مامون الجاك - المحكمة

حاملا ورقتك الأخيرة هاهنا ، لاهثا بين ممرات المستشفيات والشوارع وقاعات المحاكم ...
بعد أن يتم توقيع هذه الورقة سترتاح الى الأبد ، سيتمدد القبر ليصبح وطنا ويتقلص الوطن ليصير قبرا .
أن تحمل ورقة مختومة بختم ( الشهيد ) هذا يعني : اجراءات دفن أسرع وقبر أوسع وحياة أفضل هناك ومميزات أخرى كثيرة .
شهيد ... شهيد ، في الحقيقة لم تكن أنت نفسك لتختتر ميتة أفضل من هذه :
الاسم : ... ... ...
الديانة : مسلم
سبب الوفاة : طلقة طائشة تسببت في نزيف حاد
تاريخ الوفاة : ذات مظاهرة .
الختم : ——– " هنا يجب توضيح اذا ما كان شهيدا أم لا "
صاعدا سلالم المحكمة ، هذا هو الاجراء الأخير وبعده الراحة الأبدية ... تتلألأ حبات العرق على وجهك وتفوح منك رائحة المسك ،
أليس هذا كافيا للاعتراف بك شهيدا ؟
أنت تعرف قاتلك ، لقد بحثت عنه كثيرا حتى وجدته أخيرا يلتذ بشرب القهوة في أحد الأزقة ، سلمت عليه دون ضغينة ورد السلام بلامبالاة ، استغرق وقتا طويلا كي يتذكرك :
- في الحقيقة لقد قتلت عددا ليس بالقليل في حياتي وخصوصا في تلك المظاهرة ، ولست ملزما بحفظ وجوه وأسماء قتلاي ... أليس كذلك ؟
- نعم ... كما أن العاهرة ليست ملزمة بتذكر زبائنها .
- حسنا ، والان ماذا تريد ؟
- فقط اشهد بأنك قتلتني وأني شهيد ، وسأعفو عنك أمام الأشهاد .
- المشكلة أن الاعتراف بك شهيدا يعني ضمنيا الاعتراف بأن الحكومة تقتل مواطنيها ، وهذا ما قد يسبب حرجا كبيرا لها أمام المجتمع الدولي وأمام الرب . ويجعلني في خطر كبير ..
لماذا لا تفاوض الحكومة لكي تبعثك في زمرة ( الصديقين ) وحسن أولئك رفيقا ، وبهذا تزيح الحرج عن الجميع ؟ قالها ساخرا وبضحكة نزقة
. مجرجرا أذيال خيبتك ، مضيت تبحث عن منفذ أخير ، كل الذين يشهدون أنك مت في ذلك اليوم ، ماتوا هم أيضا ...
بعضهم مات في تلك المظاهرة واخرون ماتوا في ظروف غامضة ، حتى أنت بدأت تشك في موتك : لا جرح غائر ولا بقايا دماء ولا ذكرى واضحة سوى وجه من قتلك وصرخات هنا وهناك .. لا ملائكة ، لا انفصال عن جسدك ، ولا رؤيا .
ربما لم تمت .. ربما ما زلت حيا ، بالطبع لست شبحا ولا طيفا ، لكن سموك عن الحاجات الدنيوية وعدم بغضك حتى لمن قتلك ( لنقل حاليا أنه أصابك بطلقة حتى تثبت أنك مت ) ..
محكمة : صرخ الحاجب .
قام الحضور اجلالا للعدالة العمياء التي لن تراهم بالطبع ، امتلأت القاعة : اعلاميون ، محاميون ، عاطلون ، كلهم جاؤوا ليشاهدوا مجريات هذه القضية الغريبة : شخص يدعي أنه قتل برصاص الحكومة أثناء مظاهرة مع ذلك هو يمثل أمام المحكمة بذاته : ضحية وشاهدا وحيدا ... أن تكون الجلاد والحكم في آن واحد هذا شئ اعتاد الناس عليه ، لكن أن تكون الشهيد والشاهد فهذا لا يحصل كل يوم .
لقد بحثت كثيرا عن محامي يترافع عنك ، لكنك لم تجد مجنونا مثلك ، كلهم قالوا أن قضيتك خاسرة ...
ورائحة المسك ... ماذا تعني رائحة المسك ؟ العطارون منتشرون في كل أزقة المدينة : قالها أحد المحامين هازئا ، الحكومة أيضا لم ترسل محاميا ليدافع عنها فقد اكتفت بالقاضي .
القاضي : لقد قلت بأنك استشهدت في يوم ما في مظاهرة ما .. أليس كذلك ؟
أنت : نعم .. سيادة القاضي .
القاضي : ألا تتذكر التاريخ والمكان ؟
أنت : للأسف .. لا يا سيدي .
القاضي : حسنا .. لماذا خرجت في مظاهرة ؟ ألا تعرف أن هذه جريمة يعاقب عليها القانون ؟
أنت : لقد خرجت ضد الظلم ، من أجل هذا الوطن : الفقراء ، الجوعى والغلابى ، الحرية .
القاضي : وأين هم الذين خرجت من أجلهم ، أليسوا هم هؤلاء الذين يتابعون محاكمتك ؟ ثم ما هو الدليل على موتك ، وأنت تقف هنا أمامنا ؟ الدستور ينص على أن : " الشهيد من مات دفاعا عن الوطن في مواجهة عدو خارجي " هذا ما يعترف به القانون ، أما أي تفسيرات دينية أو فتح ذريعة يدخل منها كل من يدعي أنه شهيد فهذا لا يعنينا .
لذا فقد حكم عليك بالسجن بتهمة ازعاج السلطات وتشويه صورة الحكومة .
مقيدا بالأصفاد لمحت وجه قاتلك مبتسما في نهاية القاعة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى