عبدالناصر لقاح - عن البعد التصويري في الخط العربي.. مقاربة سيكولوجية

إننا نفترض في هذه الكلمة أن الصورة اتخذت في الفكر العربي الإسلامي مسارا نفسيا خاصا، وأنها قد أخرجت في مواطن كثيرة مخرجا غير مباشر، نرى أنه الخط، ومن ثم فإن ما سيأتي في مقالنا هذا هو مجرد تسويغ لهذا الافتراض

توطئة

إننا واعون بما تمثله الصورة في الفكر الإسلامي من تعبير عن المحرم والممنوع، بل إنها في حال تحققها على يد امريء ما، تصبح كبيرة من الكبائر مثل الشرك بالله، وقتل النفس، والزنا واللواط1 ولخطورة ماتمثله الصورة يذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود من قوله تعالى/إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا/2، هم الذين يصنعون الصور3، وفي تفسير الجلالين أنهم –الكفار يصفون الله بما هو منزه عنه من الولد والشريك ويكذبون رسوله4-، وفي حديث رواه الترمذي من حديث أبي هريرة وقال حسن صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال/يخرج عنق من النار يوم القيامة فيقول: إني وكلت بثلاثة: بكل من دعا مع الله إلها آخر، وبكل جبار عنيد، وبالمصورين/5، هذا ومن السهولة تفسير علة التحريم، فقد اقترن التصوير بالذات الإلهية عند المسلم، يدلنا على ذلك استعمال مادة /ص-و-ر/ ومشتقاتها في القرآن، فقد وردت في ستة مواضع، تشي كلها بأن صفة التصوير، مضافة إلى الله. وفي ما يلي الآيات التي جاء استعمال مادة /ص-و-ر/ فيها:

1- وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات6
2- وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير7
3- ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم8
4- هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء9
5- في أي صورة ما شاء ركبك10
6- هو الله الخالق الباريء المصور11

وهكذا لم ترتبط الصورة في القرآن الكريم بالإنسان إلا على وجه أن يكون هو نفسه صورة مصنوعة مخلوقة من قبل الصانع المصور، وإذا كان الأمر كذلك، فهمنا لماذا كان يشق على المسلمين أن يروا صورة أو يخرج من ظهرانيهم مصور، فالتصوير بهذا المعنى شرك بالله، لأنه يوقع المرء في خلف، أي أن يكون ثمة مصوران: الله والإنسان.


سيكولوجيا الصورة

رأينا أن الصورة تمثل بطريقة أو أخرى شيئا ممنوعا أو بلغتنا المعاصرة شيئا مكبوتا، ولأنها كذلك فهي ثاوية في اللاوعي تظهر على السطح عندما تسنح الفرصة... إنها باعتبارها ممنوعا، مرغوب فيها أو هي لذلك مغرية تملك القدرة على التأثير، يقول الشاعر:

منعت شيئا فأكثرت الولوع به
أحب شيء إلى الإنسان مامنعا12

ونحن رغم ما سقناه، لا نستطيع أن ننكر أن العرب المسلمين قد اتخذوا التصوير صناعة، فالأدلة على ذلك كثيرة، ولكنا نريد أن نذهب إلى أن التصوير بالطريقة المتعارف عليها لم تمثل هما أو هاجسا مباشرا إذ إن ما يعرفه المؤرخون لدى العرب في هذا المضمار نزر قليل بالقياس إلى ما يذكرونه لدى الأمم الأخرى التي لم تحرم الصورة لديها، والآن هل استطاع الإنسان العربي الامتثال للشرع أو ما يفهم منه في خصوص الصورة؟ بمعنى آخر، هل استطاع الإنسان العربي أن يعيش دون صورة؟

إننا نعتقد أن الصورة كباقي عناصر الحياة العامة، تمثل مكونا نفسيا مهما تستلزمه الحياة الإنسانية وتقتضيه، وإقصاؤه، يؤثر سلبا في حياة الفرد، فإذا تم الإقصاء بالاضطرار أخرجت الصورة كباقي الأشياء الممنوعة مخرجا غير مباشر، ونزعم أن المخرج الذي أخرجته هو مخرج الخط..

لقد رأينا أن التصوير في التصور الإسلامي مرتبط بالخلق الإلهي ومن ثم منع الإنسان من ممارسته، وأما الخط فغير ذلك، إنه مرتبط بالإنسان من حيث هو هبة من الله، وصناعة كباقي الصنائع، وعليه فإن الإجادة فيه كالإجادة في الصنائع الأخرى، تحمد للمرء..

وإذا كان الأمر كذلك فإن الخط/صناعة شريفة إذ الكتابة من خواص الإنسان/13 وهو كباقي المواهب والصنائع أيضا يتم إتقانه بالتعلم والمراس والنظر في خطوط المعلم وتقليدها.. وهو مما يمدح به الرجل. قال الزجاجي في شرح أدب الكاتب: روي عن ابن عباس في قوله تعالى /أو أثارة علم/ قال: الخط الحسن. وقال تعالى: يزيد في الخلق ما يشاء.. قال بعض المفسرين: هو الصوت الحسن. وقال بعضهم هو الخط الحسن14

فكأن الخط بهذا المعنى توقيف من عند الله، ولكنه ممارس من قبل بني البشر وذلك على مذهب من يرى أن اللغة توقيف، فالخط على خلاف الصورة توقيف ولكنه غير محرم..

وإذا كان الأمر كذلك.. فلا بأس أن يتعلمه الإنسان ويجهد نفسه في إتقانه والتفنن فيه والتنويق والتزويق، ونحن نرى أن العناية التي أولاها العرب المسلمون للخط تفوق بكثير جدا ما نراه عند غيرهم من الأمم، لا لشيء إلا لأن الخط استطاع أن يحل محل الصورة عندهم، ولا نستطيع أن ننكر الصفة الأيقونية للخط العربي، فهو لهذا وجه آخر للصورة.

يقول الدكتور زكي نجيب محمود:/ولئن كانت الكتابة العربية مؤلفة من أحرف الأبجدية التي نفكها ونركبها في مختلف الكلمات والجمل، إلا أننا نلا حظ قدرتها العجيبة على مسايرة الأوضاع الجزئية للأشياء الخارجية15

ونحن لا نريد أن نقف عند هذا الحد، بل إننا نذهب ابعد من ذلك ونجزم أن العرب كانوا يقصدون في كثير من الأحيان إلى التصوير بوساطة الخط،بمعنى أنهم كانوا واعين بطريقة أو بأخرى بأن الخط العربي قد يحل محل الصورة لديهم، فينمازون به جمالا وفنا كما انماز به غيرهم بالصور.. ويدعم رأينا هذا ن أن الخطاطين لم يكونوا يرون ثمة فرقا بين الخط والتصوير، فكلاهما حسن وجميل والخط يقتضي التصوير عندهم وهذا أبو الحسن علي بن هلال الكاتب البغدادي الشهير بابن البواب يقول في قصيدة يعرض قيها أساليب اإتقان الخط وتحصيل الجودة فيه
يا من يريد إجادة التحرير
ويروم حسن الخط والتصوير16

وهذا ابن المعتز يقول في قلم الوزير القاسم بن عبيد الله
نقشت في الدجى نهارا فما أد
ري أخط فيهن أم تصوير17

وقال آخر
خط وقرطاس كأنها السوالف والشعور18

الخط بهذا المعنى تصوير، ولكنه تصوير مسموح به، وهو موضع تبار ومنافسة، لأنه لا يؤدي ضرورة إلى التشبه بالله الباريء المصور.. بل لا يؤدي حتى إلى المفاضلة بين خطوط البشر العاديين والأنبياء، لأنه إذا كان فضيلة عند الإنسان العادي، فليس كذلك بالنسبة للأنبياء19 شأنه في ذلك شأن الشعر والنثر الفني والموسيقى ...الخ


الخط والصورة والمعجم

لقد عني العرب بشكل خاص بالخط، وأفردوا له مباحث ورسائل كثيرة مما لا نحتاج في هذا المقام إلى ذكرها.. حسبنا أنهم انفردوا بشيء لم نره عند غيرهم، وهو مما يدعم ما ذهبنا إليه من أيقونية الخط ذلكم أنهم جعلوا للحروف معاني ثابتة، وليست لهذا السبب الكلمات دالة باعتبارها مجموعة حروف غير دالة، إنما هي دالة والحروف دالة، ونحن نزعم لهذا السبب أن الحروف بهذا المعنى وحدات معجمية

يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي/الألف: الرجل الحقير الضعيف، وقيل السخي والفرد في الفضائل/قال الشاعر:
هنالك لا أنت ألف مهين
كأنك في الوغى أسد زئير

وقال الباء: هو الرجل الكثير الجماع، قال المؤمل:
أنبئت أنك باء حين تلقاها
وفي المعارك لا تستعمل الباها20

ويستمر على هذه الشاكلة في عرض معاني الحروف في رسالته الموسومة بالحروف.

ومن ثم، فأنت إذا كنت عارفا بمعاني الحروف العربية، ما أن تقع عينك على الحرف حتى ترتسم صورة ما يعبر عنه، ومن ثم بعد التصوير في الحرف..

والمعجم من هذا الباب، يوحي هو أيضا بالعناية القصوى التي أولاها العرب للحروف باعتبارها تعوضهم عن الصور، فهي الأخرى صور. ولذلك تباروا في تجميلها وتجويدها، وبناء على ذلك فإن الكتابة العربية لم تمارس لتكون تمثيلا مباشرا للكلام.. إنها مراس موصول بتطبيق دين، إنها فن21




الهوامش

1-انظر الإمام شمس الدين الذهبي، كتاب الكبائر/بدون توثيق/فالتصوير عنده يمثل الكبيرة الثامنة والأربعين. وأورد هذه الكبيرة تحت عنوانة هي: التصوير في الثياب والحيطان والحجر وغيرها ص 181وما يليها
2-الأحزاب57
3-الذهبي المرجع السابق ص181
4-جلال الدين المحلي، وجلال الدين السيوطي، تفسير الجلالين، دار المعرفة، بيروت لبنان/بدون تاريخ/ص559
5-الذهبي ص-ص 181-182
6-غافر64
7-التغابن3
8-الأعراف117
9-آل عمران6
10-الانفطار8
11-الحشر24
12-أورده محمد عبده دون سند،مشكلات القرآن الكريم، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان،1979، ص115
13-ابن خلدون/عبد الرحمان/المقدمة، الجزء الثاني،ص338
14-السيوطي/جلال الدين/المزهر في علوم اللغة وأنواعها، دار الفكر للطباعة والنشر/النسخة المشروحة/د-ت صص 350/351ج2
15-زكي نجيب محمود، الشرق الفنان، المكتبة الثفافية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الفاهرة 1985ص21
16-ابن خلدون، المفدمة، ج2ص347
17-أحمد الهاشمي، جواهر الأدب، مكتبة المعارف - بيروت د. ت ص325
18-نفسه318
19-المقدمة، ج2ص348
20الخليل، الحروف، تحقيق رمضان عبدالتواب، سلسلة روائع التراث العربي ط1/1982مكتبة الخانجي القاهرة ص24
21-.Julia Kristeva,le langage cet inconnu,Points Editions du Seuil1981.p132


عبد الناصر لقاح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى