يحيى فضل الله - تداعيـــات كـشــه

yahiafadlalla.jpg


"يا شاويش علي"

قفز "الشاويش علي" برغم سنواته التي قاربت الخمسين، قفز وكأنه يعلن عن شبابه، قفز من على كومر البوليس واتجه نحو الضابط، فرفع تحية بإخلاص أدمن التعود أمام الضابط "سالم".

"نحن حندخل على الحلة جوه، أنت أنزل هنا كش لينا "كلتومايه" لمن نجي راجعين نلقاها هي وعدتها بره، ما تتهاون معاها أبدا، مفهوم".

"مفهوم جنابك"، قالها "الشاويش علي" رافعا يده بالتحية، متأكد تماما من مهمته، واتجه نحو الاتجاه الذي يقوده إلى "انداية" كلتوماية" بينما تحرك كومر البوليس متوغلا أكثر بهديره المعروف.

قبل أن يصل "الشاويش علي" الى بيت "كلتوماية" كان خبر "الكشة" قد تسرب إلى الحلة، وذلك أن الأطفال لم يتوانوا في صنع زفة صغيرة تركض خلف ذلك الكومر المشهور معلنة عن ذلك الحدث الهام، وحين شعر أفراد قوة البوليس التي تنظر باستمتاع إلى ذلك الموكب الطفولي من عل، وحين شعروا بالزهو وبجلال المهمة، كان "الشاويش علي" قد اقتحم بيت "كلتوماية" بغتة، فتح ذلك الباب الحديدي القديم ودخل مشهرا سلطته بينما كانت "كلتوماية" و"حوة بت الصيد" و"عفاف الغناية" يدخن البرنجي ويشربن القهوة بذلك الاستمتاع المعروف عادة في العصريات.

"يا حليمة . كبي لينا - من قزازة الزفت ده"

كان عصرا نديا أعطته الغيوم من رذاذها الخفيف دفقات من النشوة، كانت "حليمة" تنضح بالبشر وتدور حول الجميع منسابة مع الغناء وترانيم عود "أبشر" الترزي ذو الوترين فقط، بحميمية وعذوبة متناهية أصوات الكل ليتداخل معها "رجب" بائع" "الطايوق" معلنا عن نشوته العارمة.

"ده منو دا؟"

وهنا تأتي الإجابة منغمة بانسجام تلقائي من جميع الباحثين عن معنى النشوة.

"ده العسكري".

"عايز شنو؟"، يقف رجب على البنبر ويشير بيديه"

"عايز يزدري"، إجابة جماعية قاطعة"

"علي منو؟" يقفز "رجب" الى الأمام

"على علي" كورال من العذوبة"

"علي منو ؟ "، رجب يتهز بالتساؤل

"الما يجينا إلا ساعة الانيشا"، يردد الجميع ويذوب صوت "رجب" مع تلك النشوة الجماعية

" يا حليمة . كبي لينا - من قزازة الزفت ده."

حين كان "ود السنجك" يستعد ليتداخل مع تلك الأغنية الجماعية مرددا نفس التساؤلات التي رددها "رجب" لتكتمل الأغنية في دائرتها الازلية وموضوعها الدائري والمكرر، داهم كومر البوليس المكان، اعتنى أفراد تلك القوة بالرواد الكرام واعتنى اخرون "بحليمة" حيث حملت كل الأواني التي لها علاقة بالعملية، على ظهر الكومر المشهور تكومت تلك الفرقة الغنائية، فقد عود "ابشر" الترزي أحد الوترين، "ود السنجك" اكتفى فقط بوضع "سفة" بين لسانه "رجب" مصر على حواره مع البوليس دون جدوى "عمر فارغة" يضحك برغم كل شئ "سلمان" يبحث عن فردة حذائه ويمنعه البوليس من النزول وصعدت "حليمة" مع أوانيها الفارغة والممتلئة بدون مشقة على ظهر الكومر ـ حين هم الكومر بالتحرك، نظر "رجب" إلى أحد أفراد البوليس بكل تلك الرغبة في الخلاص قائلا: -"شنو يا أخوانا انتو مصرين على المسألة دي؟"، ضاع تساؤل رجب محاطا بذلك الصمت القاسي والرسمي.

في بيت "كنتوشة" كان "النور الكج" قد بدأ في إعلان الإثارة اليومي "عتوت" معروض لصاحب الحظ الذي يفوز به بواسطة "الكرتلة" عادة ما يذبح صاحب الحظ ذلك "العتوت" مشاركا الجميع في حظه و"كنتوشة" وابنتها "سميرة" كفيلتان بتجهيز الوليمة، يدور "النور الكج" "بالكرتلة" على الرواد المتناثرين هنا وهناك عارضا برنامج الإثارة على الجميع، ولا ينسى مطلقا أن يتقبل الكاسات كهدايا تنهال عليه ويحفظ كل فرد رمزه في الكرتلة بعد أن يدفع ثمن هذا الرمز الذي اختاره.

في ذلك العصر أضاع كومر البوليس على ذلك الجمع المنفلت من بيت كمنتوشة متعة فتح الكرتلة لإعلان صاحب العتوت المحظوظ داهم البوليس منزل كنتوشة وصعد الجميع على ظهر الكومر بينما ظل ذلك العتوت مربوطا أمام الراكوبة واستطاع بمجهود بسيط أن يجذب طرف ملاءة قديمة كانت تحاول أن تعطي ذلك اللحاف المهترئ والمتسخ كان العتوت يمضغ طرف الملاءة مستمتعا بنجاته من ذلك الموت المرتبط بحظوظ أولئك البشر.

حين خرج "رحمة الله" من بيت "مريوم" يحمل كيس الثلج في يد وفي الأخرى جردل البلاستك المعبأ بالعسلية وقف كومر البوليس أمام بيت "مريوم" حاول "رحمة الله" أن يهرب راكضا بعد أن وضع الجردل سريعا علي الأرض ولكن صوت الضابط "سالم" جعله يتراجع عن ذلك فعاد "رحمة الله" طائعا وصعد على ظهر الكومر بينما كان أولئك الذين تشرفوا من قبل بصعود ذلك السجن المتنقل يضحكون بانفلات يتأرجح المخمورين. رجب الذي يحاول دائما أن يضرب الهم بالفافة نظر إلي كيس الثلج الذي يحمله "رحمة الله" وعلق قائلا "بالثلج وكده" وضحك الجميع ماعدا أولئك الذين يتضخم في دواخلهم معنى الفضيحة.

حاولت ستونا أن ترشي دون جدوى فصعدت على ظهر الكومر لاحقة بالأواني ولكنها أصرت أن ترتدي ثوبها المضغوط وان تكحل عينيها وجلست وسط زميلاتها بتأفف شديد.

((يا سهاري تعالوا شوفو ألبي الحبيبة ما قست علي.))

يدندن "عباس ركس" باستمتاع وهو يترنح في شارع السلخانة كان عائداً من قيلولته الاستشنائية التي امتدت حتى نهاية العصر حين مر به كومر البوليس محتشدا بأولئك السكارى وصانعات الخمر وقف الكومر أمامه فما كان من "عباس ركس" آلا أن رحب بتلك الوقعة ذات القصد المعروف قائلا شكرا يا شاب "دفرة لي قدام"، استغرب "ركس" لتلك الضحكات التي استقبلت سؤاله وحين صعد على ظهر الكومر بمساعدة أحد أفراد البوليس الذي كان يكتم ضحكته هنا انتبه "بوليس عديل كده ".

غابت شمس ذلك اليوم لتترك الغيوم حريتها وبعد أن تلونت سماء ذلك اليوم بلون الشفق كان وقتها كومر البوليس عائد من تلك الجولة التي بسببها احتشد الفوج المتنوع من البشر على ظهره استسلم الجميع الى الأمر الواقع وفكر البعض في عواقب الأمر اختلطت أحاديث السكارى "عباس ركس" عاد بلا مبالاة الى الترنم، "ستونا" تثرثر تحاول إظهار عزتها"سميرة" ابنة "كنتوشة" الخوف يظهر في عينيها باستغراق شديد يحاول "ابشر" الترزي أن يربط الوتر المقطوع في عوده، "رحمة الله" يعاني وسط هؤلاء السكارى من وعيه ويحس بحجم الفضيحة ويفكر في الشلة التي تنتظرة، "رجب" اعتدي على كيس الثلج، "حليمة"، صامتة وتضع يدها على خدها، أفراد البوليس يحيطون بالجميع إحاطة السور بالمعصم، ،"حليمة،" تحس بالملل لأنها تحملت عبء كل تلك الجولة وهي على ظهر الكومر، "النور الكج "، بنظز الى الكارثة التي في يده ويفكر في مصير ذلك العتوت، الكومر يهدر بصوته الذي يزن في أذن الجميع مكثفا معني الجريمة، يسير بين زقاقات الحلة في رحلة عودته ويصيح الأطفال راكضين خلفه:((الكشه الكشه الكشة)).

صيحات الشامتين تصاحب ركاب الكومر بتلك التجمعات الصغيرة لا يملك أولئك الباحثون عن الأخبار والحوادث ألا تلك الرغبة في التعرف على شخصيات ركاب ذلك الكومر حين وصل الكومر الى نفس ذلك المكان الذي فيه الشاويش علي ليؤدي مهمة القبض على كلتوماية، وجد الضابط سالم المكان خاليا تماما من الشاويش وكلتوماية واونيها حسب الاتفاق أمر الضابط سالم السائق بالتحرك في اتجاه بيت كلتوماية أملا في أن يكون الشاويش علي قد أدى مهمته وهو ألان ينتظر أمام البيت اعترض طريق الكومر خور عريض مما جعل الضابط سالم يأمر السائق بالوقوف لينزل هو كي يتأكد من وجود الشاويش علي أحس بأن هناك خللا في مكان ما، نظر الي يمينه لم يجد أي أثر، تحرك الى بيت كلتوماية سمع أنغام دلوكة حين وصل الى الباب الحديدي القديم، كان صوت الدلوكة قد اختلط مع غناء عذب فتح الباب رأى أول ما رأى كاب الشاويش علي ملقي على أحد البنابر وكانت عفاف الغناية تضرب على الدلوكة وتغني، حوة بت الصعيد وكلتوماية يصفقن بمتعة ويشاركن في الغناء، بينما الشاويش علي يضع الكأس على رأسه الأصلع ويتمايل طربا. وقف الضابط سالم مدة ينظر إلى الاحتفال الصغير الذي تحول فيه الشاويش علي الى راقص محترف يعرف كيف يتحكم في الكأس الذي يتوسط رأسه الأصلع استعذب الضابط صوت عفاف الغناية الشجي.

((حبيبي تعال نتلم ما دام الريد اختلط بالدم يا حبيبي)).

نظر الضابط الى الكاب الملقي على المنبر الشاويش علي يرقص بمتعة متناهية دون أن تسقط الكأس من على رأسه لم يملك ألا أن يبتسم ويقفل الباب ويرجع الى حيث يقف الكومر محتشدا بضجة وثرثرة أولئك السكارى صعد الضابط سالم وجلس على المقعد الأمامي أمر السائق بالتحرك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى