ألف ليلة و ليلة عبدالرزاق بوكبة - حكاية معتقلة.. كتاب الأرض وله ثلاث أرواح

لم أكتشفْ كتاب/ كتب «ألف ليلة وليلة» تحت ضغط سلطته في النقد والمجالس والإعلام، فهو من الكتب التي تملك سلطة ضاغطة تدفع الناس إلى البحث عنها وشرائها أو استعارتها، فيجدون أنفسهم قد وقعوا في سلطة النص/ السحر، تؤدي بهم إلى سلطة ثالثة أسميها سلطة التبشير بالنص، وهو بهذه الأرواح/ السلطة الثلاث يشبه الكتب المقدسة، لا من حيث الانتماء إلى السماء، بل من حيث الجذب والانبهار والولع بالحديث عنه. إنه كتاب الأرض بامتياز، وهو تخلق حكاياتها/ أساطيرها.

اكتشفته صدفة في النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين، وأنا في عز الطفولة والعزلة، في قرية جزائرية موغلة في الفطرة. لا كهرباء. لا طريق معبدا. لا معلبات. لا جرائد ولا مكتب بريد، لم تكن إلا الحكاية التي تمنح الجدة سلطة خاصة، وتتوجها سيدة على الليل والأسماع. أي أن كتاب الحكاية الأول «ألف ليلة وليلة» دخل عالمي وأنا مدجج بروح الحكاية.

كانت قرية «أولاد جحيش» في الشرق الجزائري عام 1967 قد قررت أن تبني جامعَها، منفصلة عن قرية مجاورة كانت تملك جامعا، وقد تكفل بمصاريف البناء والتأثيث عمال القرية المهاجرون في فرنسا. ولا أدري إلى غاية اليوم، من الذي أرسل من فرنسا، تشكيلة الكتب التي شكلت مكتبة الجامع. مصاحفُ وكتب ليس موضعَها في العادة مكتبات الجوامع. كتاب «الأمالي» لأبي علي القالي، وكتاب «كليلة ودمنة» لعبد الله بن المقفع، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبد ربه، وكتاب/ كتب «ألف ليلة ولية».

مكتبة خاصة جداً

كان عمري اثني عشر عاماً، حين شرعت في التهام هذه المكتبة. كنت أترك الأشغال كلها وأهرب إليها، وهو ما كان سبباً في أن أحظى بوجباتٍ سمينة من الضرب من طرف الجد والأب، إذ كانا يرفضان أن أترك الحقل أو المرعى، وأنزوي في الجامع لأقرأ كتباً أكبر من سني. هنا لابد من الإشارة إلى أن السكان كانوا يعاملون هذه الكتب على أنها مقدسة، ويقسمون عليها عند النزاعات، فهم لا يقرؤون ولا يكتبون، ويرون أن كل مكتوب هو قرآن عظيم.

مازلت إلى غاية اليوم، أتذكر تلك الرهبة التي كنت أشعر بها، وأنا أفتح الباب الخشبي للجامع، فيحدث صوتاً يحفر في الروح. مازلت أذكر أصابعي وهي تزرقّ من البرد، وأنا عاكف على القراءة. مازلت أسمع صوت الجوع، وأنا أفضل إكمال الكتاب على العودة إلى البيت لأنال لقمة.

لا أجد حرجاً في القول إنني نسيت لحظاتٍ كثيرة حدثت في حياتي، لكنني لم أنس أول مرة اكتشفت فيها جسدي، وأول مرة التحقت فيها بالإذاعة، وأول مرة لمست فيها كتاباً منشوراً لي، وأول مرة واجهتُ فيها «ألف ليلة وليلة» في مكتبة الجامع. نظرتُ إليه/ نظر إلي. ابتسمت له/ ابتسم لي. مدّ إلي يده/ مددت إليه يدي. نسيت نفسي، نسيت برد الأصابع. نسيت الخوف من جدي وأبي عند العودة. نسيت لغتي الفصيحة الصارمة، والتي تعلمت أن الخطأ فيها هو خطأ في حق كتاب الله. هناك كانت المرة الأولى التي أتذوق فيها جماليات الخطأ/ اللحن، وأكتشف أن هناك لغة خاصة بالأرض مثلما هناك لغة خاصة بالسماء.

وقت مستقطع ألف ليلة وليلة هو كتاب ألفته حاجة الإنسان/ المكان العربي الجديد، في ظل بنيات جديدة، إلى لغة خارجة عن المعيار الذي هو ثمرة بنيات قديمة، فبعد ثلاثة قرون من الخوض في تجربة المدينة، حيث دخلت الشرفة والحمام والفندق والحان والمقهى والقصر والبستان إلى الفضاء العربي، وهي كلها بنيات مستجدة خلقت قاموسها المضبوط على الحياة في تعابيرها الجديدة المختلفة، بالموازاة مع رفض المؤسسة اللغوية المتحالفة مع المؤسسة الفقهية والسياسية التي نصبت نفسها وصية على سلامة العربية، فوقفت في الاستشهاد على صحة اللغة عند بشار بن برد. هنا بالضبط ظهر كتاب «ألف ليلة وليلة»، بوصفه كتاب الحياة الجديدة الذي يدين القوالب القديمة ويتمرد عليها، ويطرح مفهوماً جديداً للبلاغة.

إن ظهور هذا الكتاب كان الهزة الأولى التي وضعت البلاغة الرسمية أمام سؤال مواكبة نبض الحياة. بلاغة العيش وليس بلاغة الموروث، وقد تعززت بهزة ثانية هي تجربة الموشحات في الأندلس، ثم هزة الكتاب المسيحيين العرب بداية القرن العشرين، في مقدمتهم جبران خليل جبران، ثم هزة المسلسلات المدبلجة، وها نحن اليوم بصدد أن نجني ثمار الهزة الجديدة/ هزة مواقع التواصل الاجتماعي.

سقوط الجدرانلم يكن مسموحاً بإخراج الكتب من الجامع، لكنني أخرجت كتاب «ألف ليلة وليلة». ذلك أنني أحسست بأنه كتاب الهواء الطلق، ولا يقرأ بين الجدران المغلقة. قرأته في الغابة والوادي والسهل والتلة والجبل، تماماً مثلما كان يسافر السندباد فيه، صادقت كائناته واتخذت منها عائلة جديدة. من هناك بدأ الكاتب والمسافر والحالم والطموح والمغامر يتفتق داخلي.

حين كبرتُ وتوسعت قراءاتي، وجدت «ألف ليلة وليلة» في كتب الغربيين. بل إنه كان نواة مشاريع أدبية كثيرة مثل مشروع بورخيس، وقد اعترف هنري ميللر في كتابه «الكتب في حياتي» بكونه يدين لهذا الكتاب بالكثير، وليس هذا ما يثير دهشتي، ما يثيرها أن شهرزادهم تحررت تماماً من سيف شهريارهم، في حين بقيت شهرزادنا محكومة بسيف شهريارنا حتى اليوم. بل إننا ضيقنا مساحة حكيها، فلم تعد تمتد إلى غاية الصباح. أمة مازالت تعتقل الحكاية.

مخرجعدت قبل مدة إلى القرية، فلم أجد الجامع القديم، لقد هدموه وأقاموا مكانه مسجداً جديداً، سألت عن المكتبة العظيمة، فقيل لي إنها أحرقت بحجة أنها كانت تضم كتباً لا علاقة لها بالدين، فتشت في المكتبة الجديدة للمسجد، فلم أجد إلا سيد قطب يحرم الخروج على حكايته. شعرت بالاختناق. انطلقت إلى الخلاءات التي قرأت فيها «ألف ليلة وليلة»، وأطلقت صرخة رددتها الأمكنة: شهرزااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى