جلاء الطيري - الملكـة هى أمى.. قصة قصيرة

أنا الذى املك شعراً أسود مسترسلاً وعينين واسعتين كعينى أمى ، التى كانت تُغنى فى موالد القرية وأفراحها ، تنام بين أهداب رجالها . تهابها النساء لجمالها فكل من نظر إليها بنار الحب احترق ، يبصقن عليها عندما تمرُ أمام عتباتهن الجالسات عليها يتحسرن على رجالهن الذين أصبحوا يهيمون على وجوههم من شارع إلى شارع وراء تلك التى أتت من سلالات القمر ، يتضرعن إلى الله أن يصيبها بالخرس أو يصيب رجالهن بالصمم حتى لا يستمعوا إلى صوتها الأعذب من غناء الكراوان ، منذ أن جاءت ورجالهن لم ينظروا إلى وجوههن تركوا العشب الفاسد ينمو على أجسادهن.

أنا الذى ولدتً بلا تاريخ لا أعلمُ من أى الرجال أتيت ، يقولون لى أن أبى فقير إلى حد العوز لا يملكُ سوى بيتا من طين فى أطراف القرية ملتصق بالنهر ، كل نساء القرية يحججن إليه بحجة ملء جرار متشققة من العطش ، يتملين فى وجهه لم تكن اتعسهن حظاً ترضى به زوجاً ، ولكن يقبلنَّ أن يكون لهن خليلاً ، ما أن نظرن إليه حتى يُقطعنّ جلاليبهنّ ويقلن نحن لك .

لهن العذر إن شربن من مائه المحرم فما من يدٍ حانية تنفض عن وجوههن الرماد ، تداوى جروحاً نبتت فوق الجلد المتشقق ، وما من شمس تُدفئ فراشاً بارداً ، تهز ثمار العنب ، لا ذنب لهن إن كنّ حييات يخشين البوح بمكنون العشق الذى يحملونه ... يخضبن الشعر ... ينثرن العطر على أجسادهن الجافة والمتكسرة كورق هش .

وسط تعجب كل رجال القرية تزوجت أمى بالرجل الذى يسكن بجانب النهر تقرت ملامح الوجه فاكتشفت أنه هو الذى يُطاردها فى أحلامها مُنذ صحوة الأنوثة فيها ، اتكأت على ذراعه لوحت له بمناديل فتنتها وقالت :

أنت عكازى الذى اتوكأ عليه، هيا يا مليكى ودليلى إلى الفردوس فليغمرنى نورك ولتغفر لى جهلى بمحبتك . تزينت الدنيا وازخرفت ، دخلا إلى سرير العشق ، احتفى بهما المطر اطلق زغرودة الماء بللت الجسد الأطيب من زهرة فل قالت من الآن سأُسميك حبيبى المبتل بماء المطر ، فرح وقال :

من الآن أنتِ حبيبتى الملكة المتوجة على عرش القلب ، انتعشت أزهار الملكة خلعت أشواكها وقالت هئت لك ، ارتشفا من شهد المحبة سكنت قطرة عسل بداخل البطن فامتلأت وصرت أنا .

- أنا ابن الملكة لا أُشبه الحزن ، لا ارث لدى سوى صوتها ، افترش المساءات يرقصُ عليها شباب طربوا لغنائى وأعينهم تضمر لى شراً يتهامسون ويقولون :

فى عينيه تسكن كل بنات القرية يدعوهن كل مساء لقطف نرجسهن ، يخبئنه فى أحلامهن ينطلق معهن حين ينام الليل ، يعبر سهولهن ، يتحلقنه كفراشات يردن الولوج إلى النار ، يخافُ عليهن يمتطى حصانه ويبتعد ، يبكين من الشوق إليه فالليل ما زال فى أوله والأحلام المؤجلة مُنذ ليلة أمس سيوقظنها له .

يعود يرتشف دمْعهن ، يستعير سفينة نوح يعبئُ فيها مريديه يعبر بهن البحر وحين يسقطن عرايا فى نبيذ نشوته ، يستحيل إلى نورس يطيرُ بعيداً عندما تضربهن أمهاتهن ملقيات على وجوههن الماء .

يستيقظن كسيرات مسهدات يحاولنَّ اكمال الحُلم يتعالى صياح الأمهات استيقظن لعمل البيت وايقاد الفرن لخبز العيش وسقاية دجاجات عطشى ، ألا تُفلحنَّ إلا فى الزينة وسماع غناء ابن الغجرية .

- الغجرية هى أمى التى امتنعت عن ارتياد آذان رجال القرية ، العصيان أعلنته عندما طلبها الولدُ ابن العمدة الذى لا يُعصى له أمرُُ ويحسب أن لن يقدر عليه أحد .

أتى من المدينة مزهواً بلباسه الغريب عن لباس أهل قريته حاملاً معه الكراريس والكتب متعالياً يلتف حول سامره شباب القرية يحكى لهم عن اللمبه التى توقد بدون جاز أو كبريت فقط بضغطة زر تضئ كنار هائلة ، والماء الذى ينساب فى مواسير حديدية ما أن تلمسه حتى يجرى كنهر لا ينضب ، الملتفون حوله فغروا أفواههم من العجب ، وعندما جاء إلى ذكر من ليس بعذوبته سكر قال :

النساء فى المدينة يمشين حاسرات الرأس يرفعن شعورهنّ لأعلى أما أثوابهنّ فترتفع إلى ما فوق الركبة مظهرة سيقانهن البيضاء التى تكاد من فتنتها تضئ ، لقد سواهن الله فأحسن الصنع ، ما أن تهمس لأحداهن حتى تأتيك سعياً ترشفُ من عنابها لأخر قطره قال المتحلقون حول سامره

صف لنا فتاتك ؟

قال الولدُ المغتر بعبور بوابات القرية والعالم بما يحدث خارجها :

ولا إنسان يقدر على وصفها ولا بنات فى الدنيا يشبهنها ، هى كالماء العذب للظمآن فى قيظ الصيف ، الأمواج العالية ترفعك لأعلى جنان الخلد ولا تتركك حتى تنهل من كوثرها وبعد مضى الوقت تتركك كزبد متوهج .

المتحلقون حوله قالوا : كُل صفاتك حلوة ولكن لم يُخلق مثل الملكَة .

- الملكة هى أمى التى وأدت رغبات ابن العمدة وأقسمت بعد أن زرع أبى نبتته فى ليلة ماطرة أن تبقى خالية من الذنب صامدة فى وجه رجال القرية احتمت بجزع النخلة هزتها تساقط عليها التمر .

تساءل ابن العمدة :

لماذا هى عصية على ؟ لماذا لاتمنحنى صوتها الذى منحته لكل رجال القرية العاديين والمتشابهين الذين يأكلُ الفقر وجوههم المتشققة كأرض بور ، وأنا الذى لم آكل إلا فى صحاف من خزف أنا ربيب المدينة ...أتلك المرأة تستعصى علىَّ .!!

دارت معركة فى القلب انتصر فيها سهم الهوى الذى رشق فى قلب ابن العمدة فما من دواء شاف لشراك الحب الواقع فيها ….

" الحُب سيصيرُ جميلاً لو أن القلبين اجتمعا "

الملكة احتارت .. لو أن ابن العمدة جاء قبل هطول المطر لأحبته وفرحت به كثيرا ومنحته نفسها فى الساعة والتو ، لكن لا انسان يستطيع أن يمسك بيديه القدر فيأمُره كن فيكون ،القدر همس فى أذنيها أن السعادة كلها فى الرجل الذى ابتل بماء المطر .

الملكة أرادت أن تختبر حُبهُ لها

فقالت :

اعتلِ السماء ، عِد النجوم اصنع لى عقداً منها

قال : الموت عشقاً هو أمنيتى المشتهاة

رفع قلبه وصعد .. راقت لها اللعبة فاعتلت قلبها وصعدا معاً .

كانت فى ثوب النوم الشفيف ..تناجيا بلغة المحبين السرية ..خافا افتضاض سرهما نظرا إلى الأسفل فوجدا القرية تغرق فى النوم .. المحبون فقط استمعوا لغنائهما وندائهما .. ارتقى كل واحد قلبه واعتلى .. حجبهم الغيم عن أعين الغافلين ..أوقَفوا الزمن عن دورانه .. غمرتهم النشوة .. شقت أقدامهم نِتَفَ الغيم .. ارتفع غناؤهم .. استيقظ أهل القرية ..

أخذوا يستمعون ويتساءلون من أين يجئ دبيب الأقدام الراقصة ؟!!

وعندما فشلوا رجعوا إلى بيوتهم وهم يصرخون أوقِفوا الغناء .. أوقِفوا الرقص .. وإلا قتلنا كل من وجدناه متلبسا بالعشق .. عندها خاف المحبون .. القوا على المتوعدين الشهب لترجمهم ذروا فى أعينهم التراب فأصبحوا لايُبصرون .

هبطا من علياء الحلم ...

غداً عند مغيب الشمس سألُقى بأمنيتى فى البئر ، أُعطيها خصلات شعرى كقربانٍ ، سأقول لها أنى أتمنى ولداً يحمل قلب أبيه ، تنام بين أهدابه كل بنات الانس يحملُ صوتى ، اصنعهُ على عينى وأن أُلقى عليه محبة منى يُباركه المطر الذى أنبت بذرته فىّ . الملكة تمنت استجاب القدر لندائها وجئت أنا

- أنـا الذى لم أراها ولم أنظر إلى وجهها الذى جعل ابن العمدة يهيمُ على وجهه يتبعها أينما ذهبت يحُايلها مرة بالوعيد وأخرى بالتذلل والركوع تحت سطوة صوتها. ابن العمدة قطع يَدهُ بسكين العشق علها ترضى .. فلم ترضَ .. يرهف إلى صوتها كلما غنت لحبيبها ، غلبه العشق فسكر بخمرته ، فاض بمكنون الهوى وباح بالكتمان .

" صار تسلية أهل القرية يقذفونه بالحجارة والأوساخ ينتقمون من العمدة فى شخص ابنه العاجز عن درء الأذى ، يجرون وراءه صائحين مجنون الملكة .. مجنون الملكة "

اغتاظ العمدة من تلك العاهرة التى جعلت ابنه كالشحاذين يتمنى منها أن ترمى إليه بنظرة ود وهو الذى كان يزهو به بين العامة والأعيان تتمناه كل بنات القرية إن اشار إلى واحدة منهن باصبعه الأصغر خرت ساجدة تحت قدميه .

حين صرخت صراصير الليل وعلا نقيق ضفادعه الراقدة فى ماء آسن كانت الفكرة فى عقله قد اختمرت فليقتل تلك العاهرة ، سيجعلها تموت موتة طبيعية لا تؤلب عليه ابنه العاشق فيتهمه بقتلها . بعض من تلك الحيات الساكنة تحت أحراش نبات الحلفاء تفرغ سمها فى الجسد الذى أصاب ابنه ووريثه فى السلطة بالجنون تنهى القصة ويعود الولد المارق إلى عقله.

ثلاثة أيام سقطت من دفتر الوقت ، وهو ينتظر أن يأتيه العويل مُعلناً موت العاهرة بعد أن دس حيته تحت غطائها ، اشتمت الحية رائحة السمك الذى جلبه الرجل المبتل بماء المطر لغداء اليوم فخرجت مسرعة ، فهى لم تأكل منذ ثلاثة أيام والجوع يكوى بطنها .

فزع الحبيب عندما رأى الحية

قالت لهما : لاتفزعا إنكما من الآمنين

قدم لها الحبيب السمك لتأكله

بكت الحية أنت تجعلنى أخجل من نفسى ...

وأنا ما جُلبت إلا لقتلكما .. تمنيا علىَّ ، وإنى إن شاء الله لملبية .

قالا :

ما نحن بآخذين ثمن اكرام الضيف .

الليل لايطيُب له النوم وهذان الحبيبان يصدحان بأعذب الألحان ، الحية طربت لغناء الملكة وعزف حبيبها على المزمار فأخذت تتلوى راقصة . ولدت الشمس من بطن الليل الناعس ،استقبلتها الحية فى فرح قائلة حان الوقت لرد الجميل تحولت الحية إلى عقد من ذهب وعينيها إلى زمردتين زينتا جيد الملكة .

تيقن العمدة أن الملكة قد ماتت فذهب إلى بيتها مرتديا قناع الحزن ليوارى سوءتها كأى رجل صالح يقوم بواجبه تجاه أهل قريته .

ُرشق بسكين المفاجأة عندما وجد الملكة تغنى وحببها يعزف على نايه وعقد تتزين به الملكة جفلَّ كمن مسته النار ، القى بوقاره وحكمته على الارض وتوعدها حينما سخر منه أهل القرية .

جلس فى بيته شهورا يفكر كيف ينتقم ويجتثها كعشب فاسد .

اجتمع أهل القرية بعد أن وقف خطيب المسجد يهدد بإيعاز من العمدة بالويل والثبور لتلك العاهرة التى تسكن أطراف القرية والتى تسحر الشباب بغنائها تُلهيهم عن إتيان نسائهم أو كسب عيشهم مما يهددهم بانتقام السماء على مااقترفوا من آثام والحل لتفادى غضب السماء هو أن تُرجم أو تُحرق ردد الجمع ورائه فلترجم ... ولتحرق ...

بينما يتقدمون لتنفيذ الحكم وفى ليلة القمر الساطع جاءها المخاض هزت أشجار القلب فتساقطت أنا .

- أنـا الذى سأجول الأرض بغنائى … وأقول أن لاسبب للحزن … أنا مرفأ العاشقين وتميمة حظهم … أنا الذى يُفتش الرجال فى رأسى باحثين عن جواريهم الهاربات من سطوتهم ... وينسون أنى بالقلب أسست مملكة كل من فيها ملكات لاسلطان عليهنّ سوى الهوى .

من أكمامى المبتلة بدموع العشاق ... نسجتُ بيتاً لا يأتيه الجلادون .

كجراد يزحفون ... ُيحاولون تسلق جدران القلب ... أيها الجلادون الوقحون ... كيف تجرؤون على الإقتراب من بيتى ؟

اذهبوا بعيداً لا مكان لكم عندى … من البعيد أراهم يهرولون نحوى … كل واحد منهم يمسك بحصاة يرجموننى … يُوقدون النار من تحتى … اتطلع إلى السماء … أرى الملكة فى الأعلى تُغنى للرجل الذى ابتل بماء المطر … تُشير إلىَّ بأن أصعد … أصعد … والمطر الهاطل يُطفئ ناراً … مشتعلة بينما … فى الأعلى …

تضحك الملكة ...

الملكـة هى أمـــــــــــى ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى