أشرف الخريبي - عن القاص المرحوم حسين البلتاجى

قاص موهوب حتى النخاع، إنسان موجوع حتى البكاء، صحفي بالقطعة \ فران \ عرضحالجى، هذا كان الأديب والقاص المرحوم حسين البلتاجى من مواليد قرية شرباص – المطلة على نهر النيل وهى إحدى قرى محافظة دمياط- التي تربى فيها الأديب الجميل الذي كان يحب " شرباص " قريته التي ولد بها ونشأ وتعلم منها الكثير حيث ظهر في كتابته بعد ذلك غير أنه تركها وانتقل إلى بيته المتواضع المنقوع في بركة المساكن الشعبية بالشهابية بدمياط المدينة التي سرقت النار وبقى في شقة متواضعة تطل مباشرة علي الجبانة من ناحية وفى جانب أخر منها تلمح الطريق العمومي لسيارات فارهة تمرق من أمامها من بعيد في تلك الحجرة الصغيرة التي تحوى المئات من الكتب المُكدسة على الأرض وعلى الأرفف وطاولة صغيرة وبعض أوراق خالية تداعب الحلم لديه وتتراكم في وجدانه صعوبة الحياة وشدتها، تتفاوض مع أرقه المستمر وسؤاله الدائم عن الواقع وإمكانياته. فتحة شباك ضيقة تطل على الطريق حيث يجلس البلتاجى بوجه بشوش رغم ألآمه التي يعيشها في صمت رتيب يتكرر مشهدها اليومي دون طائل، هو فيها وحده يتنسم هواء صيف خافت إلا من حشرجة في صدره وسعال لا يفارقه. ووجها لا يمكن أن تقرأه أو تتوقع ما يقول إلا أن مات محزونا كما كان يتوقع.
منطقة الشهابية كانت مقره الأخير حيث استقر الإنسان المبدع حسين البلتاجى الذي كان محبوبا فيها إلى درجة كبيرة بين الأهالي ينادونه عم حسين.. يسألون عنه دوما ويعرفون حاله هذا هو منتهى ما يحب البلتاجى المبدع وكان أهم ما يميزه في علاقته بالحياة أن ينام مستريح البال لا يفكر في شيء وبدون مليم واحد تبقى في جيبه من طلعة الشمس في نهار حارق إلى ليل خاوي حتى من ضحكة صغيرة تُبهج القلب الشقيان والمعجون بالورد والتعاسة معا، تعلم بمرور الأيام وخبرة الحياة وشدتها أن كل ما هنالك أن ينام في هدوء ويقول بصخب لذيذ "ملعون أبو الدنيا "،
مهن عديدة عمل فيها بداية بمهنة خباز يقف أمام نار الفرن تشوى يده التي يكتب بها كل هذا الجمال في نصوصه الإبداعية ولا يشكو أبدا رغم فقره الشديد وصبره الأشد على صعوبة الحياة وهذيان الواقع المرير حيث يعيش الحياة دون كلام كثير يرتد إلى صمت ويأس يحيله إلى صمت أكثر رتابة من الصمت نفسه حيث قضى الكاتب حسين البلتاجى فترة شبابه يمتهن عدة مهن كان أهمها في حياته مهنة فران رغم حصوله على درجة تعليمية حيث حصل على الابتدائية ثم الإعدادية ثم الثانوية العامة التي كانت تسمى التوجيهية في هذه الفترة حيث لم يُكمل تعليمه الجامعي بسبب ظروف أسرية قاسية خاصة الظروف المادية في ذلك الوقت وتوجه الشاب المكافح إلى القاهرة لكي يلتحق بالعمل في الصحافة في مجلة اسمها البعكوكة ،ذلك عام 1952 حيث تفتح وعيه على أفاق ثورة يوليو وتربى على مشاعرها وعقليتها الجديدة وجيلها في هذا الوقت وأصبح جيل يوليو هو الجيل الذي ينتمي إليه البلتاجى وهو جيل الخمسينات والستينات وعمل في هذا الوقت مع الكاتب محمد كامل حته في مجلة البعكوكة وهى مجلة سياسية فكاهية ساخرة والتي من خلالها تعرف على العديد من الأسماء الأدبية أمثال الدكتور إبراهيم حمادة والكاتب مصطفى كامل فليفل والروائي محمد كامل محمد والروائي المعروف صبري موسى وعدد كبير من الأدباء خلال ذلك الوقت من أبناء جيله أسماء كثيرة كانت معروفة فى الوسط الأدبي في هذه الفترة من الخمسينيات وانتقل الكاتب حسين البلتاجى بعد ذلك للعمل في مجلة قصتي التي كان يرأس تحريرها د\ صبحي الجيار وعمل بها كمندوب إعلانات الذي من خلالها تعرف على الواقع الأدبي في القاهرة واستطاع خلال هذه الفترة أن يتفرغ قليلا للكتابة القصصية التي كانت مُسيطرة على أجواءه الحياتية والتي قام بنشرها في الدوريات التي صدرت في هذه الفترة غير أنه انتقل إلى العمل مع الأستاذ حافظ محمود وكان قد تعرف إليه البلتاجى ونشأت بينهم صداقة شخصية فعمل بالقسم القضائي بالجريدة (بجريدة القاهرة المسائية)
وتقدم بطلب إلى نقابة الصحفيين للحصول على كرنيه نقابة الصحفيين إلا أن الأقدار قد منعت استكمال الأمر حيث دق بابه صباحا موظف التجنيد لطلب تجنيده في خدمة الوطن وتقدم لأداء الخدمة العسكرية وانقطع خلال هذه المدة -مدة الجيش- كل صلة لأديبنا البلتاجى بالقاهرة وعالم الإبداع فيها غير أن الروح التي كانت تتلمس أرجاء هذا الشاب لم تفقده في أى وقت شفافية وصدق وأمانة الكلمة فعاد إلى دمياط مقهورا بفعل الواقع مهزوما كآخرين إلى واقعه المهموم به وعاد إلى الكتابة ثانية في بلده الصغير. لكي يعمل في مهنة أخرى جديدة بالتأمينات الاجتماعية بدمياط متعاطفا مع أحوال الخلق كما كان يقول مواسيا كل من سأله عن شيء خاص بالتأمينات الاجتماعية والروتين المعقد بالدولة ويتلمس بنفسه حجم المعاناة التي يراها في الإنسان ويراها هو في المظلومين جانب شديد الأهمية في نصوصه بعد ذلك وأخيرا عمل حسين البلتاجى عرضحالجى يجلس في جانب من الشارع أمام مكتب السجل المدني بدوسيه ممتلىء باستمارات البطاقات التالفة والفاقدة، يخاطب بلغة عذبة جميلة كافة الهيئات الحكومية في طلبات الزبائن الذين يثقون في قدراته الخطابية. ويمارس فن القصة ليلا في حجرته الدافئة بالشهابية وحيدا صامتا بعد نهار متعب مليء بالحسرة.
كان الأديب حسين البلتاجى فقير، يعول أسرته بمسئولية حقيقية وصادقة، كان فنانا موهوبا قاصا تلقائيا شفافا ودافئا رغم رؤيته اليائسة للحياة ومن هنا كان يكتب عن الطبقة الريفية والعاملة التي كان واحدا منها وعاشرها وعاش فى كنفها فقيراً إلا من موهبته وإنسانيته ومقدرته الفذة على الكتابة الجميلة المُبدعة كل الوقت وفىّ إلى إبداعه ومؤمنا بقضيته أقصى حدود الوفاء وكذلك مع زملاءه وأصدقاءه الذين عرفوه عن قرب. صدرت مجموعته القصصية الرقص فوق البركان عام 1989 عن سلسلة اشراقات أدبية والمتوحشون مجموعته الثانية التي صدرت بعد ذلك بوقت
قام الأديب حسين البلتاجى بنشر أعماله الأدبية خلال الفترة الأخيرة من حياته في معظم الدوريات العربية والمصرية والتي تربو على أكثر من ثلاثة مجموعات قصصية لو تم تجميع هذه الأعمال في كتاب حيث تضم أكثر من مائة نص قصصي حيث كان البلتاجى يرفض النشر بل يقاطعه أحيانا إلى جانب إهماله هو نفسه الشخصي في متابعة نشر أعماله الأدبية التي كانت في معظمها أعمال تمس واقعه الأجتماعى وتبين مدى صعوبة التجربة ومرارتها عليه تجربة الحياة التي خاضها البلتاجى بكبرياء وترفع أحالت معها أحاسيسه إلى فرن الشواء كي تنصهر في رؤيته الحميمة للواقع الذي كان يعمل به وظهرت بقوة في كتابته
وحمم البراكين التي كان يقف عليها في الرقص فوق البركان كي تراه يغنى للنور في أغنية للنور أو في قصته الجميلة الأرض في باطن الأرض كي تتحد أزمنة العشق والموت في هستيريا الواقع أو فانتازيا الأحداث والمشاهد والشخصيات كان البلتاجى نموذجا لشخصية مكافحة شديدة الصلابة والقوة في مواجهة واقع مرير شديد التأزم، شديد الصعوبة قاسى فى تعامله مع هذا الكاتب المرهف الذي بقى محافظا رغم كل شيء على إنسانيته وصمته المعتاد وعزلته التي أجبره عليها واقعه.كان دائما ما يقول أكتب حينما يكون لدى الرغبة في الكتابة وليس عندي استعداد أن أضحك على القارىء أو على نفسي أو أضحك على بطلي وأقول انه يأمل في شيء لا يوجد في الواقع كما كان واحدا من أبرع القصاصين من جيل الرواد في دمياط وهو جيل اشتهر بحبه للإبداع على كافة المستويات الثقافية من كتابة للمسرح وكتابة الشعر والقصة والرواية والنقد إلى كافة الفنون الأخرى ولازال البلتاجى برغم مرور السنوات وملاحقة الأحداث نراه روحا تحلق في فضاءنا وجودا وصخبا وجمالا وإبداعا مرسوم بعرق الكادحين بصبر الإنسان وتألقه وجماله الذي لا حد له بفوضاه وروحه المهزومة تحمل ثقل الأيام ماضية إلى مالا تعرف حيث الممكن والمتاح والحلم، كان القاص والمبدع حسين البلتاجى واحد من القلائل جدا الذين اخلصوا لفن القصة في دمياط .
"كان الحزن رابضا كصخرة داخل القلب وشعور كالموت يتسلل في عمق الروح فأري كل شيء رماديا شتويا باردا"
هكذا تلخصت رؤية القاص الجميل للعالم رماديا وشتويا وباردا ملئه الحزن حتى النخاع ومن داخل القلب غصة وألم وهموم لا تنتهي عن مسئولياته التي حملها على كتفيه سنوات من الفقر والخوف وهو يقول ملعون أبو الدنيا غير أنها تسللت إلى روحه الرحيمة وأفقدته قدرته على الصعود ثانية ليترك مكانه الحقيقي وينزوي في أركان بيته القديم يُقلب في الكتب ثانية كان هذا هو البلتاجى.روح تحلق على الدوام بين ثنايات الأشياء إنسان تتلخص فيه الإنسانية بكل مقوماتها في حوارات كثيرة له كان ينظر للأدب بروح متشائمة تسيطر عليه مشاعر وأحاسيس ألا جدوى، يأس يخالط فوهة المفردات لديه رغم ما كان يبدو عليه من مرح أحيانا إلا انه كان يقدم ما لديه بإخلاص وعذوبة رغم حياته الصعبة والغير ممكنة في آن واحد تراه فيخلق لك عالم منافي تماما لما يمكن أن يكون عليه ولما كان يبدو فيه، وكأن ليس به ثمة آلم يعترى فؤاده المحزون على الدوام
كان البلتاجى يقدم نماذج من الواقع ومن المحيطين به يجسد وجود هذه الشخصيات وعوالمها المختلفة لقد تأثر البلتاجى بالكاتب الروسي الشهير -كما قال هو نفسه -مكسيم جورجى وكان يشبهه إلى حد بعيد في أن كل منهما ينقل واقعه المأزوم على الدوام إلا أن البلتاجى كان أكثر انغلاقا نحو الذات مُنفتحا على ثراءها ومعاناتها التي تحّمل منها هو نفسه جانب كبير وظهرت عبر كتاباته وأعماله القصصية الثرية ولم تكن رد فعل للواقع بقدر ما كانت نقل للظلم والقهر الحادث لهذه الشخصيات عبر وجودها المرير المخنوق بكدر الحياة وتعاستها التي لم ير فيه الكاتب أى تبديل أو تغير للأفضل رغم بكاء أماله الدائم في الغد لم يكن البلتاجى ينظر للحياة من جانبها المشرق أمثال الكثيرون من كتاب القصة ولكنه كان يرى الواقع مثلما يعيشه باهت وبارد وشتوي
كان حسين البلتاجى يعيش أزمة مادية على الدوام يعانى من فقر شديد، الذي هو وسيلة الحياة في كثير من الأوقات وخاصة أن لديه أسرة تعتمد عليه وقد تجلى هذا في حياته الصعبة، وسخطه العارم، وتقلبه بين مهن كثيرة.
فالشخصيات لديه غير فاعلة وسلبية على الدوام مُحاصرة ومُخنوقة، أمامها كم هائل من الحواجز التي لا تستطيع عبورها أو حتى في الطرف الأخر من الحياة وان كانت خلال الأحداث تبحث دوما عن مخرج لها من أزمتها سواء أزمة الواقع أو أزمة الوجود الذي ينتمي إليه البلتاجى حيث كان يرى القسوة إحساس كريه ينتقل أحيانا إلى البشر أنفسهم وتصبح القسوة هي فعل الحياة الذي أدى بعد ذلك إلى عزلته والى موقفه النفسي في الفترة الأخيرة من حياته من الإحساس المخلوط بالأسى وإحساس كريه سيطر على جوانحه من اليأس والقنوط وألا جدوى كما ذكر هذا في خطابه له المرحوم الكاتب والأديب محمد مستجاب في رسالته إلى صديقه حسين البلتاجى يقول الكاتب محمد مستجاب فى نص خطابه
أنت صديقي المسافة بيني وبينك تمتد لملايين الأميال وتنضغط حتى تقترب من شغاف القلب والعقل. أكاد أراك كتلة عذاب في بيتك الذي لا أعرف تكوينه وشعلة من نار كابية تدور حول الأيام القديمة، تتماوج بالذكريات أيام أن كنت تكتب بخطك الرقيق الجميل في عصر محمد حافظ رجب المزدهر عندما قلب الفاعل مفعولا والشرطي شجرة والحمار زهرة وحرف الجر بحرا.وانزوي كلاكما بعد ذلك. انقلبت عيونكما للداخل كما انقلبت عيون أنيس ذكي بطل نجيب محفوظ في ثرثرة فوق النيل وأقمت في شهابية دمياط تشكو الزمن والمسئوليات وحقوق العائلة وتربية الأبناء.وكأن التمادي في الكتابة يعوق آداب الواجبات والانغمار في الأدب يسلبك القدرة علي الفعل والمواجهة، والانغماس في الفكر يغمرك بالوجل والخوف وليس ذلك صحيحا يا صديقي فإنما الذي حال دونك والاستمرار هو أنت وليس الأدب.تكوينك المغلوط المخلوط بالا حساس بعدم الجدوى، نعم عدم الجدوى، هذا الخطر الوهمي الداهم الذي يقيم المتاريس أمام حركتك، ويحفر في وجدانك كهوف اليأس ويردم في جوانحك بوادر الأمل.وكلما حاولت يا صديقي عبور حالة عدم الجدوى اصطدمت بهؤلاء اللذين أسرعوا باحتلال موقعك هؤلاء محدودي الموهبة ذو الخطوط الرديئة والأفكار المتهاوية والأمنيات الساذجة أصدقاؤك اللذين حولك هم أعداؤك أيضا لكنك تزعم انك لا تري فيهم ما يراه الآخرون من باب التهذيب وحسن الأخلاق وهدوء السر مع أنك تعلم أن أديبا غير موهوب يصل إلي موقع لا يستحقه أو ينشر أدبا لا علاقة له بفن الأدب.يكون في الوقت نفسه قد سبب أذي لكاتب موهوب مثلك وأنت بالذات أنت الذي فعل فيك ذلك ليست مسئوليات الأسرة أو مطالب الحياة أو اضطراب العالم أو نكوص الأخلاق كما تزعم وكما تدعي ، بل لضعف فيك أراه رقيقا كجناح فراشة ، وكثيفا كجلد خفاش ، أباح لكل الهوام والحشرات والغربان وغير الموهوبين أن يحلقوا في سمائك ويعوموا في بحرك ويقتاتوا علي أمنياتك ، لتنزوي أنت ويظلوا هم بخطوطهم الرديئة وجهلهم العميق يمارسون نوعا أثيما من التراحم عليك .أنت لا تستحق ذلك مع أنك لست فردا واحدا بل كثيرين أكاد أعرفهم واحدا واحدا دون حساب للمسافة التي تمتد بيني وبينكم لأنها تنضغط حتى تقترب من شغاف القلب.وأنت بالذات يمكنك آن تنفض الغبار والأيام\ الخوف والأصدقاء لتستعيد الذي كان هذا نص خطاب الأديب الكبير المرحوم محمد مستجاب لأديبنا العظيم المرحوم حسين البلتاجى ، هكذا ننظر إلى روحك الجميلة التي تحلق حولنا في دعة وسلامة وآمان نتمنى أن نوفيك حقك وان ننجز لك شيئا بسيطا جدا مما يستحق هذا المبدع والأديب والكاتب الجميل الإنسان بالدرجة الأولى.


* من كتاب: مقدمة لرؤية العالم معكوساً

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى