ألف ليلة و ليلة سهير المصادفة - سر خلود ألف ليلة وليلة..

أحيانًا يتساءل الجميع عن سرِّ خلود "ألف ليلة وليلة"، واحتفاظها بعد قرون وقرون بمكانتها على ذروة الهرم السردي العالمي، واعتبارها المُعلم الأول والأخير والملهم الأهم لكبار الروائيين في العالم. وتكون الإجابة ببساطة شديدة: لأن "ألف ليلة وليلة" بها العناصر الخام المكثفة غير المخلوطة حتى بشوائب رؤى مؤلفها / مؤلفيها، بل أن "الساردة" شهرزاد تردد في بداية كل حكاية: "بلغني أيها الملك السعيد". فما ترويه ليست مسئولة عنه، وليس لها فيه رأي. إن الخلفية الزمانية والمكانية وشخوص الملوك الحقيقية مثل: هارون الرشيد ووزيره جعفر البرمكي، والشاعر أبو نواس يظلون مفردات بالغة الضآلة، لكي يتفرغ المؤلف / المؤلفون لخلق شخوص الليالي المبهرة، بل أيضًا خلق جغرافيا جديدة وخواص بشرية جديدة مثلما حدث في "عبد الله البري وعبد الله البحري" فأصبح البشري يتنفس تحت الماء.

تحررت حكايات "ألف ليلة وليلة" إذن من كل ما يربطها بالزمان والمكان والأبطال الحقيقيين وانطلقت لتخلق سندباد، وعلى بابا والأربعين حرامي، وعلاء الدين ومصباحه السحري. وكان ولا بد مع فرادة خلق هذه الشخوص الخرافية أن يصاحبها خلق أدوت، وخواص، وصفات، وزمن، وأماكن خرافية مثل.. البساط السحري، ومصباح علاء الدين، وجن، وعفاريت، ومساخيط، وملاعين، وموتى يتركون مقابرهم ليلاً وشياطين ووحوش لم تعرفها الطبيعة قطُّ... وهكذا ستظل "ألف ليلة وليلة" على ذروة هرم السرد دون منافس حقيقي؛ لأنها ببساطة مخزن بذور السرد العالمي، ولأنها خلاصة تقنياته ولأنها مادة خلقه الخام.

كما سيظل مجدُ الرواية، وإنجازها الأول والأخير أنها لا تحاكي الواقع، ولا تردد أصداءه كما لو كانت تجاويف جبال؛ وإنما تخلقُ واقعًا موازيًّا، يحسبه القارئ واقعًا فعليًّا إذا كان خلقًا متقنًا.
ومجدُ الروائي المتفرد أنه يخلق شخوصًا من العدم، أو يرفع بعض النساء والرجال والفتية والفتيات والأطفال من مرتبة العامة والجموع الذين يراهم الرائي كتلة واحدة إلى مرتبة الأبطال. كما رفع "نجيب محفوظ" في روايته "اللص والكلاب" ــ مجرد لص تزخر بالعشرات مثله صفحات الحوادث في الجرائد اليومية إلى بطل سماه "سعيد مهران" ويحفظ القراء اسمه عن ظهر قلب الآن، أو كأن تُرفع "عزيزة" من مجرد عاملة تراحيل مثلها مثل الآلاف غيرها اللائي ينزفن أرواحهن في حقول دلتا مصر، إلى بطلة في رواية "يوسف إدريس" الحرام، أو أن تُرفع مجرد زوجة خائنة كعشرات الزوجات الخائنات إلى مرتبة البطولة مثلما فعل "جوستاف فلوبير" مع "مدام بوفاري". وبالطبع هي شخصيات تكاد لا تمت لمَن يشبهها من الشخصيات الواقعية بصلة؛ وإنما من فرط رسمها ببراعة، وبث روح مبدعها في طينتها، أصبحت أبطالاً حقيقيين، وإضافة إلى سجل بطولات العالم الخالد.

حاولت الرواية مرارًا وتكرارًا - ومنذ تبلورها كجنس أدبي واضح الملامح منذ أكثر من قرن من الزمان - الاقتراب من آنٍ إلى آخرٍ من صناعة بطلٍ روائي من أبطالٍ حقيقيين صنعهم الواقع بالفعل، ولكن أغلب المحاولات جاءت باهتة، وابتلع البطل الحقيقي البطل الروائي المزيف، والتهمه ولم يترك منه شيئًا حتى العظام. وهذا هو المتوقع من البطل الحقيقي أو النجم الشهير، فهو لم يكن بطلاً، أو نجمًا شهيرًا هكذا عبثًا؛ وإنما لأنه أيضًا سيدافع وربما إلى الأبد عن حدود بطولته أو شهرته، وعدم المَساس بمكوناتها، أو اللعب في تطور تاريخ صعود نجمه وحتى طريقة موته؛ فهو أحيانًا يقرر أن ينكل بالمؤلف الذي يحاول حلَّ لغز موته إذا كانت ملابسات موته غامضة. وكأن البطل الحقيقي أو النجم الشهير يقول للروائي: لن تستطيع أن تضيف إليَّ بطولة أو شهرة أكثر. لن تستطيع النيل من تفاصيل أيامي بتبديلها؛ فهذه التفاصيل هي ما جعلتني ما أنا عليه. لن تستطيع أن ترفعني إلى مرتبة أعلى فاتركني وحالي من فضلك، ولا تفسد عناصر بطولتي بإعادة زرع عناصر جديدة، ولا تحاول التلصص على لحظاتي الحميمية؛ فسبب كوني بطلاً شهيرًا هو إخفاء بعض شموس طريقي ونشر بعض الظلال، ولا تغير قليلاً أو كثيرًا في محطات مشواري الملهم.

كان الروائيون الكِبار أكثر فطنة، وهم يحومون حول الأبطال الواقعيين المعروفين بالاسم والمحفوظ تاريخهم بوقائعه، فهم ببساطة شديدة وببراعة فاتنة جعلوهم مهمشين في رواياتهم، حولوهم إلى وضع ثابت يشبه كثيرًا زمان أو مكان الرواية، أو وضعوهم كما كان يوضع تمثال هُبل في الجاهلية الأولى، يعبده مَن يريد عبادته، ويسخر منه مَن يريد السخرية منه. حولوهم إلى مجرد حالة مكررة كما الحوائط، والقصور، والأغنيات المنسية في خلفية المآدب الكبرى، ثم نزعوا عنهم رداء الشهرة، وألقوه على أكتاف أبطال روائيين متخيلين، رفعوهم من درجة عامة الناس إلى درجة البطولة المطلقة، وهنا صفق القراء لهؤلاء الروائيين. حدث هذا مع "خريف البطريرك" رواية الكاتب الكولومبي "ماركيز"، الذي لم يكتف بالتنكيل بديكتاتوره بأن جعل صفاته واحدة يستمدها من الكرسي الذي يجلس عليه مهما تعددت وجوه مَن يحمل لقب البطريرك، بل ثبَّت موسيقى جنائزية واحدة النبرة تنبعث من فتقٍ في خصية هذا البطريرك، ثم أطلق شخوصه الأبطال الروائيين المتخيلين في فضاء الرواية.

أظن أن الخلط بين طبيعة أدب الرواية، وطبيعة أدب السيرة، أو البيوجرافيا أو ما يُطلق عليه: التراجم الغيرية "تلك التي تتناول سيرة الغير"، قد يؤدي إلى المزيد من إنتاج روايات بالغة الهشاشة تعاني من فقر تميزها الأول وهو خلق بطلها الخاص، بدون الاستغاثة بشهرة الشهيرين بالفعل، وبدون الاتكاء على أبطال حقيقيين ملأوا السمع والبصر في الوقع بالفعل. وقد تظل إعادة إحياء شهرة البطل الحقيقي هي بالفعل وظيفة الفنون الأخرى كالمسرح، أو السينما، أو الدراما، وعلى الرغم من ذلك، كم فشلتْ أعمال سينمائية ودرامية حاولت الاقتراب لإعادة تمثيل الأبطال الواقعيين حتى يُسمح لهم أن يعيشوا كأبطال شهيرين كما قررت علينا وعليهم سيرتهم الذاتية!! إلا أنه كثيرًا ما يرفض الأبطال والنجوم الذين رحلوا عن عالمنا تناول هذه الفنون السمعية والمرئية لهم، فيلفظونها وعادة ما تتبرأ منها الجماهير وترفض إلصاقها ببطلهم المحبوب
قائلين كلمتهم الباترة والأخيرة: هذا لا يشبه زعيمنا جمال عبدالناصر. لا يشبه عبد الحليم حافظ. أو الملك فاروق. أو... الخ.

عرف الأدب العربي أدب السيرة كجنس أدبي مستقل له قراؤه ومريدوه، كتب فيه "عباس محمود العقاد" عبقرياته السبع الشهيرة.. وهي لم تكن تأريخًا لسير أصحاب العبقريات؛ وإنما كانت رؤية فكرية وأدبية لمشوارهم العبقري للبحث عن ولادة ونشوء كلمة العبقرية. كما كتب عدد لا بأس به من الصحفيين والكُتَّاب كتبًا سمُّوها باسم أبطالها من النجوم الشهيرين، على الرغم من سرد تأملاتهم ومشاعرهم والاعتراف بمواقف حدثت لهم معهم بأسلوب أدبي، ولكنهم لم يخطر لهم على بال كتابة كلمة "رواية" على غلاف كتبهم، مهما بلغت درجة حريتهم في التعامل مع بعض الأحداث المهمة في حياة بطلهم الحقيقي أو استكمال ما خفي من سيرته، أو إسباغ تصرفات لم يكن يقوم بها، أو الإسهاب في سرد مشاهد من حياتهم هم ككُتاب حال تقاطعها مع حياة بطل كتابهم.

في الآونة الأخيرة يقوم بعض الروائيين بعمل أبحاث شاقة وطويلة حول شخصية بطل حقيقي أو نجم شهير ما، ولمَ لا وقد وفرت ثورة المعلومات على الشبكة العنكبوتية مراجع هذه الأبحاث؟! ثم إنهم يجمعون ما تيسر من تقاطع مشاعرهم مع البطل حتى وإن لم يعاصروه، ثم إنهم يكتبون على كتابهم كلمة رواية، في خلط واضح بين أدب السيرة الذاتية، وأدب السيرة، مما يجعلنا نتساءل: هل تسير الرواية إلى حتفها؟ والمدهش أن ما يشبه تساؤلي هذا أطلقه "توماس كليرك" من قبل في كتابه: "الكتابة الذاتية: إشكالية المفهوم والتاريخ"، أطلقه ليس على أدب السيرة، بل حتى على أدب السيرة الذاتية، فلقد اعتبر أن: " السيرة الذاتية هي النموذج الواضح للتراجع الجمالي عن المكتسبات الفنية التي حققتها الرواية على الخصوص".

المزعج في الأمر ليس محاولات الروائيين الخلط بن الأجناس الأدبية، بل أحيانًا الفكرية، أو السياسية، فمؤكد أن الرواية مثلها مثل الأواني المستطرقة، تستفيد من اختلاف أشكال الكتابة كلها لكي تصب في النهاية في محيطها الهادر الأكثر اتساعًا، ولكن المزعج في الأمر حقًّا تكريس الإعلام وبعض النقاد والجوائز لهذا الخلط، وهم يعرفون تمامًا أنه لا يمت لجنس الرواية بصلة، حتى إن جائزة نوبل للآداب، وهي أكبر وأهم جائزة أدبية في العالم، لم تجد مَن تمنحه دورتها هذا العام "2015" سوى كاتبة تحقيقات صحفية هي الكاتبة البيلاروسية "سفيتلانا ألكسيفيتش"، ويبدو أن مَن حاز الجائزة هذا العام ليست المؤلفة، وإنما أبطال سفيتلانا الواقعيون، بأسمائهم الحقيقية، ومعاناتهم التي احتوتها "ريبورتاجات" صحفية كثيرة قد تتفوق على "ريبورتاجات" سفيتلانا نفسها، وبألسنتهم الطليقة في وصف مشاعرهم في أثناء وعقب الكارثة النووية الأكبر في العالم، وبأصواتهم ولعناتهم وصرخاتهم وصلواتهم الخارجة من جحيم تشرنوبل.


- د. سهير المصادفة - روائية مصرية ورئيس الإدارة المركزية للنشر بالهيئة المصرية العامة للكتاب.


* نقلا عن بوابة الحضارات
بوابة الحضارات | الرواية و أدب السيرة.. سر خلود ألف ليلة وليلة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى