/ زكريا عبد الغني - مودة.. قصة قصيرة

الأحاديث الخافتة تُنسج مع أشعة القمر, والتثاؤب الكسول يُجدل مع ظلال البيوت والضحكة المرنانة تسكن حيالها الجنادب قم تستأنف العزف من جديد, حديث "موّدة" في الساحة الرحبة كصليل الخلاخيل, يجتاح "صبري" كخربشات, ثم ينحسر ويتركه يلهث في صمت ملتهب, مجلس النساء في الليالي المقمرة بين البيوت مجلس أنس ومتعة, يحسبنه صغيرا فيسمحن له بمجالستهن, وما يدرين أنه ترك صيد العقارب بأعواد حديد مسننة, استيقظ داخله خدر لذيذ, ومشت على جسده عقارب كثيرة, تداعبه ولا تلدغه, فيقشعر على جسده عقارب كثيرة, ويوقظه في جوف الليل ثعبان فيجري إلى الساحة في ليالي الصيف, ويتخيل "موّدة" تتجرد من ملابسها وتغتسل بضوء القمر المصحوب بنقيق الضفادع تنادي إناثها في ليل طويل ما له آخر.
في مجلس الأنس يجلس قريبا منها لا يرفع عنها عينه, ينسكب ضوء القمر على وجهها, ناصعة جبهتها كطبق البلّور, تبرق عيناها في عتمة خفيفة مبهمة, تبرز وجنتاها وتلمعان, سمع عن التفاح الأمريكاني, يشتهيه ولم يذقه طيلة عمره الغض, تتندى شفتها السفلى برضاب شهي فتتلألأ كبلّورة سحرية في يد ساحر ماهر يجيد جذب الأرواح فتتهافت في فيض مغناطيسي, تنحدر عيناه أسفل جيدها فتضل بين تلين صغيرين, لمسُ القمم مغامرة محفوفة بالمخاطر قد يدفع الإنسان من أجلها عمره, ولا ملجأ إلا إيثار السلامة, والاستكانة المستفزة في ظلال البيوت المطرزة بأشعة فضية.
على بعد قريب, وعلى الجسر الموصل بين شطري القرية يتجول الصبية بأعواد الحديد المسننة, يبحثون عن العقارب الشاردة في ضوء القمر, فإذا ظفر أحدهم بواحدة صاح صيحة النصر, ترن ضحكة"مودة" وتجلجل صاعدة, تهتز النجوم ويختلج القمر, يتوهج القلب ويهم بملاحقة أمواج الضحكات لكن الجناح مكسور.
مل اصطياد العقارب, غرز سيخه المسنون في عشرات منها, وصاح صيحات مظفرة, وهلل وتقافز ورقص رافعا عود الحديد والعقرب تجدف في نهايته بأرجل متعددة, في البداية كان يخاف خوفا هائلا, في ليالي الصيف يتعشى ثم ينام موليا وجهه جهة الحائط, يغرز ذقنه بين ركبتيه ويرتعش, يتوهم العقرب قادمة, ترفع ذيلها وتخربش في الحصير, تصطك أسنانه ويغرق في لجة العرق, ثم يصيح صيحة مكتومة ينادي بها أمه, أعطاه أبوه سيخا ودفع به بين الصبية الصيادين.
خوفه جعله حريصا حذرا فغرز السيخ في بطنها منذ الليلة الأولى وصاح صيحة النصر, طعن الخوف فتبدد وتلاشى ثم صار خبيرا فاصطاد العشرات, حتى جاءت ليلة سمع فيها ضحكة "مودة" فاهتز العود في يده لكنه أصر على متابعة العقرب وعندما عاودت"مودة" ضحكتها ألقى بالعود إلى رفيقه وتسلل في ظل الجدار وفي مجلس الأنس وعلى مقربة منها جلس يلهث.
في طيات الأحاديث الخافتة وأمواج الضحكات المتلاحقة وغلالة الصمت السحري يتغلغل "صبري" حتى يتلاشى ولا يبقى منه غير قلب يدق, " مودة" الليلة ليست ككل ليلة, هو لا يدري أنها تبلغ الأوج عندما يكون البدر في تمامه, تكلمت كثيرا ورنت ضخكتها عاليا وشهقت أكثر من مرة كلما سمعت من إحداهن حديثا مخيفا.
بترت "مودة" ضحكتها الرنانة فاختل نظلم المجلس وتطلعن إليها, وقفت مذعورة تنفض جلبابها وتقول بصوت هزه الرعب إن عقربا تمشي فوق لحمها وتحت طيات ملابسها, خلعت الجلباب وألقت به فوقف "صبري", تقافزت فوق الأرض وضربت بيدها جانبيها, العقرب تحت القميص, بأياد جزعة انحنت وتناولت طرفه, رفعته وهي تتلوى كأفعى, انسلخ القميص من رأسها فسقطت عصابة رأسها وانسكب شعرها الأسود, جحظت عينا "صبري" في محجريهما, النهود الصلبة كحمامات بيضاء, مناقيرها حمراء, تزقزق عطشى, ارتعش"صبري", لم تبق إلا قطعة واحدة, العقرب تخربش ولابد, مدت يدها, توارى القمر خلف سحابة عابرة وعميت عينا "صبري".
لمحت إحداهن العقرب تجري تحت الجدار فسحقتها بشبشبها, هرب إلى النوم وولى وجهه جهة الحائط, ظل يرتجف حتى اصطكت ذقنه بركبتيه, اتقد جسده فنان نومة المحموم, ثم غرق في لجة من العرق ختى انتشله حلم لذيذ.


* من مجموعة ( محطة القطارات الخالية) / صدرت سنة 1994 عن مطبعة المعرفة بالقاهرة


* نقلا عن:
- صدى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى