أمل الكردفاني- في نقد الجنة

ليس المقصود هنا تفنيد طرح لاهوتي معين ، بل تفكيك هذا الطرح ليكون أكثر قابلية للفهم، فمن المعروف أن ما حمل البشرية على انتاج المخيال الثيولوجي هو تلك الحقيقة التي تفزع البشرية منذ الأزل ، الحقيقة التي تكمن في الشعور بالفناء عند الموت. لكن فلسفة ما بعد الموت كان يجب أن تتجاوز فهمنا الإنساني ، أي أن تتجاوز قوانينه المنطقية و أهم قاعدتين : عدم التناقض ، والسببية.
لذلك فليس من المستغرب أبدا أن تبوء تلك المحاولات بالفشل بسبب محاولات تجاوز لزوم الوضعانية ثم العودة لشرح التجاوز بقواعد الوضعانية. وإذا كان عقل الانسان -على نحو عام لا يسلم إلا بما هو متفق مع مبادئ المنطق- فإنه هنا عطل آليته النقدية التي تتحكم في كل حركاته وسكناته ؛ ثم اسلم قياده للطرح التراستندنتالي الذي شيده هو نفسه مهما بدا مخالفا للمنطق الوضعاني. ففي هذا الطرح المتعالي لابد ان تجد كافة المتناقضات متموضعة جنبا الى جنب.. ، وفيه يكون اللا معقول أكثر وقرا في القلب من المعقول. وكما أقول دائما:(إننا نؤمن بما نريد مسبقا أن نؤمن به).

جاء على لسان المسيح:
. لأنهم في القيامة لا يزوّجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء." (متى 23:22-30)

وهذه رؤية تخالف الرؤية الاسلامية للجنة. فبعد الموت يفقد الانسان مادته ليكون كائنا نورانيا. ولا يتم نقد هذا الأمر على مستوى العقل الوضعاني بل يتم التسليم به كما هو الحال في الاسلام.
مع ذلك فإنسان ما بعد الموت في الاسلام يجمع خواصا لها ذاتية تبين في التعارضات الواضحة بينها. فهو يبلغ اكتمال الانسان المسيحي ، وهو في نفس الوقت يستمتع بنواقص الانسان الأرضي. فالمتعة هي اشباع حاجة فسيولوجية أو نفسية. والحاجة تعني النقص ، ومع ذلك يعد انسان الجنة في ذات الوقت مكتملا وان لم يك كاملا . وهذا كما قلت هو تناقض يسلم به المعتنق له لأنه يريد التسليم به مسبقا. ولا يعني ذلك أن انسان ما بعد الموت في المسيحية وسماؤه (الجنة) متسقة مع رغباتنا كبشر في الواقع. فمن منا يريد أن يكون كائنا نورانيا بلا متع حسية ، ومن منا مستعد لفقأ عينيه او خصي نفسه او قطع لسانه فاقدا إحساس المتعة ليتمتع بوجود نوراني كئيب. والتناقض نفسه في ذات الطرح المسيحي يستمر في الحديث عن فرحنا ككائنات نورانية بهذا التغير الانقلابي ، رغم أن الفرح نفسه نقص لا مراء فيه. فالفرح هو أقصى الاستجابات العصبية للمتعة ، فكيف يفقد انسان ما بعد الموت أصل الفرح ليكون فرحا بلا أصل؟
واذا كانت السماء المسيحية (الجنة) على هذا المنوال فلا فائدة منها مطلقا.
ولقد حاول النموذج الإسلامي تجنب هذه الرؤية الكئيبة التي لا تجذب الانسان الوضعاني لما بعد الموت بقدر ما تنفره منه ، وذلك بطرح يجمع بين تناقض اجتماع الاكتمال بالنقص.
فلنتحدث هنا عن فكرة الاشتهاء في الجنة. فالاشتهاء هو توق لاشباع رغبة ، والرغبة تعني حاجة والحاجة تعني نقصا دون شك. والنقص نقيض الاكتمال. مع ذلك فهذين النقيضين يجتمعان على نحو لا يمكن التسليم به بمنطقنا الوضعاني.
يبدو الأمر مثيرا للدهشة حين لا تجوع في الجنة ولا تعطش ولا تعرى وهذا يعني الاكتمال. ولكن كيف سنستمتع حينها بالأكل والشرب إن كنا مكتملين على ذاك النحو؟ فالمتعة لا سبيل لها الا بالنقص. والمكتمل بذاته مستغن عن غيره ، وهكذا فلا مناص من ان يكون انسان الجنة فاقدا لمتعة الاكل والشرب والجنس ومن باب اولى فاقدا للاشتهاء. فإن كان فاقدا للاشتهاء فما هو دافعه للأكل والشرب والجنس؟ حين يستوي عنده ان يأكل او لا يأكل. فإن لم يأكل لم ينقص ذلك منه شيئا لأنه لو نقص مثقال ذرة صادر اكتماله. وان أكل فالمنطقي الا يزيده ذلك متعة لأن الزيادة تعني باللزوم النقص السابق.
هذه معضلة واجهت الثيولوجيا في مختلف الأديان ، معضلة أن تكون هناك جنة لانسان لا يحتاج للجنة. ولذلك رأى البعض أن الجنة هي نفسها الأرض وليست السماء. وأن الانسان يظل ناقصا ليتمكن من تحقيق المتعة ، ولكن هذا القول نفسه لا يسلم من النقد فإن كانت الجنة هي الأرض وأن الانسان فيها ناقص فالهلاك والفساد لازم. فالجوع والعطش لابد أن يهلك انسان الجنة الأرضية فإن لم يك مهلكا ففيه الألم السرمدي والألم سرمديا كان ام غير سرمدي غير جائز هناك وإلا فلا معنى للجنة الأرضية.
والطرح المتناقض مع منطقنا الوضعاني يستمر على نحو واضح لمن يريد ان يمارس النقد من أجل النقد بعيدا عن مسلماته ، فالحديث عن تحلي انسان الجنة بالحلي من الذهب والفضة حديث يبدو رمزيا أكثر مما هو حقيقي وذلك لعدة اسباب.
فمن ناحية لا يتحلى الانسان بالحلي في الدنيا الا ليراه الآخرون ، فلا معنى لأن تضع الانثى مساحيق التجميل إن لم يرها أحد. فالحلي ليس الغرض منها الا ارضاء الشعور بالتميز عن الغير ، وهذا مفتقد في الجنة. فليس فيها -بحسب اكتمالية انسانها- أي نزعة نحو الغرور ، فمتاع الغرور محصور ومقصور في الحياة الدنيا. وليس في الجنة تحاسد وتباغض فقد نزع ما في قلوب اهلها من غل. وليس فيها استعلاء أهل الدنيا ، وهكذا فلا مبرر للباس الذهب والفضة. ثم أن هناك مسائل أخرى تظهر صارخ التناقض داخل عناصر هذا المخيال. فالذهب والفضة لا قيمة لهما الا في الدنيا. ذلك أننا في الدنيا لا نتحلى الا بما تمتع بالندرة ، فلو كان الطين نادرا والذهب وافرا لارتدى الناس حلية من الطين ليتفاخروا بها. أما في الجنة فلا وجود للندرة وهكذا فلا قيمة للذهب والفضة بل يتساويان بالحديد والنحاس ، بل قد يكون الالمونيوم والفولاذ أكثر جمالا منهما. فيستوي حينها ذهب عيار اربع وعشرين وذهب مزيف. ويندرج تحت ذلك لباس الحرير السندس والاستبرق. فحيث انتفى عنصرا التفاخر والندرة انتفت قيم الأشياء. وكان الأولى والأكثر راحة الا يلبس انسان الجنة شيئا بل يعيش عاريا كما خرج من بطن أمه.
والشهوة الجنسية بدورها تناقض اكتمال انسان الجنة ، لان الجنس يستدعي استنفار الرغبة والرغبة كما قلنا حاجة يراد اشبعها فسيولوجية او سيكولوجية. والحاجة تعني النقص. فإن كان ذكر انسان الجنة ينتصب فهذا يعكس حاجة مفتقدة يسعى لاشباعها. وإن لم يكن ينتصب فقد فقد آلية التمتع. وهكذا. وعلى هذا النحو فوجود الحور العين يستوي بعدم وجودهن.
فهناك ما يسمى بالباعث Drive وهناك الدافع motive فالباعث او الحافز هو حاجة فسيولوجية او سيكولوجية ، وأما الدافع فهو وسيلة اشباع ذلك الباعث.
وإذا كانت المتع تنتفي للاكتمالية فلا تبقى الا متعة الخلق والابداع (أي متعة الفكر) ، ومتعة الفكر هي جوهر النقص الانساني ، فالفكر هو البحث عن الحقيقة ، والحقيقة في الجنة متجلية بذاتها في الاكتمال. كما ان الفكر يعني التفلسف والانتاج ولا انتاج في الجنة السماوية.
وعلى اثر هذا فإننا لابد ان نسلم بامتناع الفكر في الجنة السماوية ، وامتناع الخلق والابداع او الصناعة ، لأن الصناعة هي محاولة تطويع الطبيعة لتسهيل اشباع الحاجات فإن انتفت الحاجات فلا معنى للصناعة. فإن سلمنا جدلا بكل ما سبق من انتفاء النقص للاكتمالية صار الوجود بالجنة تحصيل حاصل. وان افترضنا على نحو مخالف لمنطق الاكتمال بوجود متع كالاكل والشرب والجنس دون كلل ولا ملل فهذا يعني أن انسان الجنة تساوى ببهيمة الدنيا. ففقد تميزه عن سائر المخلوقات. وهكذا تبدو لنا تلك المسألة شائكة جدا على الفهم والنقد.
وان تسنت لنا فرصة أخرى فلابد أيضا من نقد تفكيكي لمسألة العقاب أو الجحيم....
  • Like
التفاعلات: محمد صالح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى