أنور المعداوي - علي محمود طه.. حياة من شعره -11-

- 11 -

تصفح المجلد الثاني من كتاب (وحي الرسالة) للأستاذ الزيات، وقف عند الصفحة الخامسة والأربعين بعد الثلاثمائة، وأقرأ ما جاء بهذه الصفحة تحت هذا العنوان: (أرواح وأشباح).

(على الضفة الشجراء من مصيف المنصورة عرفت علي محمود طه، وعلى هذه الضفة الخضراء من مربعها قرأت (أرواح وأشباح)، وكان بين اللقية الأولى للصديق وبين القراءة الأخيرة للشاعر إحدى وعشرون سنة.

كان حين عرفيه إبان شبابه، وكنت حين عرفني في عنفوان شبابي؛ وابن آدم في هذه السن ربيع من أربعة الفردوس لا يدرك بمحدود الشعور، ولا يوصف بلغة الشعر. فهو منظور الخلقة، مسجور العاطفة، مسحور المخيلة، لا ينشد غير الحب، ولا يبصر غير الجمال، ولا يطلب غير اللذة، ولا يحسب الوجود إلا قصيدة من الغزل السماوي ينشدها الدهر ويرقص عليها الفلك. وعلى ذلك كنا أيام تعارفنا وتآلفنا: هو على حال عجيب من مواس الهوى وما لابسها من ألوان وصور، وأنا على عهد قريب من ترجمة (آلام فرتر) وما سايرها من أحلام وذكر!

قال لي صديقي حسين ونحن عائدان من نزهتنا اليومية في الشقة الخلوية من شارع البحر: مل بنا إلى قهوة (ميتو) أعرفك بشاب من ذوي قرابتي يرضيك خلقه، ويطربك حديثه، وقد يعجبك شعره. وكان شارع البحر كما هو اليوم متنزه المدينة، فلا ترى على جانبيه غير مماص القصب، ومشارب الكازوزة، وعرائش الكرم وألفاف الشجر تتفيأها هذه القهوة.

دخلنا القهوة فوجدنا في باحتها بعض الإغريق وعلى إحدى مناضدها المنعزلة فتى رقيق البدن شاحب الوجه فاتر الطرف، ينظر في سكون ويقرأ في صمت. فلما رآنا هش بقريبه ورف لي، ثم كان التعارف. وطارحناه طرفا من الحديث ثم طلب إليه صديقي أن ينشدنا بعض شعره، فنشط لهذا الطلب وارتاح كأنما نفسنا من كربه أو خففنا من عبئه؛ ثم قال ف سذاجة الريفي ووداعة الطفل: نشرت لي جريدة السفور هذه القصيدة وقدمتها بهذه الكلمة. . . ثم أدى المقدمة عن ظهر الغيب وهم بإنشاد القصيدة. وكنت حين ذكر (السفور) قد أصغيت سمعي وجمعت بالي، فلم يكد يفرغ من سرد المقدمة حتى صحت به:

- أأنت صاحب هذه القصيدة؟

- نعم.

- وأنا صاحب هذه المقدمة.

عجيب!!

كان ذلك في سنة 1918، وكانت جريدة السفور يحررها يومئذ الأعضاء الأصدقاء من لجنة التأليف والترجمة والنشر، وكان النظر فيما يرد على الجريدة من الشعر موكلاً لصديقي الأستاذ الجليل الشيخ مصطفى عبد الرزاق، ولي. . فألقى إلينا البريد فيما ألقى هذه القصيدة غفلاً من الإمضاء، فقرأناها للاختيار، ثم قرأناها للاختبار فوجدنا قوة الشاعر الموهوب تطغى على ضعف الناشئ البادئ، فضننا بها على السل، وصححنا ما فيها من خطأ، وقدمت لها ببضعة أسطر تنبأت فيها بنبوغ الشاعر، ونصحت له أن يرفد قريحته السخية بمادة اللغة وآلة الفن، وأخذت عليه أن يكره قيثارة المرح على النغم الحزين واللحن الباكي وهو لا يزال في روق الشبيبة كما يقول في شعره.

ثم تعقبت بعد ذلك علياً: تعقبت آثاره، وتعرفت أطواره، وتقصيت أشعاره، فإذا الفراشة الهائمة في أرياض المنصورة ورياض النيل تصبح (الملاح التائه) في خضم الحياة، (والأرواح الشاردة) في آفاق الوجود، و (الأرواح والأشباح) في أطباق اللانهاية! وإذا الناشئ الذي كان يختشب الشعر ويتسمح فيه، يغدو الشاعر المحلق بجناح الملك أو بجناح الشيطان، يشق الغيب، ويقتحم الأثير، ويصل السماء بالأرض، ويجمع الملائكة بالناس، ويقضي بين حواء وآدم!).

من هذه الكلمات التي كتبها الأستاذ الزيات عن الشاعر، ومن دراستنا الخاصة لحياته على ضوء صلتنا به وقراءتنا له، نخرج بان شاعرنا المصري كان في الفترة الأولى من عمره - أي وربيع العمر في أبانه - كان صاحب شخصية انطوائية. . وبقدر ما كانت هذه الشخصية منطوية على نفسها فيما قبل الثلاثين، كانت فيما بعد الثلاثين شخصية أخرى لا يكاد يربطها بالماضي صلة من الصلاتأي أن علي طه كان في تلك الفترة الأخيرة من حياته صاحب شخصية انبساطية! وكان حين لقيه الزيات ذلك اللقاء الأول في حدود العشرين من عمره على أكثر تقدير، وكان الزيات في جديد يكشف لنا عن أثر البيئة المادية والمعنوية في تكوين هذا المزاج القاتم الذي قاد حياة الشاعر وفنه فيما قبل الثلاثين والذي وجه حياة كثير من الشباب الذين فطروا على رهافة الحس وإشراق النفس وتوقد العاطفة، في تلك الفترة التي كان فيها علي طه في إبان شبابه وكان الزيات في عنفوان هذا الشباب، وهي الفترة التي انتظمت الربع الأول من القرن العشرين.

تقول لنا الأستاذ صاحب الرسالة - وهو قول يؤكده حديث الشاعر عن نفسه ويؤكده شعره - إن علي طه كان في تلك الفترة الأولى من حياته (فتى رقيق البدن شاحب الوجه فاتر الطرف ينظر في سكون ويقرأ في صمت). . وأنه أخذ عليه في تلك الكلمة التي قدم بها القصيدة المنشورة في مجلة السفور 1918 (إكراه قيثارة على النغم الحزين واللحن الباكي وهو لا يزال في روق الشبيبة كما يقولشعره). ومن هاتين الزاويتين نستخلص هذه الحقيقة الناصعة، وهي أن شاعرنا كان واحدا من هذه الشخصيات الإنطوائية الحزينة؛ المحلقة في كل جو قاتم وكل أفق حالم وكل سماء تتوهج بلهب الحنين والحرمان!

والحق أن هذا المزاج الحزين كان مزاج العصر أو طابع العصر أو (مرض العصر) إذا شئت أن تسميه. . . وكان هو الروح المسيطرة على شباب تلك الفترة ممن رفت مشاعرهم ورقت خواطرهم والتهب منهم الخيال والوجدان. وإذا قلنا مرض العصر فإنما نعني تلك الفترة التي خلقت جيلا من الشباب كان الزيات واحدا منهم وكان علي طه، وهو الجيل الذي صنعته بيئة خاصة ذات تربية خاصة وتقاليد خاصة وثقافة خاصة، ذلك الذي يصفه الزيات أدق وصف ويعبر عن هواجسه وأحلامه وآلامه أصدق تعبير، في هذه الكلمات التي ساقها في معرض الرد على من سأله لماذا ترجم آلام فرتر؟

(تسألني لماذا ترجمت فرتر. . . والجواب عن هذا السؤال حديث، والحديث غداً سيكون قصة، وليس يعنيك اليوم منها إلا ما نجم عنها: قال جيته يوما لصديقه أكرمان: (كل امرئ يأتي عليه حين من دهره يظن فيه أن (فرتر) إنما كتبت له خاصة). . . وأنا في سنة 1919 كنت أجتاز هذا الحين: شباب طرير حصره الحياء والانقباض والدرس ونمط التربية وطبيعة المجتمع في حس مشبوب يتوقد شعوراً بالجمال؛ وقلب رغيب يتحرق ظمأ إلى الحب، ونوازع طماحة ما تنفك تجيش، وعواصف سيالة ما تكاد تتماسك. . . فالطبيعة في خيالي شعر، وحركات الدهر نغم، وقواعد الحياة فلسفة! وكان فهمي لكل شيء وحكمي على كل شخص يصدران عن منطق افسد أقيسته الخيال، وزور نتائجه المثل الأعلى؛ ثم غمر هذه لحال التي وصفت هوى دخيل هادئ ولكنه ملح، فسبحت منه في فيض سماوي من النشوة واللذة، وأحسست أن وجودي الخالي قد امتلأ، وقلبي الصادي قد ارتوى، وحسي الفائر قد سكن. وتخيلت أن حياتي الحائرة قد أخذت تسير في طريق لا حب تنتثر على مدارجه نواضر الورود، وترف على جوانبه نوافح الريحان، وتزهو على جوانبه ألوان عبقر، وترقص على حفافيه عرائس الحور. وذهبت أسلك هذا الطريق السحري محمولا على جناح الهوى كأنني (فوست) على جناحي (ميفستوفاليس) حتى ذكرني الزمان الغافل فأقام فيه عقبة اصطدم عندها الخيال بالواقع الحبيب بالخاطب والعاطفة بالمنفعة! على أنني بقيت على رغم الصدمة حياً، ولا بد للحي أن يسير!

تطلعت وراء العقبة أنظر الطريق فإذا الأرض قفر والورد عوسج والريحان حمض والعرائس وحوش. . . فشعرت حينئذ بالحاجة إلى الرفيق المؤنس! ولكن أين أنشد ما ابغي وحولي من الفراغ نطاق مخيف، وأمامي على أسنة الصخور أشلاء وجثث؟ هذه أشباح صرعى الهوى تتراءى لعينيَّ، وهذه أرواح قتلاه تتهافت علي، وهذه سجلات مصارعهم بين يدي. فلم لا أحدو بأناشيدهم رواحلي، وأقطع بمناجاتهم مراحلي، وألتمس في مواجعهم لهواي عزاء وسلوة؟

قرأت: هيلويز الجديدة، ورينيه، وأتالا، وأودولف، ودومنيك، وماريون دلورم، ومانون ليسكو، وذات الكاميليا، وجرازيلا، ورفائيل، وجان كريف. . . وتوثقت بأشخاصها صلاتي، وتصعدت في زفراتهم زفراتي، وتمثلت في نهايتهم المحزنة نهايتي، ولكنهم كانوا جميعا غيري! نتفق في الموضوع ونفترق في الوضع، كالنساء النوادب في المناحة، تندب كل واحدة منهن فقيدها وموضوع الأسى للجميع واحد: هو الموت!

فلما قرأت (آلام فرتر) سمعت نواحاً غير ذلك النواح، ورأيت أرواحا غير هاتيك الأرواح، وأحسست حالا غير تلك الحال. . .

فنيت في (جيته) وقادني إلهامه وروحه، وأهبت بلغة القرآن والوحي أن تتسع لهذه النفحاتالقدسية فأسعفتني ببيانها الذي يتجدد على الدهر ويزهو على طوال القرون. ثم أصبح فرتر بعد ذلك لنفسي صلاة حب ونشيد عزاء ورقية هم! كأنما كان (جيته) يناديها من وراء الغيب حين يقول في تقدمته لفرتر: وأنت أيتها النفس. . . إذا أشجاك ما أشجاه من غصة الهم وحرقة الجوى، فاستمدي الصبر والعزاء من آلامه، وتلمسي البرء والشفاء في أسقامه، واتخذي هذا الكتاب صاحباً وصديقاً إذا أبى عليك دهرك أو خطؤك أن تجدي من الأصدقاء من هو قرب إليك وأحنى عليك!).

أرأيت إلى هذه الصورة التي رسمها الزيات لنفسه ولشباب تلك الفترة التي حددناها لك بالربع بالخيال، وبهذه الأسلحة التي لا تقطع ولا تدفع كانوا يواجهون الواقع في معركة الحياة. وما أكثر ما كان الواقع يصدمهم بمرارته ويلفح شعورهم بقسوته فيرتدون عقب كل جولة من جولات النضال ونفوسهم مثخنة بالجراح. كان الحياء يحول بين نوازعهم الوقادة وبين متعة الانطلاق، وكان الانطواء يحول بين عواطفهم الجياشة وبين نعمة التحرز، وكانت العزلة تحول بين رغائبهم الوثابة وبين فرصة الظهور، ويقف الخيال بعد هذا كله ليعترض طريق مثلهم العليا لأن المثل العليا لا يمكن أن تتحقق على جناح الخيال. . . ومن هنا وجد هذا المزاج القاتم وهذا الطبع الحزين، نتيجة لهذه الحياة التي كانت تحيط بهم وهي خالية من أفراح النفس ومباهج الروح وأعياد الشعور؟

لقد كان الجو الذي يعيشون فيه جو (الرومانسية الوجودية) أي جو الإحساس بالفراغ والسكون والقفر، يعقبه جو الخلوة إلى النفس والطبيعة وهواجس الأحلام هذه (الرومانسية الوجودية) التي أصابتهم (بمرض العصر) في ميدان الحياة قد دفعتهم دفعاً إلى جو (الرومانسية الفنية) في ميدان الأدب، حتى أصبح المزاج القاتم لا يكلف إلا بالشعر القاتم، والطبع الحزين لا يعجب إلا بالأدب الحزين، سواء أكان ذلك في الإنتاج الأدبي المقروء أم كان ذلك في الإنتاج الذاتي والمنقول. . . ومن هنا كان شعر علي طه فيما ينظم شعر اللوعة والدمعة والأنين والحنين، وكان أدب الزيات فيما يترجم أدب الحسرة والزفرة والبكاء والعويل! وهاهو الزيات يقدم إلينا مزاج العصر ممثلاً في الربع الأول من هذا القرن عندما كان يبحث عن نفسه متلمساً لها العزاء والسلوى في قراءة لون خاص من القصص (توثقت بأشخاصها صلاته وتصعدت في زفراتهم زفراته، وتمثلت في نهايتهم المحزنة نهايته) وفي ترجمة لون خاص من القصص يرضي في نفسه تلك النزعة الملحة إلى الاكتئاب والانقباض والحزن!

وكان الجمهور القارئ من الشباب في تلك الفترة - أعني الجمهور الذي يقتصر على القراء ولا ينتج - كان لا يستهويه شيء بقدر ما تستهويه تلك القصص التي تحفل بكل لون من ألوان المأساة وتتصل بكل سبب من أسباب الفاجعة. وقد وجد الجمهور القارئ عند الجمهور الكاتب بغيته المثلى وزاده المنشود، فأقبل في شغف بالغ ونهم لا يحد، على (آلام فرتر) و (رفائيل) للزيات، وعلى (بول وفرجيني) و (ماجدولين) للمنفلوطي. . . وعلى كل إنتاج أدبي من هذا الطراز!!

وإذا أردت أن تبحث عن مقومات هذا المزاج المنقبض عند الشباب في الربع الأول من القرن العشرين فارجع إلى البيئة المادية والمعنوية فهي المسؤولة عن هذا المزاج. . . لقد كانت بيئة الشباب في محيط الأسرة والمدرسة والمجتمع تنبعث على الانطواء وتدعو إلى التكبيل بكل قيد من القيود؛ فالتقاليد الموروثة تفرض فرضاً على الشباب بما فيها من نظم عتيقة وأساليب صارمة، وكلعبث بهذه التقاليد عبث بقواعد الشريعة والعرف والآداب والأذواق حتى إذا خطر للشباب شيء من التجديد في وسائل العيش ومظاهر الزي وطرائق التفكير، كان ذلك في رأي القائمين على أمرهم خروجا على النظام وثورة على الاحتشام، واندفاعاً إلى هاوية الغي والفساد وانحرافاً عن معاني الفضيلة ومناهج الأخلاق!!. . . وإلى هذه البيئة يشير الزيات في مقاله من لصفحة الرابعة والأربعين من المجلد الأول لكتاب (وحي الرسالة) عندما يقول: (وأنا في سنة 1919 كنت أجتاز هذا الحين: شباب طرير حصره الحياء والانقباض والدرس ونمط التربية وطبيعة المجتمع في حس مشبوب يتوقد شعوراً بالجمال؛ وقلب رغيب يتحرق ظمأ إلى الحب، ونوازع طماحة ما تنفك تجيش، وعواصف سيالة ما تكاد تتماسك). .

وكانت بيئة انعدم فيها الاتصال الكامل بين الرجل والمرأة، حين وقفت التقاليد الموروثة وبقايا الحجاب الصفيق سداً هائلاً وجداراً منيعاً بين الشباب من الجنسين. . . وحرمان البيئة من المرأة وهي بهجة الحياة الكبرى ونبعها الدافق باللذة والجمال والحب، كان له أبعد الأثر في خلق الرومانسية الوجودية والفنية في حياة علي طه الأولى وإنتاجه الأول، وكانت مصدرا عميقا من مصادر القلق الدفين والأسى الملح والشكاة التي تعلن عن نفسها في كثير من شعر (الملاح التائه)!

ولقد كانت المرأة أحد المفاتيح الكبرى لشخصية هذا الشاعر المصري، شخصيته الأدبية والإنسانية فيما قبل الثلاثين وفيما بعد الثلاثين وكانت نقطة التحول بين شعر وشعر وبين حياة وحياة!!

(يتبع)

أنور المعداوي


مجلة الرسالة - العدد 869
بتاريخ: 27 - 02 - 1950

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى