محمد عثمان عبد النبي - النملُ والخريطة

أبي مات.
من أجلكم أقوم بحفريّاتي في عتمور الرّغبة.
كنتًُ أطاردُ فراشةً، وكان يقف أمام الديوان طويلاً كقوس قزح، ضخماً كالجبل، مهيباً كالليل. أنظر إليه وأنا منهمكٌ في مطاردة الفراشة. أحبُّ الصليب لأنّ شلوخ أبي تشبه الصليب. وددتُ لو أعانق حبيبتي حتى أبدأَ السكينة. كالهجليجة أبي وأنا أحبُّ علامة (زائد) شاربيْه كأحداق البحيرة.رأيته يلوّح بيده في الهواء ثم يدسها خلفها. وقفتُ أمامه تماماً أنظر إليه متسائلاً كانقشاع الغمام عن القمر المشاغب. ضحك أبي فقفزتُ (مسكتها بابا).عندما اقتربتُ منهُ رفع يده فوق مستوى رأسي. الفراشة تطل من بين أصابعه، تحدّق إلى أعلى، تمعن هي التحديق، تخترق الحجب، تستشرف عالماً ساحراً غامضاً مستحيلاً. رفعتُ يدي نحوها، وأخذتُ أمطّ جسمي إلى أعلى، وقد تجعد جبيني وتهدلت شفتي السفلي. كلما اقتربتُ منها يبعدها أبي عني، يرفعها إلى أعلى أكثر وأكثر. لم أقتنع بالهزيمة. بدأت أتسلَّق جسمه، فأمسك بي بكلتا يديه.دسّني في لحم صدره. تعانقنا (ظللتُ أبحثُ في المدينةِ ألفَ عامٍ عن المدينة). تشبّث بي كطفل وتشبّثتُ به. أريد امتلاكه. أريد أن أغرسه في مناطق الوعي واللا وعي، الشعور واللا شعور، أنتمي للشيء الذي أحبّه فيه.دفنتُ أذنيّ وعينيّ في ضخامة صدره؛ تسللت الفراشةُ من إصبعه وطارت. مات أبي.

كان الصراخ كالدوائر المائية، حينما يسقط في المحيط نجمٌ ملتهب رويداً رويداً، تبوخ النار في الأعماق وعلى السطح، تتباعد الدوائر المائية، تخرج الفقاقيعُ مزمجرةً، يتقافز منها السمكُ ذو الأجنحةِ النارية.

جثّة أبي مسجاةٌ على العنقريب، وقد استغرقت كلّ الأشياء في تفكيرٍ عميق.السقف الملطوع ببيوت العنكبوت السوداء، حطب العَرِش الفاقح، والشِّعبة انهمكت معها في نشوة ذاهلة. قال: “خلّي الخرم واسع عشان العجلة تدور كويّس”. ثم جلس يثقب معي علب الصلصة. تدلّى شعره الناري على جبينه. مطَّ لسانه يداعب به شاربه. قطرةٌ من اللعاب تعلقت برأس شعرةٍ ذهبية. مددت يدي لأزيلها، ثم تباعدتُ جاذباً يدي. كان يتنفس كما تتنفس أختي الرضيعة (زينب) وهي نائمة. كان كل شيء منظّماً، إلا أن صورة الإمام عليّ بن أبي طالب كان يعلوها الغبار فنفضه عنها.

كانت الحجرة نظيفة، إلا أن حذاءه كان مقلوباً، فأصلح وضعه. كان المقهى هادئاً، إلا أنّ البوليس جاء واقتاد صديقه الشاعر، الذي كان يجلس معه لحظتها، فاندفع يهتف “تسقط بريطانيا”. قال لي: “أركب عربيتك أمشي جيب البرسيم للغنم”. أفف سقت العربة. أفف يزحم الصراع أذني. السَّحَّارة، الشِّعبة، الحيطان، عمود الشعاع المخترق، عتمة الحجرة، والجثّةُ المُسجاةُ. انهمكوا في الخفاء في لعبةٍ شيّقة. امتلأ داخلي باللعبة، وعلى السطح طفت الهواجس.

كنتُ أرسمُ خريطةً لمدينةٍ جديدةٍ على الجدار، فجرحني حجرٌ صغيرٌ مدبب، فناديتُ الحَرَسَ (حَرَسْ عاوز ملح)، ثم شرعتُ في الغناء. كان النمل، في المقطع الأخير، يسير على الخريطة، حسب قوانين الحركة في مدينتي الجديدة. انطويتُ في ذاكرة الأشياء، وجمحتُ في شوقها.. استغرقتني اللعبة.. نصنع قنابل وطائرات وصواريخ من ورق، من الطين غواصات ودبابات وأقماراً صناعية، ونرتق حذاء (أحمد الرّبعي). من مركز إعصار الرغبة تقاطروا مندفعينَ إليَّ. تسربوا في لحم ضجة الأسواق، منقذفينَ إليَّ عبر دروبِ الحيرة والسّهو، متشردين في مدينتي الداخلية، يعدون ويلحفون في السؤال عني في مدينتهم، ودمي يرشح من حيطانها، يقطر من رموش الطحلب وأنياب الزهور. عندما تركت (عفاف) عابدها (حسن)؛ كان البكاء رحلة الرجوع إلى الداخل. كذلك كان الدم النازف من أشلاء (تاكشيل).

تحرّكت الجنازة إلى مثواها الأخير، فتنافرت خلايا جسمي. تعثرت الأشياء بأوتار أعصابي، فصدر لحنٌ نشاز، انغلقت رموز العالم في داخلي، فأجهشتُ بالبكاء، دفنتُ أذني وعيني. لغط النجوم تحت فروة رأس المدينة، صرير الضحك والثعابين المتساقطة من الأيدي الممدودة تتناول (الماهيّة)، وصوت النادل يزاحم هواجس المتعطلين. أمطار الرصاص المنهمرة من سكينة الطفل في أحضانِ أمّهِ. كان المنزل مكتظّاً بالمعزّين. في الليلِ هيّأتُ لي فراشاً على الأرضِ، ثم استلقيتُ على ظهري، وأخرجتُ يدي من بين القضبانِ، أطعمُ عصفوراً فتاتَ الخبزِ والمرقِ، يسير على أطرافِ أصابعهِ، بجبينِ أنجيلا ديفيز.

ــــــــــــــــــــــــ

* نُشرت هذه القصة القصيرة في صحيفة الأيام السودانية، الصفحة الثقافية، الجّمعة 5 أكتوبر 1984.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى