عوض ابراهيم احمد ارباب - عذراء فى زمن العهر السياسى ..

* الاهداء: الى بنى وطنى الذين آذت اسماعهم الانباء المتواترة عن سودانيات يمارسن الرذيلة بدبى .

توطئة ..

بعض السودانيات اللائى وفدن الى دبى بحثا عن عمل، ليس بالضرورة انهن جئن للكسب عن طريق الدعارة، فــ ( الحرةُ لا تأكل من ثدييها ).

النص:ــ

كانت الشمس قد اشرقت عندما طلب الكابتن عبر مكبرات الصوت من ركاب الطائرة ربط الأحزمة استعدادا للهبوط ..
خيوط ذهبية رقيقة من شعاع شمس الصباح تتسلل متلصصة عبر النافذة الزجاجية ذات الشكل البيضاوى، وتستقرعلى صفحة وجه اعتدال الدائرى فتزيد من الق تقاطيعة الدقيقة .. تمطت فى تكاسل وهى تتثاءب ، فقد امضت الليل الا اقله مسهدة، فهذه هى المرة الاولى التى تركب طائرة تحلق بها بعيداً عن ارض الوطن.
فتحت حقيبتها اليدوية واخرجت منها مرآة صغيرة رفعتها امامها وجالت بعينيها النجلاوييـــن الساحرتين تتفحص وجهها الذى بدت عليه آثار السهر ، فمررت خنصر يدها اليسرى على حاجبيها لتصلح بعض الشعيرات التى تبعثرت اثناء الفترات القليلة المتقطعة التى زارها النوم فيها ..اصلحت طرحتها التى انزلقت على كتفيها ونظرت الى وجهها نظرة شاملة، ومن ثَم اعادت المرآة الى داخل الحقيبة، ثم اعتدلت فى جلستها، وجذبت طرفى الحزام وطوقت به وسطها وامالت ظهرها الى الوراء قليلا وهى تحس بثقل فى رأسها والطائرة تبدأ فى الهبوط الى الاسفل .
تذكرت والدتها المريضة واخوتها صابر وهاشم وهديل، ورجعت بذاكرتها الى ما مضى من ايام .. توفى والدها وتركهم بلا عائل .. لم تحتمل الأم وقع الصدمة فاصيبت بشلل نصفى اقعدها تماما، ولم يكن امام اعتدال أي خيار سوى هجر مقاعد الدراسة والبحث عن عمل لتجنب الاسرة براثن العوز والمسغبة .. لم يكن طريق البحث عن العمل مفروش بالورود، فقد عانت وذاقت الامرين قبل ان تحصل على عمل فى احد المطاعم السياحية، احبت عملها الجديد كـــ (نادلة ) الا انها كانت تضيق بالنظرات الوالهة التى يشيعها بها الزبائن، تلك النظرات الوقحة التى تكاد تخترق ملابسها لتستقر على مناطق بعينها فى جسدها، لماذا لا يرى الرجل فى المرأة الا ذلك الجسد الشهى المثيرالذى يفجر ثائرة غرائزه البهيمية، لماذا ينظر اليها كوعاء يتقيأ فيه اوساخ فحولته، متجاوزاً الحقائق التى تنطوى عليها شخصيتها كإنسان، فهى ليست ذلك الكائن الذى وُجد فقط ليمنح المتعة للرجل.. هى انسان قبل كل شيء.. هى روح وعقل قبل ان تكون قدا مياسا وقواما ممشوقا وبشرة تضاهى البلور صفاءً، ولا يمثل الجنس فى سلم اولوياتها الا بذات القدر الذى يحفظ للحياة استمراريتها وللبيئة توازنها، وللتكاثر ديمومته، فهو أى الجنس ليس بغاية فى حد ذاته انما وسيلة لغاية هى بالتأكيد اسمى من مجرد متعة آنية، على الاقل عند الكثير من النساء.. تلك هى قناعتها التى نشأت عليها وآمنت بها وتبنتها منذ ان بلغت سن الرشد، ولن تحيد عنها حتى يلج الجمل فى سَمِّ الخياط.
هى الآن فى رحلة تتمنى ان تغير الواقع المؤلم الذى تعيشه اسرتها، فالراتب الذى تتقاضاه نظير خدماتها فى المطعم بالكاد يفى بمتطلبات المعيشة، ناهيك عن العلاج شبه اليومى الذى تحتاجه امها المشلولة، فضلا عن مصروف الدراسة الذى اثقل كاهلها، فكثيرا ما تجد نفسها عاجزة عن توفيره للصغيرين هشام وهديل، فبالرغم من المساعدة التى تجدها من اخيها صابر - طالب الثانوى - الذى يعمل فى عربة ( كارو ) بعد انتهاء اليوم الدراسى، الا ان ذلك لم يكن كافيا، خصوصا مع الزيادة الجنونية لاسعارالمواد الحياتية والتى هى فى ارتفاع مستمريوما بعد يوم، فقررت ان تاخذ اجازة وتسافر الى دبى التى حدثتها عنها صديقتها ( منال ) لعلها تجد فرصة عمل تطرد عن اسرتها شبح الفقر والحاجة، وتجابه بها صروف الدهر وغوائل الايام .
جالت بذهنها تلك الافكار والطائرة تهبط تدريجيا نحو الاسفل .. كفت عن التفكير وحاولت الهاء نفسها عن تذكر الماضى بان اشاحت ببصرها الى النافذة .. ها هى دبى تحتها تبترد وتغسل وجهها الفاتن بماء الخليج ، وتنسج من خيوط الشمس تاجا يعلو هامتها التى بلغت الثريا .. انها دبى عروس الخليج .. حكاية من حكايات الف ليلة وليلة، اسطورة مدت لسانها لكل الاساطير، تلك المدينة الخيالية الباذخة التى ما فتئت تفتح ذراعيها للعالم لتضمه الى صدرها الواسع بمودة حقيقية، ورحابة لم تسبقها عليها بلدة او مدينة من قبل، فدبى المدينة اللاهية السعيدة لا تتجهم فى وجه احد.
هبطت الطائرة ونزل المسافرون ليجدوا البص الذى سيقلهم الى صالة الوصول فى انتظارهم، كان الوقت لا يزال مبكرا حينما تحرك البص متجها نحو صالة الوصول، فالساعة تشير الى السابعة صباحا غير ان حرارة الجو كانت فى اعلى درجاتها، فاغسطس بحرارته التى تذيب الحجر لمّا يزل فى اواسطه .. توقف البص امام احدى بوابات مبنى الصالة الضخم الذى يستقبل الوافدين من جميع انحاء العالم.. نزلت اعتدال من البص تجر خلفها شنطتها التى حوت متاعها ودلفت الى داخل الصالة .. سحنات ووجوه من شتى بلاد الدنيا امتلأ بهم المبنى الواسع الفخم .. وجدت نفسها تقف فى احد الصفوف انتظارا لدورها فى الوصول الى كابينة مراقب الجوازات، لم تمض بضعة دقائق حتى وصلت الى الكابين .. رحب بها الضابط وهو يتناول منها الجواز، ثم سألها ممازحا : انتى ( زولة )؟ ردت عليه بابتسامة خجولة.. سألها مرة أخرى وهو يقوم بفحص الجواز : أهى زيارتك الاولى لدبى ؟ انتابها شيء من التوتر قبل ان ترد عليه بالايجاب، ادخل الضابط بيانات الجواز على جهاز الكومبيتور ثم ختم على احدى صفحاته تاشيرة الدخول وناوله لها متمنيا لها اقامة سعيدة بالدولة .. استلمت جوازها ثم انصرفت وهى تكاد تطير من الفرح.
كان فى انتظارها بالخارج صديقتها منال التى تعمل مندوبة مبيعات فى شركة تقول ان صاحبها سودانى، تعرفت عليها منذ بضع سنين حينما التقتها ذات عَشاء بالمطعم الذى تعمل فيه، ثم توالت اللقاءات بعد ذلك حتى توطدت العلاقة بينِهما، وكانت منال فى كل مرة تلتقيها تحدثها عن دبى وتوفر فرص العمل فيها، وتحثها على السفر، ففى آخر زيارة لها الحت منال على اعتدال ان تترك عملها بالمطعم وتاتى الى دبى وسوف تقوم هى بتدبر امرها. نزولا عند رغبة صاحبتها، وأملا فى تغيير واقع الحال قررت اعتدال السفر الى دبى، وها هى الآن وجها لوجه امام صديقتها.. كان لقاء حارا ذُرفت فيه الدموع من جانب اعتدال، وبعد السلام والسؤال عن الاهل والوطن، استغلتا عربة تاكسى وطلبت منال من السائق ان يتجه الى حى ( ديرة ).
كانت اعتدال فى حالة ذهول من المشاهد التى تمر بها، واشد ما اذهلها فن العمارة الذى تجسده روعة البنايات الشاهقة التى تكاد تلامس سقف السماء، والجسور المتشابكة التى يعلو بعضها البعض، قالت فى دهشة حقيقية : احس كاننى فى مدينة خيالية لا تمت الى الواقع باى صلة.
- انها دبى، ردت منال، واردفت فى غموض: ستحبينها، فهى مدينة تعرف كيف تنتزع الحب عن الآخرين .
- احببتها قبل ان اراها، قالتها اعتدال بسعادة حقيقية .
ساد بينهما الصمت الى ان وصلتا الى وجهتما، اشارت منال للسائق بالتوقف ونقدته اجره ثم نزلتا من التاكسى واتجهتا الى الشقة التى تشغل حيزا فى الطابق الثالث بمبنى يتكون من خمسة طوابق فى وسط حى ديرة العتيق.. لم يكن هنالك ما يلفت النظر، فالهدوء يلف المكان، والشوارع شبه خالية من المارة ويبدو ان الناس لا يزالون فى مخادعهم، فاليوم هو عطلة نهاية الاسبوع .. استغلتا المصعد الذى توقف بهما فى الطابق الثالث، فغادرتاه واتجهتا نحو شقة منال.
هل تسكنين الشقة لوحدك ؟ سألت اعتدال فى فضول ..
- معى أخريات، ردت منال باقتضاب وهى تقوم بفتح الباب.
ولجتا داخل الشقة فحملت منال عن صديقتها الشنطة وذهبت بها الى احد الغرف دون ان تتحدث اليها.. تتكون الشقة التى تسكنها منال من ثلاثة غرف، غرفتان منها تطلان على صالة طويلة، بينما تقع الثالثة على اليمين من مدخل الشقة وتطل على ممر يفضى الى الصالة وبقية الغرف، يقابلها من الجهة اليسرى المطبخ وحمامين .. وجدت اعتدال نفسها بالصالة فجلست على الاريكة الوثيرة وهى تتأمل هذا الترف الفاحش الذى ينطق به الديكور الذى يزين الجدر، وموديلات الاثاث الفاخر، والاناتيك الموزعة فى كل اركان الصالة الرحبة، وبينما هى على ذلك الحال سمعت همسا وتأوهات ياتيان من احدى الغرف التى يبدو ان من بداخلها نسى ان يوصد الباب، فتركه مواربا إذ يستطيع من بالخارج ان يسمع ما يدور بداخل تلك الغرفة التى عبقت منها رائحة البخور السودانى الشهير، لم تعر ذلك اهتماما واستمرت فى تاملاتها وهى تتساءل من اين لمنال ومن يقمن معها كل هذا الثراء، ثم تمنت ان تحصل على عمل فى هذه المدينة المترفة حتى تستطيع ان تحيا هذه الحياة المرفهة .
جاءت منال بالفطور المكون من بيض مسلوق وجبن وزبادى ووضعته امام صديقتها وبدأتا فى تناوله، لم تأكل اعتدال بشهية مفتوحة ، فقد كانت مرهقة من تداعيات الرحلة الطويلة التى استمرت لاربعة ساعات كاملة، او لربما بسبب الفرحة التى غمرتها بتحقق حلمها فى الوصول الى دبى.
قالت منال بذهن شارد وقد لاحظت عدم رغبة صاحبتها فى الاكل : يبدو انك مرهقة، ثم اضافت : يجب ان تنامى بعد الفراغ من الأكل، فامامنا برنامج حافل ستزورين خلاله كل الاماكن السياحية فى المدينة .
ردت اعتدال بسعادة: اووه، يروقنى ذلك كثيرا..
رفعت يدها عن الطعام ثم نهضت وذهبت فى اتجاه الحمام، وفى الطريق سمعت صوتا نسائيا يتحدث بغنج وضحكة خليعة تصدر من ناحية تلك الغرفة التى تضوع منها رائحة البخور السودانى الشهير.. توالت الضحكات اكثر خلاعة، وعلا الصوت المغناج بعد ان كان اقرب الى الهمس، فتبينت بعض الكلمات فارتاعت من الذى سمعته، فمثل تلك الكلمات البذيئة لا يمكن ان تصدر الا عن عاهرة متمرسة، فاحست أن هنالك فى الامر لإنَّ .
لا تذكر فى اى وقت اخلدت الى النوم، ولكنها افاقت عند الرابعة عصرا، نهضت من السرير وهى تحس بانقباض، فخرجت الى الصالة وفوجئت بوجود مجموعة من الشباب من الجنسين يدخنون فى الشيشة ويتحدثون بلا حياء، وتعلو ضحكاتهم الجوفاء التى يتردد صداها بين حيطان الصالة الفخمة .. حيتهم باشارة من يدها دون تدنو من مجلسهم .. حاول احد الشباب معاكستها بان طلب منها الجلوس معهم الّا انها واصلت مسيرها نحو الحمام دون ان تجبه.
رجعت الى الغرفة بعد ان اخدت حماما دافئا، فوجدت بها منال التى بادرتها مستنكرة وهى تضع الروج على شفتها السفلى : لماذا لم تسلمى على الشباب؟
- ردت بحنق: اغاظتنى وقاحتهم ونظراتهم التى تنم عن فسقهم وقلة ذوقهم، واردفت: يبدو انهم شباب طائش.
- يجب ان تعوِّدى نفسك على مثل هذه الاجواء، فحياتنا هنا هكذا، ثم استطردت :هيا استعدى، سنخرج فى جولة ستزورين فيها بعض الاماكن الشهيرة.
غادرتا الشقة بعد ان استاذنت منال من الشباب وذهبتا فى جولة لم ترجعان منها الا عند الثانية عشرة منتصف الليل.
- او تسمحين؟ سال عماد اعتدال فى رجاء .
- ردت فى توجس: تفضل ..
- معى فائض فى الوزن ارجو ان تحملى عنى هذه الحقيبة، ان لم يسبب لك ذلك شيء من الازعاج ..
لم يكن مع اعتدال الا شنطتها التى جاءت بها من السودان، لذا لم تر مانعا فى ان تساعد عماد الذى رات فى وجهه علامات النبل، فاخدت منه الحقيبة وذهبت بها الى الميزان.
سال عماد محاولا ايجاد موضوع يقتل به الوقت والطائرة تستعد للاقلاع: هل انتى مقيمة ؟
- ابدا ..
- اذن جئتى الى دبى زيارة ..
- نعم..
احس عماد المحاسب بشركة ادنوك البترولية بحزن فى نبرة صوتها، فقال مماحكا : الم تعجبك دبى؟.
انفجرت باكية وبدأت تحكى له عن قصتها الى ان قالت: لم اكن اعلم ان منال بهذه الصفاقة، كانت طوال الثلاثة اعوام الماضية حينما تزور السودان، تلح على فى المجئ الى دبى ، لم اكن اعلم انها تدير مع آخرين شقق للدعارة، فقد اوحت الى انها تعمل مندوبة مبيعات فى شركة يملكها سودانى، وكنت لسذاجتى قد صدقت كل اكاذيبها التى كانت احابيلا نسجتها حولى حتى تمكنت بها من اصطيادى .. جئت وشاهدت بام عينى .. فتيات سودانيات فى عمر الزهور بعن شرفهن بثمن بخس دراهم معدودة لشباب ضائع ابتلعته مواخير ( القوادات ).
حاولت اغرائى للخوض فى هذا المستنقع الآسن بشتى الطرق، تارة بالترغيب، واخرى بالترهيب، الّا اننى رفضت كل المغريات.. مكثت معها ثلاثة ايام، كانت اسوأ ايام عشتها فى حياتى، وعندما رات قوة عزيمتى طردتنى كانها لم تكن تعرفنى فى يوم من الايام .
- يعنى كل ما امضيته بدبى ثلاثة ايام فقط ؟!!.
أومأت براسها علامة الايجاب وقد سرحت بعيدا، كانها تستعيد احداث تلك الايام المقيتة.
الساعة الرابعة صباحا، مطار الخرطوم الدولىى، استغلت اعتدال التاكسى وطلبت من السائق ان يتوجه بها الى الحاج يوسف مربع واحد بعد ان ودعت عماد الذى الح عليها فى ان تمنحه رقمها .
رجعت الى عملها بالمطعم السياحى وبعد اسبوع واحد من وصولها، وبينما هى منهمكة فى تجهيز احد الفواتير رن جرس الهاتف .
- هلو ..
- السلام عليكم .. معك عماد ..
- وعليكم السلام .. اهلا عماد .
- بالبيت ، ام بالمطعم ؟
- بالمطعم ..
- حسنا .. منذ اليوم ستتركين عملك بالمطعم ..
- لماذا ..
- لاننى نويت ان اتزوج .. وزوجتى لن تكون سواك .


عوض ابراهيم احمد ارباب



* الراكوبة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى