نجيب محفوظ - الأراجوز المحزن.. قصة قصيرة

كانت المرة الأولى التي رأى فيها عبدالرحيم افندى جاد الكاتب بنيابة المنيا الأهلية الوجيه السري محمد بك المنياوي في الاجتماع الانتخابي الذي أقيم للدعاوة للبك الوجيه.
رآه واقفًا على منصة الخطابة يلقى الخطاب الختامي فأثنى على من تقدمه من الخطباء والشعراء الذين اخجلوا تواضعه، وشرح برنامجه الانتخابي الحرى بأن يصلح أمما برمتها شرحًا مسهبًا في أسلوب خطابي رائع قوبل من ألوف الحاضرين بالتصفيق الحاد والهتاف المتواصل، ولكن عبدالرحيم افتدى لم يؤخذ بمنطقه قدر ما اخذ بجمال وجهه الفتان، ولم يتحمس لبرنامجه الانتخابي بعض تحمسه لشبابه الغض وقامته الكاملة وقوته البادية.
وأنفض الاجتماع وغادر المكان وخياله لا ينى يتشبث بصورة الشاب الجميل، الذي لم تقع عينه قط على إنسان يماثله حسنًا وشبابًا وقوة. وكان يسير إلى جانبه الشيخ إبراهيم سليم المعلم بالمدرسة الإلزامية وهو شيخ متقدم في السن قضى من عمره سنين طويلة في المنيا فقال له:
- مرشح دائرتنا عظيم لا نظير له بين الشباب، وتبدو عليه النعمة.
هل هو
غنى؟
فقال الشيخ ابراهيم:
- غنى!. نعم يا بنى غنى وما غنى إلا غنى الله.
ولكن هيهات أن تكفي هذه الكلمة للدلالة على ثروته، فهو يملك خمسة آلاف فدان في المنيا ونصف مليون من الجنيهات نقدًا في البنك الأهلي، وعمارة المنياوي الشهيرة بشارع الملكة نازلي بالقاهرة. هذا غير الأسهم والسندات مما لا يعلم عده إلا الله فصاح الشاب وقد تملكته الدهشة:
- يا سلام سلم
فقال الشيخ مبتسما:
- ألا تعلم أنه الآن عميد أعرق أسرة بالمنيا؟
هو الابن الوحيد للمغفور له على باشا المنياوي الذي كان وزيرًا للأوقاف، وحفيد محمد باشا المنياوي احد النظار في نظارة نوبار باشا
فسها الشاب عن محدثه لحظة ثم قال متسائلا:
- والظاهر من خطابته أنه متعلم
فأمن الرجل على قوله قائلا:
- أنه حاصل على شهادة الحقوق المصرية.
وعلى أعلى شهادات فرنسا في القانون. والحق أن العلم والمال من بعض تراث أسرته العريقة. وأنتهي عند ذاك الحديث وودعه الشيخ وذهب إلى حال سبيله. وأحس الشاب برغبة في المشي بعد طول الجلوس في السرادق المكتظ، فسار إلى غير وجهه معلومة ينتقل من طريق إلى طريق كيفما اتفق، وخواطره تحوم حول الشاب السعيد وما قاله عنه الشيخ ابراهيم. وانتهت به قدماه إلى محطة المنيا. وعند اقترابه من باﺑﻬا الخارجي وقفت أمامه سيارة فخمة، وفتح باﺑﻬا وإذا بالخارج منها الوجيه محمد بك المنياوي وفي صحبته غادة هيفاء مياسة القد، بادية الفتنة، وهبها الله عينين ساجيتين جمع فيهما ما وزعه على عيون الحسان الغوانى من الفتنة والروعة. وكانت ترتدي معطفًا اسود ويزين وجهها البرقع الأبيض الشفاف الذي تتمسك به سيدات الأسر التركية النبيلة، فأحس بقلبه يكاد يقفز من صدره، ولبث مكانه واقفًا ذاهلا غافلا عما حوله حتى غيبهما عن عينيه الساهيتين باب المحطة. ثم مضى ثانية في سيره وهو لا يشك في أنه رأى الوجيه مع زوجه وشعر عبدالرحيم بقهر غريب لا يجده إلا المظلومين المغلوبون على أمرهم. وخال الدنيا عدوا يتهكم به ويتشفى منه. فأحس نحوها بكراهية مريرة وتمرد مكتوم لا يجد منفذا ينفس منه عن كربه. وأنطوي على نفسه كأنه يرغب في مقاطعتها تعاليا عليها. والحق أنه يعجز كل العجز أن يصلها صلة تجعل له فيها قيمة أو شأنا. وتساءل منكرًا غاضبا: كيف أمكن أن يوجد الكمال على الأرض؟كيف غفل الدهر عن هذه السعادة المتناهية؟
وكيف جهلت الأحزان الطريق إلى هذه الجنة الآمنة؟ ألا من عيب يشينه؟
ألا من نقص يعتوره؟ جمال لم يكتس بمثله وجه رجل من قبل، وصحة لم يتمتع بمثلها جسم إنسان، ونسب يردد فخرًا وتيها كلما أوغل في الماضي اﻟﻤﺠيد، وثروة لا يحيط ﺑﻬا حصر ولا يفنيها الدهر، وزوجة تسير السعادة بين يديها سير الشعاع المنير بين يدي الشمس السافرة.
ومستقبل باسم مشرق بالآمال يبشر اليوم بالنيابة وغدًا بالوزارة والدنيا جميعًا طوع إشارة من يده. تعطيه ما يشاء حين يشاء، فإذا اشتهي طعامًا فدونه وما يحب من لحوم وطيور وفاكهة. وأن أراد شرابًا فله ما يشاء من ماء النيل وماء فيشي والكونياك والشمبانيا. وأن تاق إلى مشاهدة فالأرض جميعًا من الإسكندرية إلى البندقية. ومن سويسرا إلى اسكتلندا تفتح له ذراعيها وتتمناه. فيا للقوة. ويا للحرية. ويا للسعادة!.
رباه. وما نصيبه هو من الدنيا؟!.
وحين خطر له هذا السؤال علت شفتيه ابتسامة ساخرة مريرة.
ما هو إلا هيكل نحيل، شاحب اللون، غائر العينين، بارز الفكين، متهافت البنيان، يستقبل الفصول الأربعة ببذلة واحدة لا تتبدل حتى ييأس منها الرفاء ينكمش فيها شتاء كعصفور يتقى البرد تحت غصن شجرة عار، ويشوى فيها صيفًا في جو الصعيد الخانق.
وهو ابن جاد رضوان البائع البائس بمحل عطارة المارودى بالغورية، والله وحده يعلم من هو رضوان جده، فلو كان شيئا يذكر ما ألقى أبوه على ذكراه ستارًا من الصمت الأليم.
وأما ثروته فهي ستة جنيهات شهرية يرسل منها لوالده ثلاثة لتعينه على معاش أسرته المكونة من عشر أخوات وعمتين. فهو على بؤسه وفقره ليس الابن الوحيد لجاد رضوان، وأن كان محمد بك المنياوي الابن الوحيد لعلى باشا المنياوى. ويبقى له ثلاثة جنيهات يدبر ﺑﻬا حياته من مسكن ومأكل وملبس. وأن كان يدين لشيء غير هذا فهو الفول المدمس والطعمية والطماطم والجبن الرومى، فهي غذاؤه طوال أيام الأسبوع إلا يوم
الجمعة جعله عيدًا ﺑﻬيجًا فيذهب فيه إلى " لوكاندة الأمراء " ويطلب أرزًا ونصف رطل كباب وصنفًا من الخضر تشتد حيرته عادة قبل اختياره.
ومن الغريب أن نفسه كانت ﺗﻬوى الحركة والتنقل والمغامرات البعيدة، وتبرم بالعقود والجمود ولون الحياة الذي لا يتغير ولا يتبدل، ولكنه لم يعلم بمواقع البلدان إلا في كتاب الجغرافيا.
وأنى له أن يراها وكاهله ينوء بالفقر وسلاسل الوظيفة المرهقة التي تسلبه وقته كله وتحتم عليه أن يكون رهن إشارﺗﻬا أناء الليل وأطراف النهار؟ ولشد ما يعذبه الحرمان ويقتله التصبر. ولشد ما تتوزع قلبه الشهوات وتعبث به الأحلام والأخيلة! وكم من مرة يكون جالسًا إلى مكتبه بدار النيابة، ثم يشرد عقله فتغيب عن عينيه الأوراق والدفاتر، ويخال المكتب مائدة طعام حفلت بما لذ وطاب من فراخ محمرة ولحم مشوي وفريك بالحمام والبطاطس والرز والمهلبية والبقلاوة والكنافة. أو يستحضر له خياله صورًا فاتنة مما
علق به في الطريق فيرى صدرًا ناهدًا أو ردفًا ثقيلا أو لحظًا كحيلا أو ساقًا ممتلئة. وربما جذبته الأوهام إلى وديان بعيدة فيخلق لنفسه دنيا على هواه ويندمج فيها اندماجًا كاملا ويستسلم لأحلامها السعيدة ويظل كالنائم حتى يستيقظ على نداء زميل أو لذعة جوع.
ولكنه كان على كل حال يعلم - في أوقات يقظته - أﻧﻬا دنيا خيال لا تتحقق على الأرض أبدا، حتى رأى المنياوي بك، فآمن بأن تلك الدنيا التي حلم ﺑﻬا لنفسه تحققت في عالم الحقائق لغيره. ووقع ما كان بظنه معجزة.
وحين أنتهي من هذه الموازنة التعسة بينه وبين الشاب الوجيه تنهد من صدر ثقيل، ونظر فيما حوله إلى السماء والأرض والبيوت والدكاكين والسابلة، وتساءل: ترى هل يوجد في هذه الخليقة من يشعر بآلامي؟
ولكن كانت السماء جامدة متعالية، والأرض صلبة خرساء، والناس منشغلين ﺑﻬمومهم. فأحس بعزلة قلبية موحشة. وخال نفسه ميتًا في قبر مظلم، وعاد إلى حجرته الكئيبة كاسف البال، تنطوى نفسه على غيظ قاتل وثورة جامحة وحسد اليم ضاعف أثقال حياته، وجعلها سلسلة متصلة من الغضب والسخط والتبرم والواقع أنه كان مقدرًا له أن يرى من حقائق الدنيا أعجب مما رأى. واستطاع وهو جالس إلى مكتبه الحقير أن يطلع على أسرار حسبها عقله الشارد التائه أعجب ما في الدنيا من عجائب.
أتذكر حادثة الصراف حسين عارف الذي اختلس عشرة آلاف من الجنيهات منذ شهور؟ لقد أتضح للمحققين أن المتهم يمت بصلة القربى إلى الوجيه محمد بك المنياوى، فطلبوا إلى نيابة المنيا إجراء اللازم للإطلاع سرًا على الخطابات الواردة للبك من جميع أنحاء القطر لعل وعسى أن يعثروا بينها على خطاب من اللص الهارب يهتدون به إلى المنطقة التي يلوذ ﺑﻬا. وكانوا قد شددوا الرقابة على الحدود فغدا اللص محصورًا داخل القطر عرضة
لقيد البوليس في اى وقت. وظنوا لذلك أنه ربما دفعه الخوف واليأس إلى الاستغاثة بقريبة ذي النفوذ.
وكان الأمر خطيرا، لأن انتهاك حرمة الخطابات إجراء لا يلجأ إليه المحققون إلا في ظروف قاسية دقيقة، وزاد من خطورته ما يتمتع به البك من مترلة سامية في البيئات العالية والأوساط السياسية . وعرضت النيابة المسألة على القاضى، وأذن القاضي للنيابة بفحص الخطابات بعد اقتناعه بوجهة نظر المحققين.
وكان عبدالرحيم يتتبع سير التحقيق باهتمام شديد. فلما أنتهي إلى تلك النهاية تنهد ارتياحًا وأحس بفرح أثيم أن تتاح له فرصة الإطلاع على خطابات محمد بك الخصوصية. أليس هذا انتقامًا شافيًا من الذي خلقته الدنيا عدوا له وغريما؟ واستطاع بالفعل أن يطلع على الخطابات التي وردت للبك في فترة التحقيقات، وكان مرسلوها إما من الأصدقاء أو التجار أو بعض شباب الحزب الوطني ولم تكن تحوى شيئا ذا بال، ولكن أرادت المصادفات أن تكتب إلى البك أمه في تلك الفترة خطابين غريبين قد ينسى عبدالرحيم افتدى ماضيه وحاضره قبل أن ينسى مدلولها. وقد جاء في الخطاب الأول بعد المقدمات المعهودة ما يلي". اخبرني الدكتور بأنك لا تعنى بإتباع نصائحه وتعاليمه العناية المرجوة، وأنك تتهاون أحيانًا كثيرة فتأكل ما تشتهيه نفسك وربما تباطأت عن تجديد الأدوية، وقد يبلغ الاستهتار ألا تتعاطى الحقن في مواعيدها المقررة. والله وحده يعلم
بما أحدثه كلام الدكتور في نفسي من الحزن والأسف. لأني أدرى خطورة السكر وضغط الدم وخاصة إذا اجتمعا. فخذ حذرك يا بنى العزيز ولا ﺗﻬمل صحتك واتبع بدقة تعاليم الطبيب مهما كانت قاسية، فلا تذق اللحوم ولا الصلصة ولا المواد الدسمة، وامتنع بتاتًا عن تناول النشويات والحلوى، وواظب دائمًا على تعاطى الدواء عسى الله أن يقيك شر المرض ويصون لى ولك شبابك. واذكر دائمًا أن اى إهمال لتعاليم الدكتور هو بمثابة قضاء
أبدى على بالحزن والألم".
وأما الخطاب الثاني فكان مختصرًا لا يشفي غلة المتطفل ويدل على تحرج كاتبته ولكنه كان عظيم الدلالة وقد جاء فيه ما يلي "لماذا تشكو دائمًا يا بنى العزيز.
لماذا تكتب إلى دائمًا هذه الكلمة التي ينفر منها قلبي اشد النفور: (ليت الله يأخذ ثروتي ويهبني السعادة) والحق أقول لك أن قلبي لا يسلم بوجهه نظرك. وأنا على كل حال أمك، ويحق لى أن أقول أنى في هذا الشأن على الأقل أعظم منك تجربة ومعرفة، لذلك تلهمني نفسي بأن التوفيق بيتك وبين قرينتك ليس أمرًا مستحيلا كما تقول وتؤكد. فأرجو أن تتريث قبل أن تخطو تلك الخطوة الأليمة التي لم تنكب ﺑﻬا أسرتنا من قبل. وأنى اقترح عليك أن
تنفصلا مؤقتًا عسى أن يثوب كل منكما إلى رشده ويدير أمره بما يصون كرامته ويحقق له السعادة".
ولبث عبدالرحيم زمنا لا يدرى كيف يصدق ما طالعت عيناه، ولا كيف يفيق من الدهشة والحيرة اللتين استولتا على عقله. ومضى يتساءل تساؤل الحيران هل حقًا أن ذلك الشاب الذي رآه منتصبًا كالطود على منصة الخطابة عليل سقيم؟ وهل حقًا أم مرضين وبيلين يهددان شبابه الغض بالذبول والعناء؟ وهل حقًا أنه مضطر إلى الزهد الأبدي في أطايب الطعام والشراب ليدفع عن نفسه غائلة الهلاك والاضمحلال؟ ولمن خلق نعيم الدنيا إذن ما دام يعز على الفقير ويؤذى الغنى القادر؟ أيكون وهو الضعيف
المتهالك الذي لا يستطيع أن يتقى شرا أو يدفع بلية اصح منه بدنا وأكمل عافية واهنأ حياة.
أنه على اى حال لا يشكو مرضًا ولا يعانى مر الدواء وألم الحقن. نعم أنه لا يستطيع أن يأكل ما تشتهيه نفسه ولكنه يتناول يوم الجمعة ما لا يستطيع أن يذوقه البك الوجيه ألا ويعرض نفسه لشر المرض وغدره. وقد تتاح له فرص سعيدة فيدعى مع موظفي النيابة إلى ولائم فاخرة لمناسبات الترقي والعلاوات فيأكل بشهوة ﻧﻬمة ويشرب بشراهة مفترسة غير متحرج ولا خائف حتى ينتفخ بطنه ويفقد النطق والقدرة على الحركة.
يا عجبًا فما فائدة المال؟ كيف لا يقي صاحبه شر المرض والمخاوف؟
وكيف لا يشفيه اذا أصابه سوء؟ كيف ينسل حزن من أحزان الدنيا إلى بيت تعمر خزائنه الذهب والفضة؟
على أن ذلك جميعه بدا لناظريه تافها إلى جانب العجيبة الأخرى التي يدل عليها الخطاب الثاني وتساءل في ﺗﻬيب وخوف وعدم تصديق ترى هل يفرق شقاق بين قلبي الوجيه الثرى والغادة الحسناء التي رآها تخطر إلى جانبه كملاك كريم؟ يا له من تساؤل سخيف بعيد عن التصور. ومع ذلك فما الذي يدل عليه خطاب الأم الثاني؟ رباه.
أى شيطان ماكرًا استطاع أن يسعى بالفساد بين هذين المخلوقين الجميلين؟ أيطمع البك في امرأة تفوق زوجه حسنًا وجمالا؟ أم تتوهم الزوجة أنه يوجد بين الرجال من يفوق زوجها شبابًا وثراء ومكانة؟ فما الذي عكر صفو حياﺗﻬما وجعل البك يجأر بالشكوى ويصارح أمه بأن التوفيق أصبح مستحيلا؟ ما الذي جعل البك اﻟﻤﺠنون يتمنى الفقر الذي لا يفقه معناه ويزهد في ماله وجاهه؟
واشتدت به الحيرة وغلبه القهر ومضى يضرب أخماسًا لأسداس. ترى أيهما
المسئول عن هذا الشقاء الزوج أم الزوجة؟ أليس الظاهر من شكوى البك أن الزوجة هي المتجنية عليه؟ فهل جنت هذه الشابة الحسناء فهي لا تبصر ولا تعقل؟ كيف لا تحب هذا الشاب الكامل؟ وإذا لم تحب محمد بك المنياوي فمن عسى أن تحب من الرجال؟ وبدت له هذه الأسئلة التي يراها اﻟﻤﺠربون غاية في التفاهة والابتذال ألغازًا مستعصية على كل حل وعجائب خارقة تعدل المعجزات، وتوهم عقله المريض الذي أﻧﻬكه الحرمان أن هذه الحقائق دليل على الانتقام الإلهي من الأغنياء. فالدنيا تعطيهم مالا وجاها والله
يسومهم سوء العذاب والمرض، ولكن لماذا لم يعف الفقراء من ضريبة الشقاء والعذاب؟ ومهما يكن من الأمر فأن عبدالرحيم لم يشعر نحو غريمه بشيء من الرحمة أو الرثاء، وعلى العكس من هذا وجد في شقائه شفاء لحقده وسخيمته وعزاء عن حرمانه وقهره.

وقد التقى في ذلك الوقت بالشيخ إبراهيم سليم فأفضى إليه بالسر الرهيب وقال له دهشًا وهو يضرب كفًا بكف:
- أنظر يا أستاذ إلى عجائب الدنيا
ولكن الشيخ إبراهيم هز رأسه استهانة وقال برزانته المعهودة:
- الم تسمع يا بنى بالقول الحكيم: (لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع) وها أنت ذا تطلع على خبيئة اكبر الناس حظًا من حسد الناس فكيف تجده أحق بالرثاء منى ومنك. أليس كذلك؟
فتغلب طبع الشاب المريض عليه وقال بحدة:
- كلا يا شيخ إبراهيم. لست اقل منه شكوى أو شقاء. بل أن شقاءه يهونه المال أما شقائي فلا يهونه شيء، أتقول اخترتم الواقع؟ كيف الشيخ: واقع إذا كان يبسط أمامى مستقبلا مظلمًا تافهًا وفقرًا مدقعًا ويضع على عاتقي أبًا شيخًا وعشر أخوات وعمتين؟
فقال الشيخ:
- أن الله لا ينسى مخلوقاته: ألا ترى أنه يرزق الطير على غصون الشجر ويطعم النمل في سراديب الأرض؟
- أرى حقًا أن النمل يجد رزقه سائغا، أما عبدالرحيم جاد الكاتب بنيابة المنيا الأهلية فلا يذوق اللحم ألا يومًا واحدًا في الأسبوع، وأصبحت الطعمية تأكل معدتي وليس معدتي التي تأكلها
فقال الشيخ بلهجته الهادئة:
- القناعة ملاذ المؤمنون
- أنا جميعًا مؤمنون ولكننا لا نني عن الشكوى. الكل يشكو ويشقى. والظاهر أن الدنيا هي أصل البلاء. وكأنى ﺑﻬا تطرب لأنات الشكوى واحدة: فهز الشيخ سليم رأسه بقوة وقال بحدة:
- من اخطر الأخطاء التي نرتكبها أن نعلل الشيء بغير أسبابه الحقيقية فنخلق لأنفسنا مشكلا غير قابل للحل ومستعصيًا على العلاج، ومثل اﺗﻬامك الساذج هذا للدنيا مثل اﺗﻬام العوام للشيطان أو العين الحاسدة أو لتناول اللبن والسمك يوم الأربعاء. ما ذنب الدنيا؟ هل الدنيا هي التي جعلت المنياوي بك يفرط في الأكل والشراب والاستهتار حتى
وقع فريسة للأمراض؟ أم هي نفسه الأمارة بالسوء؟ الإنسان هو السبب الجوهري في إسعاد نفسه أو شقائها. أنظر إلى يا بنى . أنا إنسان سعيد لا يعرف الشكوى، وقديمًا خبرت بعين فاحصة وقلت لنفسي جادا: حرى بمن كان حوله كحالي ألا يأكل إلا كذا من الطعام وألا يرتدى إلا كيت وكيت من الثياب وأن تقتصر ملاهيه على هذا وذاك من الملاهي البريئة. واتبعت نظامًا دقيقًا لا أحيد عنه ولا أتطلع إلى سواه حتى أنه لا يوجد من
الطعام في الدنيا إلا ما آكله، ولا من الثياب إلا ما أرتديه ولا من الملاهي إلا ما أتلهي به.
فلم ارمق بعين الحسد من فضلهم الله على بالآلاء والنعم وتعزيت بذكر من فضلني الله عليهم فقدر لهم حظًا دون حظي وعشت حياتي قانعًا سعيدًا لا ينى لسانى عن الشكر والحمد. ولكل حياة سعادة توائمها يستطيع الإنسان أن يفوز ﺑﻬا اذا راض نفسه على الرضاء والقنوع وسداد النظر. ولو أنى تركت نفسي ﺗﻬيم جامح: يان الأمانى والأحلام الخلب لأضلتني شقاء وشكوى ولم تجدني شكواي شيئا. فقال عبدالرحيم بتمرد جامح:
" إذا كانت هذه هي القناعة فهي الموت. وأنا لا أدرى ماذا كان يكون حال الدنيا لو آمنت بحكمتك هذه. هل كانت تكتشف أمريكا؟ هل كانت تستغل المناجم وتستثمر الأراضى؟ هل كانت تقوم الثورات وتخلق المبادئ والأنظمة؟ هل أستطيع بالقناعة أن آكل ما تشتهيه نفسي، وأن اسعد اخوتى وأبى، وأن أشتى في أسوان واصطاف في الإسكندرية. وأن أتزوج امرأة حسناء واخلف بنين وبنات؟ هل السعادة أن اقنع نفسي بأنه لا يوجد طعام في الدنيا سوى الطعمية والفول المدمس. وأنه لا توجد ﺑﻬا
ثياب إلا هذه البذلة القذرة المهلهلة. وأنه لم تر فيها نساء قط؟".
فضحك الشيخ إبراهيم وقال:
"المسألة قناعة أو لا قناعة. والذي لا يقنع لا يقنع ولو ملك الدنيا. فكما يشكو عبدالرحيم افتدى يشكو محمد بك المنياوي. وإذا كان ذلك كذلك فما جدوى التغيير ؟ أراك ﺗﻬم بالاعتراض على. مهلا فقد وجبت صلاة العصر وليس لدى متسع من الوقت ولن أقول لك إلا كلمة واحدة: إذا استطعت أن تحول التراب إلى ذهب كأبناء أمريكا فافعل. وإلا فاقنع. هل تجد سبيلا غير هذين؟". ولكنه لا يستطيع أن يحول التراب إلى ذهب، ولا يستطيع أن يقنع ويرضى. وهل كان محمد بك المنياوى حول التراب إلى ذهب؟ وهل في مصر كلها من حول ترابًا إلى ذهب؟ ومع هذا فيها من
يتقلب على الذهب واغلبها يمرغ في التراب. ما ذنبه أن يكون هذا نصيبه من الدنيا؟
وأنتهي التحقيق في جريمة الصراف بالقبض عليه كما يذكر القراء. واستدعى
رئيس نيابة المنيا حضرة صاحب العزة محمد بك المنياوي ليخبره بما اتخذته النيابة نحوه من الإجراءات السرية، وحضر الوجيه إلى دار النيابة فرآه عبدالرحيم للمرة الثالثة، ولكنه لم ينظر إليه هذه المرة بالعين التي نظر إليه ﺑﻬا في المرتين السابقتين. نعم لم يزل يعده عدوا له، ولكنه عدو حقيق بالرثاء على إيه حال. وقد ابتسم لمرآه ابتسامة ساخرة كأنه يقول له لا تته عجبا، ولا تمش في الأرض مرحا، فأنا اعلم بما وراء هذا الحسن والشباب من البلاء
والشقاء.
آه لو يتكاشف الناس. آه لو تعلن سرائرهم للأعين كوجوههم وثياﺑﻬم!. ألا
يبدون حينذاك كألعوبة بائسة؟
ولكن ما عسى أن تكون اليد التي تلعب ﺑﻬم على هذا الوجه المزري؟ من الذي يحمل تبعة هذا السخف المحزن. الدنيا كما ظن هو، أم الإنسان نفسه كما يظن الشيخ إبراهيم؟.


* نقلا عن بوابة الحضارات
بوابة الحضارات | أقصوصة غير مشهورة لـ نجيب محفوظ.. الأراجوز المحزن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى