أدب السجون عزيز بنبين .. تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت .. -02- ترجمة: عبدالرحيم حزل

لقد سبق للكولونيل اعبابو والجنرال المذبوح أن دبرا لمحاولة انقلاب أولى أثناء مناورات شبيهة أجريت في الحاجب، غير بعيد عن مدرسة أهرمومو، خاصة ملحقتها التي في صفرو. في ذلك الوقت، كان تلامذة صفرو ومؤطروهم قد أمِروا بالتوجه إلى الحاجب، معززين ببعض العناصر من عندنا، للمشاركة في تلك المناورات. ولم أكن يومها بين الجنود. ولقد جرى الإعداد لكل شيء؛ فتشكلت الكوماندوهات، وتجهزت الوحدات بعرباتها وأسلحتها وذخيرتها. وفي اللحظة الأخيرة، جاء الأمر بتفريق الصفوف، فقد ألغيت مشاركة المدرسة. والحقيقة أننا علمنا في وقت لاحق، بعد أحداث الصخيرات، أن الملك توجس يومها خيفةً من شيء يدبَّر له، أو يكون إنما تقاعس بسوء الطقس، فألغى مشاركته في اللحظة الأخيرة. فأحبطت العملية، لكنها لم تُلغَ، وإنما أجلت إلى حين. ففي 9 يوليوز 1971، جاءنا الأمر صباحاً بالاستعداد لنجري، في اليوم الذي بعدُ، مناورات بالذخيرة الحية في بنسليمان، على بعد كيلومترات معدودة من قصر الصخيرات.
أمضينا النهار بطوله نعد العدة، ونكوِّن التشكيلات، وننادي على الجنود بالأسماء، ونتحقق من أمتعتنا، ونوزع المؤن والأسلحة والذخيرة. لقد كانت مهمة صعبة، لأن الرجال لم تكن لهم تجربة في التمرُّن على الرصاص الحي؛ بل إنهم لم تكن لهم أي تجربة على الإطلاق. ومعظمهم لم يكن مضت ستة أشهر على التحاقهم بالخدمة. بل كان ما هو أسوأ؛ فلم يكن أي واحد منا، في ذلك اليوم، يتولى قيادة جنوده.
وفي المساء، كانت قد اكتملت كل الاستعدادات، وقد كانت جرت إعادة التمرين بضعة أشهر قبل، لكن ليس بالأفراد أنفسهم؛ وأما تلك المرة، فنحن الذين وقع عليه اختيار القدر. وبعد نهار من العمل الشاق، وجدنا أنفسنا على مائدة الضباط للعشاء، في لباس القتال بطبيعة الحال، وبأيدينا أسلحة وذخيرة. وإذا طبيب المدرسة، وهو ملازم فرنسي في مقتبل العمر، يدخل علينا، ويصيح بنا : "رباه، هل ستقومون بانقلاب؟". فقوبلت ملاحظته بانفجار ضحكة عامة. لكن شكاً صغيراً تولد لدينا حينها، وإن لم نصرح به لبعضنا.
وفي اليوم الموالي كان كل فرد قد اتخذ موقعه. وبدأ الموكب بالتحرك في الصباح الباكر. وكان يتألف من عشرين شاحنة محملة بالرجال، يتقدمهم ضابط وضابط صف. وفي مقدمة الموكب كما في مؤخرته، يوجد من كان يسمى الكوماندوهات؛ وقوامها سيارات جيب خفيفة، بعضها زودت برشاشات ثقيلة من نوع "/712"، وزودت الأخريات بمدافع مضادة للذبابات. وقد جعِل على كل سيارة جيب أربعة جنود، معظمهم عملاء للكولونيل. وقد علمنا في ما بعد، أن بعض هذه الوحدات الخفيفة كانت مكلفة بمهمة خاصة جداً : أن تحرص على ألا يخرج جندي أو تخرج سيارة من التشكيلة. وقد أعطيها الأمر بإطلاق النار على أولئك الذين ربما عنَّ لهم أن يخرجوا للتجول في تلك الأنحاء.
قطع الموكب مسافة ثلاثمائة كيلومتر الفاصلة بين أهرمومو والعاصمة، من غير أن يساور أفرادَه قلق، أو يلاقيهم درك أو شرطة، أو تلاقيهم من مراقبة على الإطلاق، وهو ما أمرٌ أقلُّ ما يقال عنه في بلادنا إنه غريب. فلما بات الموكب على مبعدة بضعة كيلومترات من الرباط، قريباً من الموقع الصغير المسمى بوقنادل، توقف الموكب عند مؤخر غابة. وتلقى الضباط وحدهم الأمر بالنزول. كان اعبابو هناك بانتظارنا، ومعه أخوه محمد، الذي كان يكبره سناً، لكنه كان دونه كفاءة. وكان هنالك، أيضاً، أشخاص آخرون لم يسبق لنا أن رأيناهم، كانوا من ضباط الصف. وسنعرف في وقت لاحق أنهم أفراد من عائلة الكولونيل. ألقى إلينا بالأوامر لإتمام المهمة : سيقسم الوحدة إلى موكبين، يتولى هو قيادة أحدهما، ويتولى أخوه قيادة الآخر. وينبغي لكل موكب أن يدخل من باب، وينزل إلى المماشي، ولا يطلق النار إلا بأمر، وأن يمنع أياً كان أن "يخرج".
لكن يخرج من أين؟
ويجدر بي أن أتوقف ههنا لأوضح أمراً أساسياً، أختلف فيه عن رفاقي، وهو المتعلق بمكان العملية. فأما أنا فقد سمعت مَن فاهَ بكلمة "قصر". وأما هم، فمنهم من زعم أنهم سمعوا عبارة "مكان المناورات". وكان هنالك آخرون، يقرون بسماعهم كلمة "قصر"، لكن يزيدون إليها توضيحاً أن "الملك كان في خطر"! فأين كان، لا الحقيقة، بل الواقع؟ فالزمن والأحداث كثيراً ما يبدلان من ذكرياتنا عن الوقائع.
لقد انطلقت آلة القدر، ولسوف تسحق كل المشاركين في تلك المأساة. فلن يفلت منها واحد بسلام.
***
كان قصر الصخيرات هو الإقامة الصيفية للملك، وفيه يحتفل بأعياد ميلاده التي توافق أعيادَ الشباب. ولقد أقبل على القصر في ذلك اليوم سائرُ من في البلاد من شخصيات من عوالم السياسة والدبلوماسية والجيش والأعمال، واجتمعوا من حول الملك. وجُعل على المدخل رجال الدرك، يرافقهم جنود من الحرس الملكي، ليقوموا بمهام الحراسة. فلما رأوا الموكب، رفعوا الحاجز، ووقفوا استعداداً لتلقي الأمر. فدخلنا، من غير أن ينتبهوا إلى أن الأمر الذي كان بحوزتنا كان شيئاً ملفقاً، وأن الملك لم يكن له علمٌ بتلك المناورات!
الممشيان اللذان طلعنا منهما، كانا يوجدان في طرفي القصر من الناحيتين الشمالية والجنوبية. وبينهما يمتد ملعب للغولف على مساحة معشوشبة فسيحة، تناثر عليها بعض الحُريجات، وبعض الأشجار اليتيمة؛ حيث كان يجري الاحتفال بعيد ميلاد الملك، في خليط عجيب ومزدحم، قد اجتمعت عليه نخبة البلاد. وفي المؤخرة تقوم بناية شديدة الطول، تضم مجموعة من القاعات الكبيرة، تطل، في ناحية الشمال، على الحجرات الملكية وملحقاتها. وأما الواجهة الغربية فتتخللها خلجان كبيرة مزججة تطل على الشاطئ الخاص. فيما كانت الواجهة الشرقية مغلقة من كل ناحية، وتطل على ملعب الغولف. وفي هذه الصورة التي كانت عليها تلك الأمكنة بعض تفسير للمذبحة التي وقعت في ذلك اليوم.
كان الدرس القتالي الأول الذي أعطيَ إلى التلاميذ أن عليهم، في حال تعرضوا لكمين، وتعرضوا لإطلاق نار من العدو، أن يندفعوا من الشاحنات ويردوا على الهجوم. ومن أسف أنهم نفذوا هذه النصيحة من غير تفكر ولا تمعن...
دخل الموكب الذي يتولى قيادته أخو اعبابو هوالأول من البوابة الشمالية، وتقدم حتى جاء الملعب المعشوشب؛ حيث ضيوف الملك متجمعون. وأما نحن فكنا على الجانب الآخر، نستعد للنزول. وفجأة سُمعت رشقة رصاص. أتكون نوبة هلع استبدت بأحد التلاميذ؟ إنه لغز محيِّر. فكانت بداية البلبلة. وإذا التلاميذ ينفذون التعليمات، فيندفعون من الشاحنات، ويشرعون جميعاً في إطلاق النار. وقد حاولنا بكل الوسائل أن نجعلهم يتوقفون، لكن عبثاً حاولنا. ولم يكن لنا حيلة إلا أن ننبطح أرضاً، لتحاشي الإصابة برصاصة طائشة. كان الرصاص ينهال طوفاناً من رتلي الشاحنتين اللذين كان يطوقان المكان، فكانت مذبحة على الجانبين؛ فالطلقات المتقاطعة حصدت الأشخاصَ الذين لبثوا واقفين في ملعب الغولف، كما حصدت تلاميذ كثراً، لم يُكشَف عن عددهم بعد الأحداث، لكن ما يزيد عن مائتين منهم سقطوا برصاص رفاقهم.
وما أسرع ما عمت الفوضى الأرجاء. فما عاد لأحد أن يتحكم في أحد، ولا عاد أحد يهتدي إلى ما يفعل. وحتى لقد اعبابو نفسه كل تحكم في الوضعية، وما كاد ينزل حتى تعرض لرصاصة نفذت في كتفه. ورأيت بعض التلاميذ يسقطون أمامي، فتعذر عليَّ أن أعرف حتى إن كانوا من تلاميذي. لقد استولت عليَّ الحيرة. وعبثاً أطلقت عقيرتي بالصراخ، فلم يستمع إليَّ أحد. أردت، أو كان يفترض بي، أن أدعوهم بأسمائهم، لكني لم أكن أعرفهم. فلقد أعطونا تلاميذ غير تلاميذنا، فقلصوا علينا نطاق المبادرة. فكانت الكارثة.
ثم توقف الرصاص، وما توقفت البلبلة والاضطراب. ثم نهضت لأجمِّع وحدتي، لكن ماذا بقي منها؟ لم يسعني أن أعرف، فاللائحة قد بقيت في الشاحنة. وأي شاحنة؟ وحده السائق كان يمكنه أن يخبرني، لكن لاسبيل إلى الاهتداء إليه، فلقد اختفى. ومن دون لائحة، كان يتعذر عليَّ الاهتداء إلى التلاميذ الذي لم أكن رأيتهم إلا مرة واحدة مساء اليوم الذي قبلُ.
تملكتني الحيرة والتلف، فقررت أن أقوم بجولة عساي أفهم ما حدث. فلم يعد يساورني شك حينها، بشأن الهدف من تلك المغامرة التي أُقحمت فيها. وكان المشهد مريعاً : أجساد ترقد في كل مكان، قد نزفت حتى آخر قطرة من ذمائها. تلك كانت أول مرة أرى فيها ميتاً عن قريب. والأشد قسوة عليَّ كان أن أقع على جثة لتلميذ من تلاميذي؛ فهذا كنت أعرفه، وهذا ثمت بكوينه وتدريبه، وما كان إلا فتى صغيراً. فأعظم بها من خسارة!


===================



ولد عزيز بنبين بمراكش سنة 1946 . عاش مخضرماً؛ يجمع بين المدرسة الفرنسية الحديثة والمدينة العتيقة في مراكش، وبين صرامة الأدب الحديث ومتخيَّل الحكاية الشرقية. أمضى عشرين سنة رهينَ السجن، سلخَ منها ثمانية عشرَ في معتقل تازمامَّرت.


فقد أُقحِم الضابط الشاب في المحاولة الانقلابية التي دارت وقائعها في قصر الصخيرات يوم 10 يوليوز 1971، ثم قُدم إلى محاكمة تعسفية، ليُلقَى به في المعتقل العسكري الرهيب، الذي نبت يومها في قلب الصحراء المغربية...
لقد أقبِر صاحبنا طوال عقدين من الزمن، في زنزانته رقم 13، التي لم تكن تزيد عن قبو إسمنتي بسعة مترين على ثلاثة. لا تطرقه عليه غير العقارب والأفاعي والرتيلاءات والصراصير. وظل المعتقل الشاب يكابد مصيره، كسيزيف وكأنتيغون. وظل يتسلح بإيمانه على مغالبة ذلك الجحيم، الذي يؤثثه العذاب والجنون والموت، ليس له فيه من وسيلة للاتصال بالحياة غير السمع، فجعل يكرس نفسه لرفاقه في المأساة، ويجعل من نفسه لهم حكاءً أو بائع أحلام...
ويعود عزيز بنبين، ههنا، ليرفع هذا القبر المؤلم الممض من الكلمات، تمجيداً لكل واحد من إخوته ضحايا تازمامرت. ويضع شهادة نفيسة عن كابوس سجني حديث. إنها قصة تضرب عميقاً في أغوار الطبيعة البشرية، وتشحذ قوة الإيمان والخيال الفائقة في مواجهة الوحشية الكاسرة.


* عن:
عزيز بنبين .. تازْمامَّرْت .. تازْمامَوْت .. 02

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى