عبد الرحيم سعد - حراشفُ الشمس

الاهداء:
إلى الذين بصقتهم الشمس أطفالاً فاقدي المأوى.. لائذين والحنان سراب.. سراب تشوبهم تفاصيل الصحارى القاحلة تتشكل ملامحهم من تشابك الغابات الاستوائية .. ماكثون في مرارة الحال.. باقون في العهد الخراب..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


منذ نطفتك الأولي، وأنت تنظر إلي الحياة بعينين لا يسع ضوئهما الدرجة التي تجعلك تفسر ماهية الأشياء، ومعني الغبار والناس، لِمَ تعجلت .. لِمَ هبطت من رحم الغيب..ألنّ الحياة وضعتك بذرة في باطنها ونسيت أن تحيك لك جلباب الخروج، فلو كنت تدري بأن الدهر سيرتهنك أرضاً يفقع فيها تجاربه لمكثت عدماً في اللامكان، لكنك تستفيق مضروب علي عنقك، والفقرُ سيافك، حاد كما هو ضجرك من الحياة، من العطالة.. من..من كل آمالك التي تشرّبها السراب. أوشكت أن تفعلها، والانتظار المضني يعرج بك تاركا روحك، تفسح مجالاً لا تبلغه الأنياب الكاسرة، ، فعلتها والانتظار المضني قد بلغ بك نهاية العبث، حتى الهجير يومها افتقد نظراتك التي تبثُ فيه الغرور...
تتناثر بقايا سجائرك ، لتماثل تشتت أفكارك، الواثبة في امتداد غرفتك وصولاً إلي سريرك الذي يحفظ في ذاكرته كل اتكاءة بذلتها فيه، وكل خيبة بذلتك وراء سعيك لوظيفة..
تقذف بأوراقك، تنظر فيها كعود ثقاب إلى قش جاف، ذلك قبل أن تحرقها ساخطاً، والوقت الذي تفزع فيه والدتك.. لا يسعها سوي كنس رماد الخيبة، بعدها تتركك وحدك تصارع في بقية الخيارات، تتخذ من تلك الجرادل الملونة، مهنة تُرقع بها ثوب عطالتك، ماكثاً في تقلبات الوقت، تنظر إلي أمانيك المصطفة في حضرة الغبار، ينحرف ظلك، ليواجه الشمس عيناً بعين، فاشلة كل المواعيد التي تنتصب في حضرتك وتغوي كل من به رعشة، أو رمشه ليس بوسعها حجب عساكر الغبار المحاصرين لاحتمالات الرؤية، يبقي ظلك واقداً ينحت من الشمس صورة؛ يستلفها الكون كمرايا للوجود ترمرم ما تبقي من لهاة. و(تكشكش) تلك الكيزان التي بحوزتك، لينتبه المارة، وتنتظر من السماء أن تمدك يداً أو درباً، تسعي فيه بعينين ثاقبتين، لا ترمش لغير الشمس، وأنف لا تُهادن؛ وهي ترفع رائحة أجساد مشوية بنارِ الظلم حد الاحتراق، ترفعها أنفك عن ذاتك غير أبهة لرب الشمس، وغير أبهة لخروجك من عزلتك التي هي دخولك لمغاراتِ أكثر إظلاما، ولسان حالك المذعور يطوي بكل سخرية تلك اللحى الكرتونية .. المطبلة بلا جدوى..ولو أنك أيقنّتَ مدي عمق الخديعة قبل ولوجك السراب، لما تمسكت بقشاته المقصومة الحيلة.. لكنهم يأتون..يأتون.. مندفعين، يدلقون أمالك في التراب، ويركلون الجرادل بأرجلهم، ، الناس من حولك أياد تسندك، والبعض ينفض عنك الغبار..مبلغ ما يصلك من تعاطف يزيد في اختناقك شخوصاً آخرين، تتضح في ملامحهم الشفقة :(السكر .. بيتعوّض..التربيزة ماجاتا حاجة). كلمات العزاء الأخيرة تقوِّيكَ ..تنهض وأنت تزيل التراب من مؤخرة الجردل ..اندلاق العصير وليس متأسفاً عليه، علي من ثمنه.. سكره.. إعداده ..مذاقه الذائب في التراب..؟ كانت الصفعة كفيلة بأن تجعلك تتذكر حتى جدك اللانهائي، تنتهي العاصفة، حصاد ما تحصده كم هائل من الحسرة، وتلعن الوطن، أنت وأمثالك الشاهقين بأنظارهم نحو الأفق، الشارعين أكفهم لجني الفراغ، تري حولك صبية الوطن المشردين والبؤس يعم وجوههم، مثلك مثلهم، إلا أن لك ما تدس فيه رأسك، هم يتغطون بالكراتين، لك من الصبر ما يغطي حدود أصابعك.. يحذرونك من التواجد في هذا المكان، والمكان هو سوق الله الممتدة التي وهبها لمعاش عباده، ترعبك أصواتهم، تخيفك حركات أيديهم، وأعينهم المحمرة كالنار... يغادرونك وأنت محاط بالحسرة والحيرة، يتلاشون من مخيلتك، تتنفس الصعداء، وأحلامك تصير إلي دخانٍِ فيه تري معاناتك بين جزيئاته الشفيفة، حينها تشعر بنفسك، حيث لا تفسرها إلا وهي في عمق المعاناة..ووطنك الجريح يكفكف حولك نزيفه ..وطنك جراحك.. وطنك.. ثم وطنك.. يا ذا الثخين تكفكف وجعك بالرماد.. تتأسف علي أناملك، لمَ لمْ تتنيّب وتخلب بمخالبها كل مناطق الوجع، يحتويك الرهق شخيراً في جوفه لتصحو بضجر أبلغ من ضجر البارحة، أعمق من مناوشات تجيئك أخر الحلم، فما يبث فيك الرعب أجبن من ظلال آدميين، تداخلت فيما بينها قبل أن تتبرقع بألوان الخوف الفجائية.. يتكرر مجيئهم، يتدافعون منتشرين في الأنحاء، فينزوي الغبار مندهشاً، أمام ناظريك يندلق العصير، ينتشر رذاذه كحسرة يتذوّقها كل من مرّ بذاك الفضاء، حيث لا يغادر إلا وبصق اللعنة في وجه الفاعل، ولا يزال سقمك حاد.. بمقدار ترقبك ترياقاً طال انتظاره.. برفقتهم تصعد إلي العربة ، يجوبون السوق، وأنت في قبضتهم، ينتهي بك المطاف حيث ينتهون، وترمقك أعينهم بحدة، نظراتك تصبو نحوهم، مخترقة صلادة القضبان، يحدقون فيك، تنظر في غرورهم، تبدو نظرتك آثمة؛ ولو انكسرت أجفانك تستغفر لرب المسافات ما بينك والعيون الجحيم.. و تجترحك النكبة بمقاصل أكثر حدة.. تتذكر أباك الذي أغوته أدخنة الحروب وحينما ولجها ألجمته بنيرانها الدامية .. يباغتك طيف أمك الذي لم يخفت يوماً وهي تسعي لتهبك ما تبقي من ثواني الرضاعة.. من لأمك..؟ من لأخوتك المنتظرين وصولك قبل الليل، تتنهد، وبما تيسر لك، تزحف، تصل الحائط، فما بمؤانس هنا سوي جدران متبرجة تتدثر بشروخها، والوطن بجوارك فراغ؛ تتجول في باحته كلاب مسعورة..لائذة .. يتساقط من لهاثها اللعاب..كلاب تسعي بأعين مثقوبة لا تري إلا الأزميل الذي نحتها.. هنا عليك أن لا تعترض، وإلا سيستقبل جسدك مزيداً من المياه الباردة لكبح جماحك، ستُرهق خلاياك التي تبحث طارقة كل الطبول، لأجل رقصة فجائية، رجفة ينشد من خلالها الجسد خلاصه.. تنتهي من طقوسك الصباحية تستاك علي رمش مواعيدك القافزة فوق انتظارك للمواصلات، وفوق تدافع الناس.. الساعين لرغبات تجيد المراوغة، والمهادنة و..بطمأنينة تُصفّي عصائرك، مستمتعاً بخبر توقّف الكشات، زميلك يعابثك ساخراً:(عشان وقّّفوا الكشات بتغني وتضحك..آآع)..
- طيب ميتيـن أنا أغني.. وأضحك..
- غني يا زول ولا يهمك، إنشاء الله المظاهرات ما تقيف.. وتتناسل من ذاكرتك تفاصيل عدة..تستقر وتقفز من ذات الجدران الملأ بالشروخ، والحافظة لكل الأنامل التي نقشت أوجاعها هناك ..عليك أن تنهض بنفسك، ولا تسقط أمام احتشاد معاناتك، حيث تتلقفك أعين المارة بحسرة دامعة، من أساها تتجاوز حدود التقبُّل وهي تحقن دموعاً تحاول أن تتجاور مع ما تبقي من الأمل الذي يسكنك وهو يبث الحياد.. كي تطمئن أناملك وأنت تكسر الثلج، وتدور (مكشكشاً) تلك الكيزان الفارغة ، فيعلو الصخب.. حولك يتكاثف الغبار كفجيعة فاجعة، كأسهماً تخترقك وتتوغل فيك، الناس يتدافعون وكأنهم ينزعون من ذواتهم أكفاناً تلبستّهم قبل الميعاد، يهربون من الغازات الخانقة .. يتكدسون في الأزقة.. يبلغون مكانك.. تُسقيهم الماء وما تبقي من عصائرك.. يتلاشي الخوف الذي يطاردهم ، لا تمكث الهدنة إلا وتظهر جحافل أخري،و بعتاد أكبر، يتهافتون نحوكم، تزداد عيناك حمرة، يقتربون، وبكل قواك ترفع جردل العصير عالياً، وغير أبهٍ بما قد يحدث، تُفرغه في وجوههم، وتركل كل أشياءك نحوهم، تتلبسك هستريا فتصرخ.. وتصرخ.. وتصرخ.



* حراشفُ الشمس
عبد الرحيم سعد
(قصة حائزة على شهادة تقديرية - جائزة الطيب صالح للشباب في القصة 2014)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى