سمير عبد الفتاح - Facebook.. قصة قصيرة

تحرير .. تحرير
هكذا صاح سائق الميكروباص , فقاومت ألام المفاصل , وركبت إلى ميدان التحرير , كنت وحيداً حينما اخترت المقعد الأخير وبات على من يريد أن يجاورنى , أن ينحنى , وينثنى, ويطوى المقاعد ويفتحها , لكى يجلس بجوارى .
تحرير... تحرير
وحين وقف جانبا , ركبت بنتا من بنات " الفيس بوك " ..الجيبة طويلة , خشنة , والبلوزة لا علاقة لها بلون " الجوب " والإيشارب " بلون سابغ يلف رأسها الصغير ويؤطر ملامحها الحيادية , التى اكتسبتها ملايين المصريات , بعد أن تفجر النفط فى بلاد الرمال واللحى . وعاد الرجال بالعتر والشباب , والنساء لبيوت الشعر .
تحرير...تحرير
البشرة مختلطة , تملأها حبوب وبثور , والأنف لا علاقة له بالوجه , والجبهة مجانية مربوطة بإيشارب مثبت بدبابيس وأبر معدنية حادة , تجعلك تخاف على عينيك , وتزهد فى كل النساء .
تسمح يا حج .. خش جوه
وبكل سرور تنازلت لها عن مكانى , إلى الجانب البعيد , وفى غمرة الإحساس بالجميل , انتظرت أن تقول :
شكرا أو حتى " ميرسى " لكنها تشاغلت بالنظر إلى الشارع المزدحم , وبدافع من مروءة قديمة , التصقت بالجانب الأخر , علها تشعر بالراحة والأمان , لكن ذلك لم يلفت نظرها أيضا , فعزوته لأخلاق الزحام , واختلاف الأجيال والسنين.
تحرير ...تحرير
وركب شاب من ذلك النوع الذى يحمل موبايلين وعلبة سجائر أجنبية , وجلس بيننا دون أ، يشعر بأى جميل, الشعر مفلفل ومثبت بـ " الجل " والبنطلون " ديرتى " مقطوع على الركبتين , و " التى شيرت" مرسوم عليه علم أمريكا وسهم " الموبايل " الأحمر يتحرك بعصبية بين الأيقونات الملونة .
- رايح كوبرى الخشب ؟
هكذا تجاهلنى وسأل الفتاة فتوترت , وقالت دون أن تنظر اليه , أو تهتم بأمره : اه .
ضغط الولد على زر الموبايل فسمعنا عبد الحليم يتساءل : أسمر يا اسمرانى ..مين قساك عليا ؟
سرقت البنت نظرة إلى شعره الخشن , وكادت تضحك فيما راح الولد يلعب بالموبايل ويبادلها النظرات وهو يتصنع التطلع عبر النافذة , وبخبرة السنين توقعت سيناريو الأحداث :
الولد : سينزل فى بولاق لانه بيئة . والبنت : ستنزل فى محطة الجامعة لأنها تضع كشكولا على ساقيها , وأنا : ربما أنزل عند كوبرى قصر النيل , أتأمل الأمواج لعدة ساعات , أو اذهب إلى ابنتى الوحيدة بحلمية الزيتون , فاقبل ولديها قبل أن يناما ...وامنحهما بعض اللعب , ولأمهم بعض نقود التقاعد , ثم أعود لبيتى الخرب, المقفز لأنام نومة العازب .
الساعة كام معاكى ؟
سبعة إلا ربع
هكذا ردت الفتاة بفتور على سؤال الفتى , وهى توقن أنه لا يسأل عن الساعة , ولا يهمه الزمن , وإنما " يجرها في الكلام " وهو ما تأكد لي ولها حين سألها من جديد :
- إلا ربع .. ولا إلا تلت ؟
فلم ترد عليه , واكتفت بأن مدت يدها نحو عينيه بغضب أنثوى مفتعل ليرى بنفسه فمسك يدها , وكانه يريد أن يقبلها , ولم ينظر إلى الساعة .
- الله ...صوابعك حلوة قوى...
- بلاش قلة أدب
قالتها بحدة وهى تشد يدها الناعمة وبقوة , ففكرت أن أصرخ فيه :
عيب يا ولد احترم نفسك
لكننى خشيت رد فعله , وانتظرت ما سيجرى.
صافينى مرة ..وجافينى مرة ...ولا تنسنيش كده بالمرة هكذا قال الموبايل قبل أن يقول:
زيرو عشرة , سته وستين , تسعين , تلات أربعات.
دا رقمك فى السجن , ولا فى بطاقة التموين ؟
رقم موبايلى .
مصمصت البنت شفتيها بامتعاض وصمتت ففكرت أن أصيح بالنيابة عنها :
وهى مالها ومال موبايلك يا وسخ ؟
لكنى سكت .. وانتظرت أن ترد بنفسها لكنها أدارت وجهها نحو الشارع المزدحم وسكتت.
وانتظرت كارثة , ربما كان أهونها أن تبادر فتصفعه على وجهه لكنها لم تفعل فصحت فيه محتدا .
يا تقعد كويس يا أخينا
أهلا ...لامؤاخذه يا حاج هكذا صاح بابتهاج من اكتشف وجودى , ثم أهملنى وسألها : والدك ؟ ... فهزت رأسها نفيا وإنكارا فوجدتنى أغضب مرتين ,مره من طريقة نطقه للحاج ومرة من طريقة نفيها لأبوتى .
مش عايزه تقولى رقمك ؟ طب اكتبيه
سمعته يهمس بذلك فتمنيت أن أستعين بالشرطة وتخيلته يضرب على قفاه وقد حلقو شعره فاستراح قلبى وهدأ بالى .
قال الموبايل " قوم أقف وانت بتكلمنى ...ولا تتكلم ولا " فتحت البنت كشكولها وراحت تخط بالقلم الرصاص خطوط ًغامضة وهو يتابعها باهتمام لاعج ... ويحاول أ، يسجل على موبايله ما تكتبه , فتنبهت البنت وراحت تعابثه , ولا تكمل الرقم العاشر , بل ترسم أشكالا عشوائية مضطربة , فيتشكل على الورق صورة لحمار أو بغل بلا اذنين فأجدتنى أخذ القلم وأعاونها على رسم الاذنين منتصبين كقرنى خروف فتضحك البنت ويلاحظ الولد ذلك فيصيح مستنكرا
جرى إيه يا عم الحاج ... متخليك حلو امال
ويبدو أنه بحث عن أغنية يرد بها على الموقف فلم يجد وأثناء انشغاله كانت البنت قد كتبت الرقم على قصاصة نزعتها من الكشكول وراحت تبرمها بين أصابعها الدقيقة بطريقة تعمدت أن تكون فاترة ولا مبالية
ايه كتبتيه ؟
فوجئت البنت بالسؤال فنفت على الفور وكادت ترمى بالقصاصة من النافذة لكنها وجدتها مغلقة فبرمتها بحدة بين أناملها المعروقة وحين وجدتنى اتابع كل ما يجرى تصنعت الغضب ثم اعلنت عنه حين رايتها تشيح بوجهها وتهمس " ياسم " وسمعته يهيب بها
اكتبيه ..اكتبيه
تطلع بعض الرطاب لما يجرى خلفهم ولابد أن السائق قد تطلع بدوره ولكنهم اطمأنوا على توازن الكون حين وجدونى بينهما وفيما كنت اتعجل محطة الجامعة ليرتاح قلبى سمعت الولد يتحدى الجميع ويخطرها باسمه بل رأيته بعينى هاتين اللتين سيأكلهما الدوود يأخذ القلم من يدها ويكتب رقمه على كشكولها الجامعى وهى تتمنع وتتدلع وتتجاهل وتتمايع وأنا أهمس لمن يغلى فى عروقى " اصبر على جارك السو" وأتجاهل الشعور بأنتمائى لجيل قديم جيل لم ياخذ الدنيا غلابا ولم يعد يشكل بحضوره أو غيابه أى مهابة يمكن الرهان عليها فأتذكر طفولتى الباكرة التى خلت من كل بهجة وأرى فى عتمتها الكابية وجه أبى وهو يتعجل رجولتى واسمع أمى وهى تشبهنى بالبنت البنوت واتذكر كيف عجزت عن إقامة أى علاقة مع أى أنثى حتى تزوجت كانت تكفى كلمة همسة خطوة أو هزة رأس لأنال من أريد لكن تحطمت كل علاقاتى على صخور الخجل والممانعة
عندى ورشة صيانة فى ناهيا ... و...
ياى بيئة
تردد هذا التعبير فى خاطرى فلم أدر من قاله : أنا أم هى ؟
لكن ما توقعته لم يحدث إذ أتت محطة الجامعة وانتظرت أن تنزل ولكنها لم تفعل فصحت فيها مذكرا ومتعشما
الجامعة يا أنسة
فلم تنزل ولم ترد بل وزنتنى بعينيها الساخطتين وسكتت فصحت بحدة وكأننى أرمى بأخر سهم فى جرابى
الجامعة يا أنسة .. الجامعة
فرد الولد بقلة أدب أربكت أحداث السيناريو:
وأنت مالك يا حشرى
وانتظرت محطة الكوبرى وهالنى برود البنت وكأن إهانتى لا تعنيها فى شئ صاح السائق
كوبرى الخشب اللى نازل الكوبرى
وشعرت بسعادة غامرة وأنا أرى ينجنى ويطوى المقاعد قبل أن يغادر الميكروباص
خلاص ؟ هكذا سمعته يهمس بعينيه الجريئتين ورأيت البنت تشيح بوجهها عنه فى الوقت الذى كانت تدس الورقة المبرومة فى يده غاضبة وهو يحدجنى بشماته ويودعنى بيديه:
باى ...باى يا جدو وسلم لي على " الفيس بوك "


* تنويه :
سمير عبد الفتاح، ينتمي لجيل السبعينيات، وهذه القصة، من أخريات ما كتب


* نقلا عن:
- صدى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى