الكاتب المغربي الراحل محمد زفزاف في حوار غير منشور : لست كاتباً محترفاً وتركيزي على الموت تشبث بالحياة - عبد العزيز جدير

رحل قبل أيام القاص والروائي المغربي الكبير محمد زفزاف عن 56 عاماً بعد فترة من "العراك" مع المرض العضال. وإذا كان زفزاف ينتمي الى الجيل الذي أسس الرواية والقصة المغربيتين فهو عرف بقلقه الوجودي وحداثته ونزعته التجديدية. ولئن كان يردد دوماً أن الجيل الذي ينتمي اليه هو جيل بلا آباء فهو اتخذ من بعض الروائيين العرب والعالميين الذين كان يكبّ على قراءتهم باستمرار آباء له.
يحتل محمد زفزاف مرتبة عالية في الحركة القصصية والروائية المغربية والعربية واعتمد في أدبه لغة يسميها هو باللغة الثالثة التي تجمع بين الفصحى والعامّية.
ولعل الحوار الذي ننشره هنا ويتحدّث فيه عن تجربته الأدبية والشخصية كان أجري معه في العام 1999 قبل أن يصاب بالمرض العضال. لكن ظروفاً حالت حينذاك دون نشره واستعيض عنه بحوار آخر نشر قبل عامين. إلا أن الحوار الذي ننشره للمرة الأولى هو بمثابة وثيقة تلقي ضوءاً على مسار هذا الكاتب الكبير.
نبدأ، من السؤال التقليدي، كيف جئت الى الكتابة؟
- هو تقليدي بالفعل، ومع ذلك أقول أني بدأت الكتابة والنشر منذ سنة 1962، كتبت في البداية الشعر ثم نشرت أول قصة قصيرة سنة 1963 في مجلة الأطلس تحت عنوان: "ثلاثة أسابيع". وهي قصة رديئة جداً ولم أضمّنها أياً من مجاميعي القصصية. فهي قصة البداية، قصة المراهقة. عندما عدت وقرأتها سألت نفسي: هل سبق لي بالفعل ان كتبتها؟ لأنها قصة رديئة جداً. بعد ذلك استمررت في كتابة الشعر، والمحاولات النقدية التي كنت أنشرها في الصحف المغربية وفي مجلة "الآداب" اللبنانية و"المعرفة" السورية، و"المجلة" المصرية التي كان يرأس تحريرها المرحوم يحيى حقي، ومن مجلّتي "الأفلام" و"الكلمة" العراقيتين. أتحدث عن الستينات ذلك ان مجلة "الكلمة" توقفت عن الصدور. وكان أول كتاب نشر لي سنة 1970 تحت عنوان "حوار في ليل متأخر"، نشرته وزارة الثقافة والإرشاد القومي في سورية. أما أول رواية نشرتها فهي "المرأة والوردة" سنة 1972. وواجهت هذه الرواية بعض الصعوبات والمشكلات ذلك ان دار النشر المغربية وهي دار النشر العربية المتحدة، تنكرت لها. فالناشر نشر الرواية من دون ان يطلع على فحواها المغربية، وعندما صدرت قرئت له فأنكرها. وهذا الناشر، في الأصل، كان عسكرياً برتبة عقيد في الأردن ثم انتقل الى لبنان وأنشأ داراً للنشر مع المرحوم الشاعر الكبير يوسف الخال - الذي أقول بصراحة انه أخذ بيدي. ويجب ان أعترف له بهذا الجميل، مثلما أخذ بيد جماعة من الشعراء العرب الرواد والذين يتنكر بعضهم بفضله عليهم. وقد أعيد طبع الرواية في بيروت بعد ذلك في "دار غاليري" التي كان الخال يملكها. وبعد عشرين سنة أُعيد طبع "المرأة والوردة" في المغرب مرتين. وأنت تعلم انها مقررة في بعض الجامعات الأجنبية ومنها جامعة بوردو في فرنسا وجامعة لندن في هولندا، مثلما هي مقررة ببعض الجامعات المغربية.
بعد ذلك تابعت الكتابة فنشرت عدداً من المجموعات القصصية والأعمال الروائية وترجمت كتباً من الفرنسية الى العربية ومن العربية الى الفرنسية.
لعل استمرارك في الكتابة يعكس أهميتها بالنسبة اليك؟
- أقول في البداية ان الكتابة ليست امتيازاً، ولا أسعى من ورائها الى الحصول على ثروة أو تحقيق شهرة. في طبيعة الحال، عندما يبدأ أي شاب مشوار الكتابة يتمنى ان يكون مشهوراً أو غنياً. وفي نهاية الأمر أصبحت الكتابة بالنسبة لي هي وجودي: إذا لم أكتب فكأنني لم أعد أرغب في العيش. وعندما أقول اذا لم أكتب فإني أقول في الوقت ذاته اذا لم أقرأ يومياً فكأنني لا أعيش. أنا شخصياً مقتنع أنني لم أخلق لأنجب أطفالاً أو لأملك ثروة أو لأتهافت على مناصب دنيوية. فأنا على رغم اني أركز على تيمة الموت في كتبي - وبعض النقاد، بالمناسبة، يعتبرون ذلك نقيصة - مثل "بائعة الورد" أو روايتي "أفواه واسعة" اعتبر ان التركيز على الموت هو تشبث بالحياة وتشبث بقيم الخير في هذه الدنيا الفانية، وأقول لك، إذا أردت ان تسجل هذا، فالدنيا هي مؤنث للأدنى. والأدنى في اللغة العربية معناه الحقير، الصغير، المنحط... هذه هي الدنيا ووضعنا فيها هو وضع العابر سواء كان الواحد منا حاكماً أو محكوماً، ولذلك أركز على تيمة الموت. فالموت، حينما نشعر به يجعلنا نحب الحياة ونحب فعل الخير.
من الفضاءات الرئيسة في كتاباتك نذكر الدار البيضاء، المحمدية، القنيطرة، وبعض الفضاءات الأجنبية.
- فضاءات كتاباتي متنوعة، هناك قصص قصيرة استلهمتها من موسكو كقصة "كيف نحلم بموسكو". ثم هناك قصة "غربان يورمالا". ويورمالا هذه مدينة صغيرة توجد بالقرب من ريغا عاصمة جمهورية ليتونيا على بحر البلطيق. و"المرأة والوردة"، كما تعلم، جزء منها يدور في المغرب والجزء الآخر في اسبانيا. وإذا عدت الى مجموعة "بيوت واطئة" فهناك نصوص تتخذ من اسبانيا فضاء لها كما تتخذ أخرى من المغرب فضاء لها.
هدفت من ملاحظتي السابقة أن أسألك، هل يلهمك الفضاء قصصاً أو موضوعات للكتابة؟
- طبعاً - وتنوع فضاءات عالمي القصصي دليل على ذلك. فالمكان أحياناً يؤطر النص القصصي نفسه، وأحياناً يفرض المكان نفسه عليّ وعلى أيّ كاتب.
هل يلعب الفضاء دوراً في تشكيل النص؟
- في طبيعة الحال، لأن الفضاء يلعب دوره ويفرض نفسه على الكاتب. وهذا الفضاء يفرض شخوصاً على الكاتب لم يكن يفكر فيها. أحياناً تكون هناك صورة مبهمة عن بعض الشخوص - عند الكاتب - في قصة أو رواية وأثناء الكتابة تولد تلك الشخوص أو شخوص غير مفكّر فيها أبداً.
أكاد أستشف من جوابك انك لا تضع تصميماً لقصصك أو رواياتك ثم تقوم بتعديله تدريجاً؟
- هذه ملاحظة موفقة، فالذين يضعون خطاطة أو تصميماً لقصصهم أو رواياتهم هم الذين يكتبون قصص الخيال العلمي أو الروايات البوليسية. أما بالنسبة الى كتابة الإبداع فهذا يتحكم في الكاتب. معنى ذلك ان هذا لا ينتقص من قيمة الروايات البوليسية أو أدب الخيال العلمي، ففيهما نوع من الإبداع. لكن الكاتب ملزم بأن يضع لها خطاطات، أما الروايات الأخرى فهي لا تخضع للخطاطات ومن يضع لها خطاطات يفشل حتماً.
هل تخضع الكتابة عندك لطقوس معينة؟
- أنا لست كاتباً محترفاً وليست لي طقوس للقراءة أو الكتابة. أقرأ متى أردت وأقضي معظم أوقاتي في القراءة. وأكتب على مزاجي. صحيح ان هناك من يقول اني كاتب غزير الانتاج من الكتاب أنفسهم وأنا أعذرهم - وكما قلت لك أنا لا أشغل نفسي بالدنيا - وأحترمهم. وهؤلاء كان همهم تربية الأطفال والجري وراء بناء فيلا أو عمارة أو شراء بستان. أنا لم أفكر في كل هذا أبداً. اخترت أن أقرأ وأن أكتب من دون ان أبيع نفسي لأي منبر وأتاجر بما أكتب. فأنا أكتب على مزاجي وهذا يريحني وسأموت مستريحاً. وأنا أعتذر عن ذكر الموت باستمرار حتى انبه القراء الى انهم سوف يموتون يوماً فليفعلوا الخير. وبطبيعة الحال سوف يحذف هذا فرحات ضاحكاً.
لو عدنا الى الفضاءات نلاحظ ان فضاء المقهى يشغل نصيباً مهماً داخل نصوصك، وقد يبدو مقبرة الزمان والأفكار؟
- ليس بالضرورة، والمقهى حاضر في نصوصي في شكل لافت للنظر، ولكن هناك نصوص أخرى تدور أحداثها في أماكن أخرى وفضاءات أخرى. ومع ذلك فالمقهى يجب ان يكون حاضراً في النصوص المعاصرة. وفي "رواية قبور في الماء" تدور الأحداث على شاطئ البحر وبحاروها ماتوا ولكن في نهاية الأمر هناك شخصان يتحدثان قرب مقهى. فالمقهى بالفعل حاضر هنا أيضاً لأنه جزء من الواقع.
ولعل في اشارتك الى ان فضاء المقهى مقبرة للأفكار، اشارة الى الجدل الذي يثار بين الشخصيات في المقهى. ويهمني ان أقول في هذا الصدد ان الحوار لا بد ان يحصل وانه يجب ان يكون مثمراً وألاّ يكون ثرثرة فارغة. ذلك ان عدداً كبيراً من النصوص مملوءة بحوارات هي مجرد ثرثرة لا تعالج قضايا انسانية ولا تتميز بالعمق. قد يبدو الحوار أمراً سهلاً لكنّ عدداً ضئيلاً من الكتّاب هو من يتوفق في بناء حوار جيد ومثير لقضايا تغني النص في شكل لافت للنظر. نأخذ مثلاً على ذلك الكاتب المسرحي بيكيت ومسرحياته. حواراته تبدو بسيطة جداً وعادية، لكن المسرحي يثير من خلالها قضايا انسانية مهمة جداً، فالجدل الذي تحدثت عنه والذي لمسته في "بيوت واطئة" أو غيرها من النصوص هو حوار غير عشوائي وانما هو مبني بناء وعليه أن يؤدي دوراً كبيراً في النص.
اضافة الى فضاء المقهى يثير انتباه القارئ في نصوصك فضاء الحانة ويبدو انه فضاء يدفع بعض الشخوص الى دفن انكساراتها.
- مقاطعاً هذه قضايا تهم شخصيات القصص والروايات. ولا اعتقد ان في نصوصي الحانات فقط، ثم ان الشخصيات لا تذهب اليها لدفن انكساراتها بل تذهب للاستمتاع. والحانة أيضاً فضاء للنقاش كما هي في الواقع أيضاً. وكلما اجتمع الناس في ما بينهم فهناك الأغتياب والنميمة، وقضاء المصالح.
في نصوصك حضور قوي للغرب، هل يعكس ذلك واقع الحال أم يتعداه الى نوع من الرمز يرتبط بطبيعة الإرادة الاجتماعية أو السياسية؟
- على كل حال الغرب لا يزال حاضراً في حياتنا اليومية بحكم علاقتنا بظاهرة أو حركة الاستعمار الفرنسي والاسباني والبرتغالي أيضاً. وقبل مجيء الإسلام كان هناك الاستعمار الفينيقي والاستعمار الروماني. وكل منهما دام ألف سنة. وبعد ذلك جاء الإسلام وعمره الآن ألف وخمسمائة سنة. وهذا دليل على ان هذه الفترات متقاربة من حيث العمر تقريباً. والغرب حاضر وقد دعمت الفضائيات هذا الحضور الغربي الآن. العالم تطور وأصبحت المثاقفة فوق الجميع ولو رفضتها الأنظمة. ثم ان المغرب قريب من أوروبا ولا بد ان ينعكس ذلك في الواقع وفي الأدب كما لا بد أن يتأثر المغرب بالغرب ولو انه أغلق أبوابه في وجوهنا الآن. للأسف، أما في السابق فكانت مفتوحة.
ضمن هذا الحضور الغربي يمكن أن نقرأ قوة حضور الجنس - كقيمة - في نصوصك ونعتبره كفضاء للنزال بين الغربي والمغربي وربما العربي.
- الجنس ليس مسألة عويصة ولا إشكالاً. فهو شيء مرافق للبشرية منذ نشأتها الى يوم يرث فيه الله الأرض ومن عليها، قال الرسول ص: "تناكحوا تناسلوا فإنني مباه بكم الأمم غداً يوم القيامة". والجنس تعترف به كل الديانات.
أقصد تأويل حضوره: وإذا كان يشكل موقعاً لمنازلة الغربي فهو سبيل من سبل هزمه؟
- اسمح لي ان أذكّرك بما ورد في القرآن الكريم أيضاً "انكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وما ملكت أيمانكم".
نصوصك الأولى تعكس مناخات وجودية: تمزق، قلق وجودي، ثقل الذات على الإنسان؟
- هذا القلق موجود ونعيشه يومياً في الحياة قبل الكتابة. وهذا القلق الذي أسميه الأنطولوجي موجود، وقد قلت عنه في احدى قصصي انا لم أختر ان أولد ولم أختر ان ألد فهناك قوة عليا خلقتني وخلقت أبنائي. لم أختر. لو كان الاختيار بيدي، والعياذ بالله - وهذا ليس كفراً - ما كان عليّ أن آتي الى هذا العالم لأتألم وأتعذب وأعاني.
في نصك الروائي "أفواه واسعة" نلمس تراجع الغضب أو العنف وبروز بعض الحكمة؟
- هذا رأي بعض النقاد ورأي من كتبوا عن هذا النص. لا يمكنني أن أصدر حكماً على هذه الرواية. ولكن أقول انها كتبت بعد ان تجاوزت الخمسين حولاً وبعد تجارب متواضعة في الكتابة. فهذه الأفواه الواسعة أتمنى أن تغلق ذات يوم لأنها تأكل كثيراً وتتحدث كثيراً وتغتاب كثيراً. وأفواه السياسيين عندنا تكذب كثيراً أيضاً. أتمنى أن تغلق كل هذه الأفواه قليلاً.
شخصيات "أفواه واسعة" يثور بعضها على الكاتب.
- لأن الكاتب يعتقد انه يملك الحقيقة، ولكن الأبطال والشخوص لهم رأي آخر. فالكاتب يعتقد انه خلق تلك الشخوص في حين هي تتحكم فيه - في روايتي - فأصبح هو نفسه ضحية لها.
لم تعط لشخوصك أسماء.
- نعم، باستثناء الفقيه "الفرتلي" لم أرد ان أسمي تلك الشخصيات.
هل لأن هذه الشخصيات تشبه كل الناس أم لأنها بلا قيمة؟ وهذا يذكرني ببلزاك الذي لم يُسَمِّ الشخصية الرئيسة في أحد أعماله وقد أطلق عليها "الصفر الاجتماعي" لأنها كانت مبتلية بلعب القمار.
- هذا شيء جميل حقاً. وأتذكر الآن كاتبة سعودية أرسلت لي احدى رواياتها، ولا اعرفها شخصياً. اسم بطل روايتها "صفر أربعة" وليست هناك أسماء لشخوص الرواية. وهذه الكاتبة رائعة وهي رجاء عالم... وأنا لم أرغب في أن أسمي شخصيات روايتي هذه لأنها ليست رواية أسماء أو رواية شخصيات تتحرك بل هي رواية أفكار.
قد نلمس ما يؤكد ان رواية "أفواه واسعة" رواية أفكار أو تأملات في الطابع أو الشكل البانورامي الذي اعتمدته كبنية، ذلك ان السارد وهو "يحكي قصته" يثير قضايا عدّة كخيوط سردية: بعضها ذو طابع شخصي وبعضها مجتمعي وبعضها عالمي أو انساني.
- بالتأكيد حاولت الرواية ان تثير بعض القضايا ولكن في طريقة فنية بحسب ما يقول النقاد، بتقنية خاصة. فكلما قلت لك لا يتعلق الأمر بريبورتاج صحافي ولكن يتعلق برواية تمكنني من أن أطرح فيها بعض الأشياء في طريقة فنية لكي أسرب ما يمكن تسريبه الى القارئ. فأحياناً يمكنه أن يقرأ تلك المقاطع التي سردتها الآن ويستسهلها ولكنني أوقفه بطريقة خاصة وأطرح عليه بعض الأشياء التي فكرت فيها من قبل وكانت في حاجة الى فترة مخاض - دام نصف قرن - لتتبلور.


* نشر في الحياة يوم 17 - 07 - 2001

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى