحات المخطوط مفقودة، غير أنني آثرت نشر ما وجدته لندرة مادته وغرابتها، ولم أتدخل إلا نادرا؛ كذا لاحظت أن المؤلف لم يحدد عصر السلطان الذي تولى فيه إمرة المقشرة، غير إني أرجح أنه كان زمن السلطان أشرف قايتباي، أو الأشرف قنصوه الغوري؛ آخر سلاطين المماليك .
ولعل القارىء أو الباحث يجد في هذه الصفحات مادة مفيدة وصفحات هامة لبعض مما كان يجري في مصر خلال هذه الأزمان البعيدة، غفر الله لنا ما تقدم وما تأخر من ذنوبنا.
رب يسر وأعن ..
اغفر ذنوبنا يا سلطان السلاطين، واستر عيوبنا يا أرحم الراحمين؛ إياك نعبد وإياك نستعين، اللهم صل وسلم على سيد المرسلين الذي كان نبيا وآدم لم يزل بعد بين الماء والطين وعلى آله وصحابه أجمعين.
أما بعد..
فلما كنت توليت إحدى الوظائف الغريبة في زماني، التي أخدم بها مولاي السلطان، ونظرا لما وقع لي من حوادث غريبة ونوادر قد تبدو للبعض أليمة وللبعض ظريفة، ولما كنت أقضي جل وقتي في المقشرة، قلت لأخط شيئا مما أراه وما أسمعه ؛ ومن يدري، ربما قرأ مولاي أشرف زماننا ما كتبته فيعرف إلى أي حد تفانيت في وظيفتي وذقت فيها الألم، وكدت أرى منها الهلاك، عندئذ يرق قلبه، وينعم عليّ بتقدمة ألف أو ربما دنانير من بعض جوده، وأعلم غفر الله لنا أجمعين، أن السجن الذي أنا آمره، يقع بجوار باب الفتوح فيما بينه وبين جامع الحاكم بأمر الله، وسمي بالمقشرة لأنه أقيم في موضع كان يقشر فيه القمح، والعامة والسوقة وجميع أهل مصر يقولون إنه من أبشع السجون وأشدها هولا، يقاسي المسجونون فيه من الغم والكرب ما لايوصف، والذين يقولون عنه هذا لم يروه من الداخل ؛ فكيف بهم إذا دخلوه؟ ولو مر الرجال أو النساء من جواره لقالوا سرا أو علانية وهم عن بنائه يبتعدون: اللهم عافنا شره وبلاءه، أسمعهم يقولون ذلك فأسخر منهم، ولا يستبعد واحد منكم نفسه عن المقشرة، ربما اليوم وسط عيالك وإلى جوار امرأتك؛ وفي الصباح في أسفل طباق المقشرة.
في بعض الليالي التي أقضيها هنا أضيق بوجودي وبنفسي، وفي النصف الثاني من الليل يكون الهدوء غويطا كالموت والظلام مخيفا حتى للذين ألفوه، وأسمع أصواتا تجيء من الأحياء المجاورة، لايبين فيها صوت الرجل من صوت المراة، ولا تفسر منها كلمة، أقوم متجولاحول السور الذي يعلو البناء، وإذ أقترب من منتصف السطح أسمع هسيسا.. أصواتا رفيعة ممطوطة يقشعر لها البدن، من هنا يبدأ سلم حلزوني هابط إلى عمق كبير، على جانبيه حفر ضيقة في الجدران، لا يتمدد فيها الإنسان على راحته؛ كما لا يمكنه الوقوف بطول قامته، هذه هي المواضع التي يُربط فيها المحابيس، وربما نزلت من حين إلى حين يتقدمني السجانة ينيرون السراديب ، وأسأل نفسي ما الذي يفكر فيه شيخ قضى هنا ما يزيد على سبعين عاما، أو شاب مضى عليه عامان؟
أتأمل وجوههم، أداعبهم، وربما ضربتهم فجأة، وصحت فيهم إنه لا أمل لهم يرجى، فالوجوه تبدو كريهة ممقوتة، وإذا أردت أن تجعل رجلا من المحابيس الجدد يبكي كالنساء ويقول أنا امرأة؛ أخبره أن عياله مات منهم اثنين وأن زوجته طلبت الطلاق منه وتزوجت، وإذ ينزل الليل تطلع الوطاويط ويسمع صوت أجنحتها عندما تصطدم بالجدران أو أراها تأكل النبق المختطف من شجرة قريبة، وساعات يصرخ المحابيس من أسفل وتنبعث رائحة كريهة مهولة وتهب في أحايين كثيرة فجأة ويكاد السجانة يهجون على رؤوسهم لفظاعتها، ولم يُعرف سبب ذلك .
جاءني سجان كبير وأخبرني أن الأمير طبقطباي مقدم ألف أرسل جملة محابيس لإيداعهم عندنا، قلت: كم عددهم؟ قال: أربعون.
لم تمض ساعة أو أكثر وكان الليل قد نزل تماما حتى سمعت جلبة بأسفل، وقفت على حافة السور وأنا أتحرق لرؤية المحابيس الجدد. هكذا كلما جاء وارد جديد تمنيت أن أراه بسرعة، وأروح أخمن من؟ أعلم أنني لا أعرف من يجيء إلى المقشرة إلا بعد تسلمي له، ومن يدري، ربما كان أحد الأمراء، وربما الأمير الداودار أو أتابيك العسكر نفسه، لا يعلو إنسان في بر مصر والعرب والعجم على المقشرة.
وإذ يكون واحدا( كلام مطموس في الأصل )ماذا يدور بباطنه؛ وكيف؟ وكيف يجد نفسه الآن؟ بعد أن كان في صباح اليوم نفسه أميرا عظيما تُدق له الكوسات( الطبول )ويمشي السعاة أمام ركبه، وقبل شكه في الزناجير
( الحديد ) أضربه مرة واثنين وثلاثا؛ وأجعله يقاسي في البهدلة والمشاق ما لا خير فيه.
لا يعلو الإنسان في المقشرة، أنت أمير؟ أمير في بيتك وعلى نسائك، وأقول له ربما خربوا بيتك واغتصبوا نساءك ونهبوا شاشك وقماشك، وكلما علا الإنسان في مقامه زدنا في إيلامه، هكذا يقول مولانا، وسبحان من له الدوام.
قمت متجولا فوق السور، الطريق الكبيرة تحتنا مقطوعة الرجل من المارة وعليها خمدة، فمن أيام نادى مولانا بألا يمشي أحد بعد العشاء ولا يغادر المماليك الطباق ولا ينزلون إلى المدينة ملثمي الوجوه، ضربت الحجارة بيدي وناديتسجانا كبيرا، سألته:
ـ متى يصل الوارد الجديد؟
قال:
ـ بعد ساعة زمن.
قلت: ألم تعرف بعد من هم؟
قال:
ـ إنهم فلاحون .
هززت رأسي بلا اهتمام، هذا شيء يثير القرف، سألني :
ـ أين نضعهم؟
قلت :
ـ في القاعة الصغرى.
قال:
ـالأربعون مرة واحدة؟!
قلت : نعم.

رب يسر وأعن ..
كل منهم كالعود البوص أو عصا الخيزران، ثيابهم مقطعة؛ أيديهم مربوطة إلى بعضها؛ عيونهم جاحظة كأنهم زجوا إلى يوم الحشر، لا تعلو منهم همهمات أو أصوات، أما الليل فساكن لا يبدد هدوءه صوت، ولن أنام في وقت قريب، فلأعرف بعض أحوالهم ، قال سجان كبير : إنني لن أجد فيهم ما يسر، كلهم مثيرون للقرف، سألت واحد منهم: ماذا فعلت يا ابن معيكة؟ طلع صوته متحشرجا غليظا: والله لم أجن ذنبا؛ ولم ينكسر على درهم واحد من مال السلطان، صفعت آخر على قفاه وتلقى الصفعة بهدوء ؛ كانه يقول: إضرب غيرها ورجعني إلى امراتي وعيالي، ثم قال: إنهم كانوا في الغيط يرمون البذار، ولايدرون إلا الفرسان يكبسونهم، وينتقون منهم أربعين رجلاويشكونهم في الحديد، سكت الرجل وصاح فلاح عجوز: جاءوا بنا على أننا عربان يا سيدنا، وما قدروا يمسكون عربيا واحدا من أهل الجبل، فأمسكونا نحن حتى يقولوا للسلطان: انظر؛ أحضرنا لك أربعين عاصيا، ونحن لم نعص ولم ...
درت حولهم، لمحت أربعة صبية صغارا؛ يتمنى أي من المحابيس أن يسكن مع واحد منهم، صاح سجان كبير آمرا إياهم بألا يزعقوا في الليل، لأن السلطان سوف يعرضهم قريبا، ارتفع عويلهم كالنساء، زعقت فيهم، فسكتوا، ورأيت رقابهم نحيلة جدا وعظامهم بارزة، لمحت شابا عيناه واسعتان، سألته : هل انت متزوج؟ قلت : امرأتك شابة ؟ لم يرد، كتفاه عريضتان، قلت على مهل: لن ترى عيالك أبدا، تصور هذا وتمعن فيه جيدا، ظل صامتا، قلت له : إنك أول من ستقطع رقبته أو يوسط على بابا زويلة، ألا تخاف؟ فقال: أنا حزين وبي رجفة، قلت: هذا لن يمنع، وأشرت بيدي وغمزت بعيني، سألني فجأة: كم سأقضي في الحبوس؟أطرقت لحظة ثم قلت له: أتحب أن تعرف؟ لم يرد، قلت: إذا قدر لرقبتك ألا تقطع أو جسمك ألا يوسط، فربما تقضي عندنا تسعين عاما، إذا قُدر لك أن تعيش هذه المدة وربما سنة، وربما عشرين، لن تخرج إلا إذا أمر السلطان بذلك، وأنت من سيوصل أمرك إلى مولانا، هل تعرف والي القاهرة أو أميرا كبيرا حتى يشفعا لك عنده؟ رأيت الخوف يغشى عينيه، قلت لنفسي هذا واحد لا يعرف ما ينتظره، فلأقل له، ولأتمعن فيما يدور على وجهه، ولأخمن ما في نفسه.
ها هم بقية الزعر مصغين كأن على رؤوسهم الطير، قلت: هذا إذا لم تمت مطعونا( بالطاعون )أو لم يمص وطواط دمك، واعلم أن الوطواط في المقشرة كالرجل والعقرب كالبغل، أما إذا شعرت أنا بالملل في أي ليلة ؛ فربما جئت بك عندي لأعريك وأقطع لك( كلام فاحش أثرت حذفه ) واعلم أننا إن فعلنا ما نريد بك ـ تصور أي شيء يخطر لناـ فلن يتكلم أحد ، ولن يرفع رجل سبابته احتجاجا، ولن تعول عليك امرأة أو تنوح عليك زوجة، قلت لنفسي إنني أعرف تماما مايجري الآن في عقله وصدره، فلأبعث فيه ما قد يسقطه ميتا، سلطاننا نفسه لا يملك أن يفعل مثلما أفعل، هل يستطيع أن يقول ما أقول لأي من المحابيس في السلطنة؟
همس الفلاح العجوز: والله يا أمير ما عملنا شيئا.
ضربه سجان كبير على وجهه، ونزل الصمت فوق الجميع كالمصيبة.
كان القمر يتسحب على حائط السماء مخنوقا مبثور الوجه، اقتربت من الشاب عريض الكتفين، قلت: طبعا أنت لا تعرف كل ما عندنا من ألوان العذاب، والويل لك لو أشار واحد من أصحابك عليك وقال إنك تحوز مبلغا من المال حتى لو عشرة دنانير، تُكَلّب وتُخوزق وتُعصر أطرافك وأصداغك؛ وتُخلع أسنانك؛ وتدق فروة راسك؛ أو تُخلع أبزازك ونشويها ونطعمها لك.
لاحظت أن ثبات عينيه قد اهتز؛ وشفتيه ترتجفان، قربت وجهي من وجهه، وكاد أنفي يلامس يلامس أنفه، وفجأة زعقت عليه زعقة عظيمة، فتراجع إلى الوراء متعثرا، انطلقت ألكمه في صدره لكما هينا طريا، لكني أعرف تماما ما يحدثه من أثر، صحت منبها إياه وإياهم أنه لن يرى أمه أبدا؛ أبدا، ولن يسمع نداء زوجته إذ يرجع من الغيط، وفي الجب سينسى ملامح أولاده وأسماءهم، قلت لهم كلهم وأنا أعتدل في وقفتي، لن تعثر شمامة لكم على أثر.
صحت على سجان كبير فرفع عصاه، فتدافع المحابيس فوق السلم الحلزوني الضيق وهم يعولون كالنساء، وكلما أوغلوا في البعد إلى أسفل، ماتت صرخاتهم، وفي الطيقان السفلى سيحاول رجال ربما مضى عليهم ستون أو سبعون سنة أن يعرفوا القادمين من العالم الذي باتوا يجهلونه، ذات ليلة عندما نزلت بنفسي لأضع الأمير أقباي الطويل في الحبس؛ سمعت رجلا يزعق من مكان مظلم مررنا به؛ يسأل عما إذا كان يوجد عالم حقيقي أم لا، وآخر يسال عن أحوال الناس ومن أي حي جاء القادم الجديد، وتتلاحق الأصوات حتى كاد أقباي الطويل أن يموت رعبا على نفسه، لكنه لم يمت، استندت إلى السور الحجري بذراعي ورأيت المدينة على خمدة، وكانت الليلة وسط بين الخريف والشتاء، وعما قليل تجيء الأمطار وتهطل حتى توحل الأسواق وتمسي المقشرة مكانا مهولا مفزعا، تنبهت إلى أنني لم أصل العشاء؛ فاستغفرت ربي، ومشيت إلى غرفتي، لحقني سجان كبير وأخبرني أن السلطان سيأمر بعرض هؤلاء الحبوس ربما بعد أسبوعين أو ثلاثة، لم أرد، وطلبت منه سجادة الصلاة.
***

درة
قال ابن سيدة:
ـ السجن هو الحبس، والسجان هو صاحب السجن، ورجل سجين يعني مسجون، وقال رحمه الله أيضا: وحبسه حبسا فهو محبوس وحبيس، واحتبسه وحبسه يعني أمسكه عن وجهه ومنع حركته وخنق جولاته وروحاته.
***
رب يسر وأعن..

من ليال ؛ أوقفني الشيخ مسعود عند حارتي بعد أن تركت بيتي، وقال:
ـ ألا تخاف الله يوم القيامة؟ قلت: أستعيذ به وإليه ألجأ، هل رأيتني فاسقا أو مقصرا في الفريضة أو أبلغك عني الزعر أنني جدفت في حق ربي؟ لا والله يا شيخ مسعود، قال: لا هذا ولا ذاك، لكني أسمع أنك تذيق المحابيس صنوفا من العذاب، وإنك تجمع الكثيرين في موضع يضيق عنهم غير متمكنين من الوضوء والصلاة، وقد يرى بعضهم عورة الآخر.
قلت: كل عمل وله سوءاته وميزاته يا سيدنا، واعلم أن كل ما بلغك كذب من أوله إلى آخره، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، طلبت منه أن يدعو لي بالمغفرة، قال: اللهم احجب عنا بلاءك وشرك، فمضيت وبنفسي منه، كأنه يظنني آمرا لبرج القلعة ولخزانة شمائل وسجن الديلم أيضا أو العرقانة، ما ذنبي أنا؟ هل أنا الذي ابتدعت الحبوس؟ أليس أمير المؤمنين وثاني الخلفاء هو الذي ابتدع الحبس في الإسلام؟ وابتاع دارا في مكة يضع فيها من يرى أنه يستحق أن يوضع ويوثق، والله ليس غريبا أن تجيء إلى المقشرة يوما يا شيخ مسعود.
عندما أمشي في السوق والناس حولي يتدافعون في إتجاه سوق الليمون، وباعة يصيحون؛ وغلمان يعودون، في نهاية النهار وبداية الليل، تزيد الحركة ويكثر البيع والشراء، وفجأة يحل الهدوء والسكون، كأن العالم مات عندما أمر من هذه الطريق ، يثور بي خاطر، ليسوا مرة واحدة ، لكن كل منهم له دور، كل عليه عدة لابد أن يقضيها أو يقضي، طلعت إلى حجرتي وأنا من الضيق في أمر عظيم، طلبت إحضار الأمير مغلباي الذي خامر على السلطان وركب جامع السلطان حسن، وحاول أن يتعبث بعرش السلطان ويسطو عليه، كان داهية، لا يجرؤ مملوك أو واحد من أولاد الناس أو العوام أن يعترض سبيله، والله لأفعلن به وأجعله.... ( هنا أصاب الورقة تلف جعل الأحداث تتوقف، غير أن ما يلي هذا لا يبعد الأحداث كثيرا عن سياقها الطبيعي )
.... لا أدري إلى أين ؟ هممت أن أستل سيفي وأطيح برأس كل من يقابلني، غير أن المصيبة عظمى، فهدّأت روحي، الأمر لا بد أن يدبر في هدوء، لو شاع وافتضح لاهتز رأسي، أي أيام سوداء في انتظاري؟ كل سيوز السلطان على بكلمة، أما أتابيكالعسكر نفسه فسوف يركبني فوق بغلبالمقلوب ويجرسني في القاهرة كلها؛ ارجموه؛ اضربوه؛ عذب ولدي؛ قتل رجلي؛ قطع ذراعي؛ خوزقني؛ أدخل خنجره المحمى في .. ؛ رماني ثلاثين عاما كاملة لأنه طمع في امرأتي؛ فحبسني ليخلو له الجو وينالها؛ الفاسق؛ الزاني؛ يارب الطف، يارب أعن، يلطمني السوقة والعامة، ويصيح المنادي أمام الركب: هذا جزاء من لا يتحفظ على حبوس السلطنة، وأي حبوس هربت؟ يا خراب دياري؛ أربعون فلاحا لو قتل بعض منهم في الطريق لما ارتفع أصبع ولا اهتزت شفة.
جمعت السجانة، طحت فيهم ضربا وركلا ورأيت أبدانهم تكاد تنخلع لهول رعبهم، صرخت فيهم: أتعرفون أي هول ينتظركم؟ أنتم أدرى الناس بالمقشرة، ستغدو مكانا بعيد المنال منكم، غير أني بعد وقت جمعتهم، لو افتضح الأمر، لو ذاع الخبر لقتلتكم أجمعين، وعقدت يدي أمام صدري وتمنيت من الله ألا يبعث السلطان في طلب العربان المفسدينليعرضهم، وخرجت إلى الطريق طافشا على وجهي وفي قلبي جمرة نار.
أقبل رجال يرفعون بيارق حمراء ويدقون الطبول، يتقدمهم رجل حول وسطه قماش أحمر، يدور حوله بسرعة كبيرة، والرجل يلف ولا يدوخ ولا يقع، كانوا يزعقون في حماس: الله ؛ الله ، تمهلت حتى مروا، وكان المغيب يقترب، وعما قليل ينزل الليل فجأة، هب الهواء باردا حتى وخز عظامي، توقفت حائرا والطريق تزداد بها الحركة وتعلو، تذكرت امرأتي وعيالي في البيت، تمنيت أن أمتطي جوادا يمضي بي ولا يتوقف، لكنهم سيدركوني، حرت فيما أفعل، وصحت بنفسي: الثبات الثبات، ونزلت ثلاث درجات تؤدي إلى جامع قديم منخفض، كان الهواء مقبضا، وقفت خاشعا وتذككرت عددهم ( أربعون فلاحا ) والأمر لله.
سبحانك إني تبت إليك وأنا أول المؤمنين، اللهم أعف عنا واغفر لنا، اللهم لا تشمت بي الأعداء؛ ولا تجعلني مع القوم المارقين، أرجو رحمتك بقولك ـ إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ـ ذنوبنا كثيرة، وطاعتنا يسيرة، كلنا تحت الزلة والتقصير، يا رب لولا ذنب المذنب لما ظهرت صفة عفو الكريم، ولولا تقصير المقصر لما بان غفران وحلم الحليم، اللهم أني لأعوذ وأستجير بحبيبك الذي نزل في حقه( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )
***
رب يسر وأعن..

سألت سجانا كبيرا : هل رآكم الأهالي؟ وهل زعق عليكم المماليك. فقال: لا صغير ولا كبير أحس بنا، فالمماليك لا ينزلون من القلعة بعد المغيب، ودرك الوالي لا يجولون في الطرقات إلا بعد توغل الليل، ثم من نحن؟ ألسنا جند السلطان؟! اسم كل منا يعرفه أهالي البلدة أجمعون، وفوقنا تجمعت غيوم ثقيلة ناءت بحملها السماء، ومالت حتى تكاد تلامس البيوت، زعق أولهم عندما طالعني: ماذا فعلت يا أمير؟ صفعته بالسوط على وجهه، ودققت في الورم المستطيل الأحمر المفاجئ الذي انتفخ مكان الضربة، صرخ أحدهم كالنساء: يا خراب بيتي وعيالي، وقال آخرون: إنهم ما جنوا شيئا يؤاخذون عليه، وإن واحدا منهم لم يغش مخلوقا أو يشوش على إنسان، قال بعضهم: إنهم أكثر أهل مصر طاعة لكل ما قيل وما سيقال، فماذا فعلنا حتى تحطوا علينا فجأة ونحن نبيع الليمون في السوق وتأخذوا جِمَالنا وأحمالنا وتشكونا في القيد الحديد؟قالوا: إنهم غلابة، وإن أهاليهم سيموتون حزنا عليهم، لأنهم راحوا مصر ولم يعودوا، أنا لي عشرة أولاد يا سيدنا، أما أنا فقد وضعت حياتي في قفة الليمون التي حملتها فوق عنقي لأبيعها في السوق، رحت أصغي إلى ما يقولونه، وثمة برد وسلام ينزل على قلبي، لم أتكلم، الفلاحون الذين أتى بهم الداودار لم يكونوا كهؤلاء في الزعيق والصراخ، لكن هذا بطبيعة الحال، الآخرون جاءوا من قراهم مباشرة، أما أولئك فما أغرب حالهم، رجل يخرج من بلدته ولا يرجع، ولن تعرف امرأته ولا عياله وما جرى له.
وبعد أيام يطلب السلطان عرض العربان المفسدين المتعبثين في الأرض الذين اسرهم الأمير الكبير، فتضرب أعناق البعض ويوسط الآخرون وتتدلى أجسامهم الهزيلة من باب زويلة وباب الشعرية، وقد ينتن الواحد منهم فيجيف لحمه ولا يجد من يدفنه حتى يتصدق عليه مؤمن فيدفنه، ولن تنتطح في ذلك شاتان، ويروح كل منهم على أمره ويخلو مكانه وينتهي خبره، قلت لهم وكلهم مصغون كأن الصور قد نُفخفيه النفخة الأولى؛ فخربت الأرض جميعها: أنتم من العربان المفسدين ومهما زعقتم وقلتم غير هذا فأنتم تقطعون الطرق وتهاجمون ركب الحج، ستقولون نحن تجار ليمون، نوزعه ونبيعه، لكن لن يسمعكم أحد.
رحت أدور حولهم أتملى جحوظ عيونهم وملامحهم المرتعبة والرجاء المخلوط بالياس فوق الوجوه، عجبا أهذه الرؤوس كلها ستحشى بالقش بعد قليل، ارتعش جلدي وطاف بدماغي خاطر طردته بعيدا، واستعذت من الشيطان الرجيم، الغيوم الثقال حبلى بالمطر وعما قليل ينزل السيل كالبحار، صرخاتهم تطلع إلى الفضاء الوسيع، حتى لو سمعتهم الدنيا كلها؛ فمن يسأل آمر المقشرة؟ تراجعت إلى الوراء خطوة وزعقت على سجان كبير أن يرميهم في الطباق الأوسط وأن يربط كلا منهم إلى الجدار بثلاثة مرابط حديد، وقبل أن ينزل إليهم سألته: كم عددهم؟ فقال: اثنان وأربعون، قلت له: وكم كان أسرى الأمير؟ قال: أربعون. أطرقت مقدار درجة وقلت له: إرسل إلى اثنين .
خلعت خنجري من جرابه، وبرق نصله في الهواء.
***
هكذا تنتهي اوراق المخطوط فجأة، وأكاد أكون متيقنا أن هناك أجزاء مفقودة منه، كل ما أرجوه ألا تكون يد الفناء قد امتدت إليها، فأنهت عليها، لذا أرجو من هواة ودارسي المخطوطات القديمة إذا ما عثروا على الأجزاء المكملة لتلك الأحداث الغريبة أن يتكرموا بإرسالها إلى؛ حتى أنشرها ويمكن الاستفادة منها.


* نقلا عن:
- صدى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى