سبع رسائل من ألبير كامو إلى ماريا كاساريس

(1)
يوليو/تموز 1944

عزيزتي ماريا .. لديّ موعد عمل في حدود الساعة السادسة والنصف مساء مع الناشر مونتي كارلو داخل مقر»دار نشر المجلة الفرنسية الجديد» ــ غاليمار في ما بعد ــ وانطلاقا من هناك سنذهب بالتأكيد إلى شارع «سيرانو« المتواجد في زاوية من طريق «رودو باك» وكذا جادة سان جيرمان، سأنتظركِ هناك غاية الساعة السابعة والنصف مساء، خلال هذه اللحظة بالذات، سأكون في «لافريغات»، تحديدا شارع ”رودوباك” والأرصفة، حيث ينتظرني مارسيل وجان، وأخيرا على الساعة الثامنة مساء، الموعد العام في ركن من شارع «بون» ورصيف فولتير، أظنِّكِ تعرفين المكان، أعتذر فالوقت يداهمني ولا أستطيع الاستمرار أكثر من هذا الحيز متحدثا إِلَيكِ،
أقبِّلُكِ.

(2)
الساعة الرابعة زوالا

صغيرتي ماريا .. أتطلع إلى الالتقاء بِكِ حاليا من خلال مكالمة هاتفية، بيد أنَّ وقتي ضيق جدا، فقط استعنت بفجوة بين موعدين، كي أخط إليكِ هذه الكلمة إنها لا تعني شيئا طبعا، لكنني أفترض أنَّكِ ستصادفينها أمامكِ حين رجوعكِ هذا المساء، بالتالي سأشغل هاجس تفكيركِ أنا متعب وأحتاج إليكِ، لكن بالطبع يستحيل توضيح أمر من هذا القبيل هكذا، بل يقتضي السياق أن تكوني أمامي، ليلة سعيدة عزيزتي، نامي جيدا وفكري فيّ بقوة.
أقبِّلُكِ غاية صبيحة اليوم التالي

(3)
الساعة العاشرة مساء

لقد قرأت للتو إهداءك عزيزتي، وأشعر في داخلي بشيء يرتعش، أقول مع نفسي إننا نكتب أحيانا هذه الأشياء وفق حركة، بدون أن نكون في خضمها تماما، أقول في الوقت ذاته بأن هناك كلمات لا نكتبها، ولن نشعر بها، أنا في غاية السعادة ماريا، هل ممكن هذا؟ ما يرتجف داخلي يظل نوعا من السعادة العارمة، لكن في الآن ذاته ينتابني إحساس بالمرارة نتيجة رحيلكِ، وحزن عينيكِ حينما هممتِ بالمغادرة، صحيح أن ما أضمرتُه دائما نحوكِ اتسم على الدوام بطعم يمزج بين الغبطة والقلق، لكن إذا كنتِ تعشقينَنِي مثلما كتبتِ، فيلزمنا الحصول على شيء آخر، إنه حقا مجالنا الزماني المكرَّس كي يحب أحدنا الثاني ثم يتحتم علينا السعي، غاية ذلك بما يكفي من القوة والديمومة، كي نَعْبر خاصة كل حقيقة. أنتظر غدا وأنتِ ووجهكِ الغالي، كنتُ هذا المساء في غاية التعب كي أتحدث إليكِ بصوت ذاك الفؤاد الطافح الذي استطعتِ إرساء موضع له داخلي يقوم شيء ما يخصنا فقط، بحيث انضم إليكِ عبره بدون مجهود، إنها ساعات انزوائي إلى الصمت، لحظتها ترتابين في أمري، لكنه سياق لا يعني شيئا مادام قلبي ممتلئا بكِ، إلى اللقاء عزيزتي وأشكركِ على بعض هذه الكلمات التي أسعدتني كثيرا، شكرا على روحكِ التي تحب وأحبها، أقبِّلك بكل ما أوتيت من قوة.

(4)
الساعة الواحدة صباحا

لقد عدتٌ إلى المنزل منذ قليل، لا أشعر بتاتا برغبة في النوم، بل يسكنني شوق عارم أن أجدكِ بجانبي، فأجلس فعلا على المائدة كي أحدثكِ مثلما يروق لي، لم أجرؤ على رفض دعوة مارسيل هيرون، فأؤكد له عدم رغبتي باحتساء كؤوس شمبانيا، ثم أجدني فجأة وسط حضور حشد من الناس! لكن خلال نصف ساعة، ينتابني إحساس بالضجر الشديد جراء كل ذلك، وكنت فقط متشوقا لوجودكِ قريبة مني، لقد عشقتكِ جدا ماريا على امتداد تلك الليلة، وأنا أستحضر طيفكِ، وأرهف السمع لهذا الصوت الذي أضحى حاليا بالنسبة إليّ فريدا، لقد استلهمتُ من فترة ذهابي عند مارسيل، نصا مسرحيا، غير أنني لا يمكنني أبدا قراءته بدون الاستماع إليكِ، تلك طريقتي الخاصة كي أكون سعيدا وبرفقتكِ، أحاول تخيل ما تقومين به حاليا، وأتساءل باستغراب لماذا لستِ هنا، أتحدث مع نفسي بخصوص ما سيكون وفق الأصول، أي ضمن النظام الوحيد الذي أعرفه والمتعلق بالشغف والحياة، هكذا ستعودين غدا معي ثم نواصل معا تلك الليلة التي بدأناها، لكنني أعلم كذلك أن هذا بلا جدوى وأن أمامنا مختلف ما تبقى، لكن على الأقل لا تنسيني أبدا حينما تغادرين، تذكري باستمرار ما قلته لكِ بشكل مسهب جدا ذات يوم في منزلي قبل أن تتسارع الأمور، لحظتها خاطبتكِ بالعمق الكبير لقلبي وأردت،، نعم أردت قدر ما يكون أحدنا للثاني، وينبغي أن يصير الأمر كذلك مثلما أخبرتكِ لا تتركيني قط، فلا أتخيل شيئا أسوأ من فقدكِ، ماذا بوسعي آنيا القيام به بدون طلعتكِ، حيث كل شيء هنا يعكر صفوي، ثم صوتكِ وكذا جسدكِ الماثل قبالتي؟ من جهة أخرى ليس هذا ما أود قوله لكِ اليوم، لكن فقط حضوركِ هنا، وشوقي إليكِ، ثم تفكيري بهذه الليلة.
ليلة سعيدة عزيزتي فليأت غدا سريعا والأيام التالية له، بحيث ستكونين لي أكثر، بدل فضاء هذه الغرفة اللعينة، أقَبِّلكِ بكل قواي.

(5)
الساعة الرابعة زوالا

صغيرتي ماريا .. لا أعرف إن كان يخطر على ذهنكِ الاتصال بي هاتفيا، آنيا، لا أعلم أين يمكنني الوصول إليكِ، ليس لدي شيء محدد كي أقوله لكِ، سوى تلك الموجة التي تحملني منذ البارحة وهذه الحاجة إلى الثقة والحب الذي أكنّه لكِ، لأنه منذ فترة طويلة لم أكتب إليكِ! عندما تصادفين هذا الإطار لحظة عودتكِ مساء، فاتصلي بي هاتفيا، تذكريني من الآن غاية يوم السبت، فكري في شخصي على امتداد هذه الأيام، قولي سأبقى إلى جانبكَ خلال كل دقيقة، إلى اللقاء، حبيبتي، عزيزتي الغالية، أعانقكِ كما البارحة.


***

ماريا صغيرتي ..
كان سفرا جيدا بدون حوادث تذكر. انطلقنا في الساعة السابع وعشرين دقيقة صباحا، استمرت رحلتنا غاية الساعة التاسعة صباحا، ثم قطعنا سبعة كيلومترات على الأقدام كي نعبر محطة للسكك الحديدية تعرضت سابقا للقصف. ابتداء من الساعة الحادية عشرة حتى الظهيرة امتطينا قطارا، بيد أننا انتظرنا ساعتين في مدينة ”مو” كي نتمكن فعلا من العثور ثانية على قطار آخر. ثم تغيير جديد بعد مرور خمس وأربعين دقيقة، إلى أن وصلنا في حدود الساعة الخامسة مساء. كنت متعبا مثل كلب أسود، وسعيدا في الوقت ذاته، لأنني انتهيت أخيرا من كل ذلك. وضعوا رهن إشارتي منزلا قُصف جانب منه سنة 1940، غير أن جزءه الباقي يظل رغم ذلك ملائما للسكن، مع أن الغبار يغمره، لذلك قضيت ثماني وأربعين ساعة متوخيا جعل المكان مناسبا بمساعدة امرأة شجاعة تنحدر من المنطقة.
البلدة عبارة عن واد صغير تكتسي منحدريه أراض مزروعة وأشجار متوسطة. الجو منعش، وخرير المياه وروائح الأعشاب، والأبقار، وبعض الأطفال الصغار الجميلين ثم شدو الطيور. حينما نتوغل قليلا، نعاين هضابا أخرى أكثر بروزا نتنفس معها على نحو أفضل. بخصوص مشهد القرية، نلاحظ وجود منازل هنا وهناك وكذا أشخاص شجعان. أما عن المنزل الذي أقطنه، فيتوارى وسط حديقة فسيحة جدا زاخرة بالأشجار وكذا آخر عينات أزهار نهاية الموسم ــ لم تعد حمراء ــ منزل يتموضع بين طيات ظل كنيسة قديمة. أما الجزء الأعلى من الحديقة، فهو عبارة عن مرج مشمس، وتحديدا تحت أقواس دعامات الكنيسة. هكذا بوسعنا الاستفادة من حمامات شمس. أنا بصدد تنظيم غرفة ومكتب في الطابق الأول. حين انتهائي من الأمر، سأحيطكِ علما بمختلف التفاصيل.
أعتقد بوسع ميشيل غاليمار على الأقل الإقامة معي. أما بيير وجانين غاليمار فسينتقلان بالتأكيد إلى الاستقرار في مكان آخر. أنتظر بفارغ الصبر قدومهما حتى نناقش الأمر، لاسيما أنني أصبو من خلالهما إلى معرفة جديد أخباركِ.
أكتب إليكِ جل هذه المعطيات بصدق قدر ما يمكنني السعي لأنني أعتقد بأنكِ ترغبين أولا في معلومات دقيقة. لكن فكري مختلف فعلا: فمنذ الخميس ليلا أحيا بجواركِ. يظهر لي أن البعد عنكِ يؤلمني واستعصى عليّ تحمل هذا الانفصال، في خضم تقلبات عديدة، تحت سماء زاخرة جدا بالمخاطر. أتطلع إلى مجيئكِ، إذا استطعتِ التنقل بواسطة سيارة، فلا تترددي، سيكون مسارا أكثر يسرا. وإلا أُجبرتِ على قطع أشواط السفر الطويل نفسها التي اختبرتُها. أستحضر بهذا الخصوص أيضا الدراجة الهوائية، لحظتها بوسعي الذهاب لملاقاتِكِ. لا تنسي عزيزتي وعدَكِ، وهو مصدر حياتي آنيا. أظن يمكنني العثور على السكينة بين طيات هذا المكان. لقد استطعتُ إعادة رسم صمت داخلي افتقدتُهُ منذ أمد بعيد جدا، بفضل هذه الأشجار والريح والنهر، لكنه تطلع غير ممكن إذا أرغمتُ على مكابدة غيابكِ والركض مقتفيا أثر صورتكِ وذكراها. لا أنوي قط تمثل دور اليائس أو الانقياد وراء ذلك. ابتداء من يوم الاثنين، سأشرع في العمل، منكبا، هذه مسألة مؤكدة. لكن أريد منكِ مساعدتي بأن تأتي، نعم أساسا وصولكِ إلى هنا! أنت وأنا التقينا، ثم عشق أحدنا الثاني غاية اليوم بناء على الولع، والتلهف أو المجازفة. لا أتحسر على أي شيء والأيام التي تأتى لي أن أعيشها اعتبرتُها كافية قصد تبرير حياة ما. بيد أنه تكمن طريقة ثانية كي يحب أحدنا الثاني، اكتمال أكثر سرية وتناغما، وليس أقل جمالا مع إدراكي لقدرتنا على تحقيق ذلك، بحيث سنعثر هنا على الزمان. تذكري هذا، ماريا صغيرتي، وتصرفي على نحو أننا نمتلك دائما حظا لحبنا.
خلال ساعات معينة ستؤدين دورا مسرحيا. سيظل فكري برفقتكِ، اليوم وغدا. أترقب تلك اللحظة حينما تجلسين وأنت تقولين هذا رائع، أتشوق كذلك إلى الفعل الثالث المصحوب بتلك الصرخة التي أحببتها كثيرا.
آه! عزيزتي، كم يصير الوضع قاسيا أن تجدَ نفسكَ بعيدا عن الذي تحبه. أفتقد مُحيّاك، أكثر شيء أعشقه على امتداد هذا العالم. أكتبي لي دوما، لا تتركيني وحيدا. سأنتظركِ مهما تطلب الأمر من أمد، أشعر بصبر لانهائي صوب كل ما يتعلق بكِ. لكن خلال الآن ذاته، يسري في دمي شغف يؤلمني، ثم رغبة كي أدمر وألتهم كل شيء، إنه عشقي لكِ. إلى اللقاء، يا إكليلي الصغير. استمري على مقربة مني بالفكر، ثم تعالي على جناح السرعة، أرجوكِ.
أقبِّلكِ بكل ما أملكه من شغف. بوسعكِ مراسلتي كما اتفقنا، على عنوان السيدة باران في منطقة «فيرديلو السين- و- مارن».

السبت 1 يونيو/حزيران 1944، الساعة الثانية ظهرا.


الرسالة (25)
الخميس 12 غشت 1948
آه حبيبتي،كم كنتُ سعيدا بالأمس. لقد صادفتُ رسالتكِ حين عودتي مساء .وقد قضيتُ اليوم بأكمله في جبل فوكلوز Vaucluse،على هضبة مقفرة، مفتونا بالدفء، و زيز الحصاد ثم الأدغال اليابسة.
في طريق العودة قلتُ مع نفسي ربما تنتظرني رسالتكِ(يمر ساعي البريد ظهرا). هكذا وجدت أمامي رزمة رسائل أغراض مختلفة ثم وأنا أتصفحها بسرعة لم أنتبه لرسالتكِ.لحظتها،أحسستُ بتضاعف كبير لتعب مشي ذلك اليوم الطويل وأيضا بنوع من الجفاف. لكن حينما صعدت إلى مكتبي،عثُرتُ على ما ترقبته. صار خط كتابتكِ صغيرا إلى حد ما،بينما توقعت كما الشأن معكِ سابقا،انحناءاته وانثناءاته الجامحة.
بالتالي أجدني أمام كتابة مُدَرَّبة،متراصة،تهتدي بي عبر جوانب إطار الرسالة،وفق إيقاع لازمة تكرست.هكذا قفز قلبي من مكانه. وحيدا في هذا المكتب الهادئ مع كل ضجيج الليل المتأتي عبر شباك النافذة،انكببتُ على التهام صفحات رسالتكِ.يتوقف قلبي أحيانا.فيما سبق انساب مع قلبكِ،ينبض مع مجرى الدم نفسه،ونفس الدفء،وكذا ذات السعادة العميقة.
طبعا، أود أن أكتب فورا كي أستفسركِ عن بعض الشروح،تهم المقاطع التي ربطت بي مسؤولية تعطيل كل شيء.لكن هذا الصباح أدركت لاجدوى فعل ذلك من خلال رسالة.لذلك حين لقائنا،سأعيد قراءة هذه الصفحات أمامكِ وسأطلب تفسيرا حول كل كلمة على منوال مايجري داخل فصل في الثانوية.ماتبقى لدي هذا الصباح،سعادة عميقة،متحررة وشاكرة، بعد الأرق الكبير الذي أصابني تلك الليلة،وأنا أقلِّبُ في دواخلي جُمَل رسالتكِ.


* ترجمة: سعيد بوخليط

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى