محمد العون - وداع.. قصة قصيرة

كنت اشعر ببعض الأسى ، ونحن فى طريقنا للمطار ، نتكلم ، نضحك كعادتنا ، لكن جو الوداع الثقيل كان يجثم على نفوسنا ، فيشوب مرحنا افتعال نغطى به مشاعرنا ، لم أدر إن كان ليل الشتاء ، أم ذلك الشعور هو الذى جعل الطريق يبدو موحشاً.
أما هشام ، فكان صامتاً ، ولم يشاركنا إلا بكلمات عابرة ، برغم أنه كان أكثرنا مرحاً واندفاعاً ، إلا إن القلق طغى على طبيعته رغماً عنه ، وبدا شارداً إلى ذلك العالم البعيد الذى ينتظره هناك ، حيث لا أصدقاء ولا أهل !
فى صالة المطار الفسيحة ، أخذت ألحظ حركته المتوترة ، يقبض بأصابعه على جواز السفر الذى يحمل التأشيرة ، تلك التى بذل من أجلها المساعى وداخ حتى حصل عليها ، ومن بين صفحاته برزت حواف تذكرة السفر ، تجسد حلمه ، الذى أوشك أن يتحقق بعد عناء ، أين فرحته العارمة ، يوم تكللت جهوده بالنجاح ، كاد يطير.. وهو يزف إلينا النبأ ، وبدا متعجلاً ، لا يطيق البقاء ، متحمساً لمغامرة الهجرة ، تلمع عيناه بالسعادة.
يتلفت ، يبحث عن حقيبته ، وهى بجانبه ، لم أره يوماً بمثل هذا الارتباك ، يتحسس جيب جاكتته ، يطمئن أن رزمة الدولارات الصغيرة ما تزال فى موضعها بداخله ، يراجع أوراقه للمرة الثالثة.
يمر سرب من المضيفات الأوروبيات ، جميلات ، رشيقات ، على وجوهن جدية أقرب للصرامة ، الخطوات منتظمة ، لا تعرف التثنى والبطء كالشرقيات ، من العلامة المعلقة على زيهن ، عرفت أنهن من طاقم الطائرة التى يسافر عليها ، غمزت له وأنا أقترب منه ، مشيراً بطرف عينى نحوهن وهمست.
- يا بختك يا عم.
مازحته لأخفف عنه وعن نفسى قبله كآبة الوداع ، محاولاً كسر هذا السياج الذى حاصرنا بالشجن ، لكنه رفع رأسه ونظر فى عينى ، لم يتكلم ، لمحت شبح ابتسامة تحاول عبثاً أن ترتسم على شفتيه ، فاجأتنى لمعة الدموع ، وانتابنى خجل ، استرجعت ما حدث قبلها بقليل ونحن نقف على باب منزله ننتظره ، وهو يحتضن والديه ويسلم على إخوته ويقبلهم ، ويرجع ضاحكاً إلى والدته ، يمسح دموعها ، ويداعبها فلا تملك إلا أن تبتسم وتدعو له ، ثم حمل حقيبته ونزل السلم بصحبتنا ولزم الصمت طوال الطريق.
لم أعرف أنه كان يبكى حتى رأيت عينيه، منذ أن كنا فى الابتدائى ونحن صديقان نسكن فى نفس الشارع، ونتعلم فى نفس المدرسة، درسنا فى كليتين مختلفتين، ولكنهما أيضاً فى جامعة واحدة ، أما أصدقاؤنا فزملاء تعرفنا عليهم فى رحلة الدراسة الطويلة ، لذلك كنت أكثر الجميع تأثراً بسفره.
برغم أنه إنسان جاد، حاول أن يشق طريقه بعد التخرج ، لكنه صادف حظاً سيئاً وتعثر فى العمل حتى أصبح السفر حلمه ، المخرج الوحيد ليعيش حياة استحالت فى الوطن ، عندما أخبرته عن فرصة عمل ملائمة فى بلد عربى ، أجابنى ليس هدفى جمع المال والعودة ، أريد أن أعيش حياة لائقة ، حياة تحفظ للإنسان كرامته وتحترم آدميته ، لمجرد كونه إنساناً ، أجبته كأننى أدافع عن تهمة لم يوجهها.
- لا تنس أنهم فى الغرب، عنصريون ، لا يقبلون الواحد منا ، إلا بثمن فادح ، كما أن الحياة هناك ليست ناعمة ، كما تبدو فى الأفلام.
رد بهدوء.
- أنا على استعداد لدفع الثمن ، وللعمل الشاق مهما كان ، طالما أنه سيوفر لى مطالبى ، وأنال عنه أجراً عادلاً ، نعم ، هذا بالتحديد ما أريده ، أن أعمل وأن أحصل على حقى ، فى الأجر وفى الحياة.
لم أرض أن أجادله ولا أن اتهمه بالتقصير كالآخرين ، لعلمى بما بذله من جهد فى المحاولة ، وبما واجهه من تعثر أثر على طبيعته وبدل شخصيته ، أخذ يتخلى عن مرحه المعهود ويميل للتشاؤم ويطغى عليه الإحساس بالظلم.
أحسست بمدى اضطرابه وهو يسلم علينا ، احتضنته مودعاً ، موقناً أنه آخر عهدى بالصديق الذى أعرفه ، وأن الذى سيرجع سواء طالت السنين أم قصرت ، سواء للأفضل أم للأسوأ ، شخص آخر.
استدار متجهاً لعبور بوابة المسافرين وسط مجموعة من الأجانب ، اصطفوا بانتظام ، أخذ دوره بينهم ، مطرق الرأس ونحن أصدقاؤه نقف على بعد خطوات وحولنا مجموعة من المودعين ، يمارسون طقوس الوداع بصخب وضجيج ، كأنهم فى مأتم ، تتبعت هشام بنظرى وهو يتقدم ، فى خطواته انكسار ذكرنى بما قاله لى قبل سفره بيوم.
- إننى أخرج من مصر مطروداً.


* مجلة إبداع – العدد العاشر – 1998

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى