أميرة سيد مكاوى - عَتَب الجدّات

صغارًا كنا. نقف على عتب الجدات ونمدّ أكفّنا الصغيرة وننتظر الحلوى، تلك الممزوجة بماء الزهر وأغاني الأيام الطيبة. كنا صغارًا نعدو في الطرقات حفاةَ الأرجل، فصاحبتنا الأرض، واختلط ترابها بعرق طفولتنا البهيّة، ووعينا مبكرًا أننا نتشابه في الأصل. صنعنا من زهر أشجار الياسمين تيجانا زيّنا بها رءوسنا التي انشغلت بالمكان الذي يبيت فيه القمر، خلسة صنعنا عرائسنا من دقيق البيت، والتهمناها بعد ساعات من لعب ومرح بريء.
هكذا حدثتني، وهي تنظر إلى السماء، ويداها لا تتوقفان عن غزل قطعة الكروشيه، التي ستغطي بها رقعة جديدة في الصالون.
اعتدت زيارتها بين الحين والآخر كلّما ضاقت بي الحيل في تحمل واقع لم أختره، وغلبني الحنين إلى فسحة من الصفاء لا أجدها إلا في بيتها وقهوتها التي تنضج على سبرتاية، عمرها أكبر من عمرينا.
تخلّيت عن ضفائري، وأسدلت شعري للحرية حين اشتدّ عودي، وتركت مع ضفائري خجل الصغار، وأشرعت للمستقبل نوافذي، وأزحت ستائر كثيرة عن عقلي.
أحببته رغم اختلافنا الواضح. أنا ابنة الطبقة الطيبة التي يميزوها بالفقر، وهو ابن الأكابر كما يحلو للمصنّفين أن يميزوها. أصبحت له زوجة وكان لي ظلًا أحتمي به من وطأة لهيب الحياة، تقاسمنا الحلم والحب، لم نترك بقعة في الوطن إلا وتيممنا بترابها، وأحيينا فيها تاريخ الحب والكفاح والقهر، قرأ لي العقاد ونجيب محفوظ ومحمد حسنين هيكل وأحمد شوقي ورامي، واستمع مني لحكايا جدتي وخالاتي وعماتي عن القمح والزرع وجني القطن.
عشقنا أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وضحكنا من الريحاني واسماعيل ياسين. رحل مبكرًا، قبل أن يكتفي قلبي من محبّته، لكنني لا أعيش وحدي كما يتخيل كثيرون، وربما أنتِ منهم.
قبل أن أبدأ في الدفاع عن نفسي، قاطعتني بابتسامتها التي لم تخفت منذ دخلت بيتها: أنا أعيش معه، فما زال بيتنا كما تركه، الحوائط والأثاث، كل ما خطتْ عليه قدماه، وانتعش بأنفاسه هنا، أنمّق المنزل وأحافظ على هيئته قدر المستطاع، فلا أريد أن تزورني روحه ولا تجدني على العهد.
بدأت يداها تسرع في غزل الكروشيه، ربما حديثها لفت انتباهها أن الرقعة لم تغطّ بعد، وأن الزيارة من الممكن أن تكون وشيكة. انتهيت من قهوتي واستأذنتها في الرحيل، قبّلتني وهي ما زالت تغزل، وتنظر إلى ساعة الحائط، وتتمتم إن شاء الله ستختفي رقعة الصالون اليوم.



* منقول عن :
بوابة الحضارات | عَتَب الجدّات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى