بورابي داسو - رضا لن تطبخ اليوم.. قصة ترجمة: محمد عيد إبراهيم

في قصة الكاتبة الأديبة، بورابي باسو، عالم المرأة تفاصيل ومنمنمات ودواخل وهموم وتقلّبات لا يعرفها الرجل، وخاصة لو كانت هذه المرأة من بلد ضعيف مثل بنجلاديش. وقد تصحو المرأة فيعنّ لها فجأة ألا تطبخ، وهو إحساس لا يعرفه الرجل الكاتب، فأنّى له أن يحسّ بهذا وهو الرجل الذي يدّعي القوة والتفوّق والعزّة والمنَعة والكبرياء إلخ. وحسناً عرفنا بعضاً من عالم المرأة، في العصر الحديث، حينما بادرت بعض منهنّ في الكتابة بجرأة كالسكّين ورهافة كالحرير وغواية كالحيّة وأُلفة كخطوط اليد وغرابة كوجود شيطان في حديقة صغار.
هنا شاعرية الموقف واللغة والرؤية وتفاصيل ما يدور حولها، كونها المرأة (بمثل هذه العوالم البدائية) تُعدّ العمود الفِقريّ الذي تقوم عليه الأسرة، كما تُعدّ في الوقت نفسه أحطّ ما في العالم هناك، نذكرها طالما ننتفع بها، وننساها ما دام قضّينا حاجتنا منها. لكنها هنا، تحتال على هذا الوجود كعدمه، فتقرّر ذات يوم أنها لن تطبخ، فهل يضيعون؟

يحوّم الصبح على حوافّ الليل. نسيم بارد يسري ناعماً في الفجر.
تضطجع رضا بالسرير، تتنفّس في شذا براعم أزهار شيفالي البرتقالية والبيضاء.
كانت الليلة الماضية هادئة، خالية من المشاجرات المألوفة مع الزوج والحماة وأخت الزوج.
درجة حرارة جسمها عادية، لم تُصبها حُمّى. لا يوجد بها مرض من أيّ نوع، ولا حتى تعبة.
لاتمطر بالخارج. سماءٌ صافية. زرقاء بديعة.
ليس الجوّ برداً ولا حرّاً. سازان، طفل رضا الوحيد، في تمام الصحّة والعافية.
لا يزال زوجها وابنها نائمين بعمقٍ جنبها.
عموماً، تقرّر رضا فجأة أنها لن تطبخ اليوم.
رضا لن تطبخ اليوم.
تنادي رضا الشمس وتقول: "لا تشرقي اليوم. سأظلّ بالفِراش مدّة طويلة".
لم تسنح لها الفرصة أن تخاطب الليل، فقد انسلّ بعيداً قبل أن تتّخذ قرارها.
تنادي رضا الطيور وتقول: "واصلي ترديد أغنيات صبحكِ المبكّر. أودّ اليوم البقاء بفِراشي، وسماعكم تغرّدون".
تنادي رضا الغيوم وتقول: "أعينوا الشمس. أخفوها بأطراف ساريكم".
تنادي أزهار شيفالي وتقول: "لا تظلّلي براعمكِ. فاليوم لم يشرق بعد".
وإلى الندى تقول: "واصل تساقطكَ بقطرات صغار على العشب من تحتكَ".
تنصت الشمس إلى رضا. فلا تظهر بالسماء طويلاً.
تفرشُ الغيوم نفسها لتغطّي السماء الزرقاء.
تواصل الطيور تغريدها دون انقطاع.
تتشبّث براعم أزهار شيفالي بقوّة أكثر في السيقان لتزيين الفروع.
تواصل قطرات الندى تساقطهافتعانق العُشب ببللها الحنون.
تتثاءب رضا وهي تمطّط نفسها في السرير.
تحدث بالمنزل في هذه الأثناء جلبة. فقد استيقظ الجميع متأخّرين اليوم.
نسي سازان جداوله الحسابية وحفظه الكلمات، وراح يحدّق في الخارج.
أوشك آيان، زوج رضا، أن يذهب للسوق.
أوشكت أخت زوج رضا أن تذهب للمدرسة.
وأكملت حماة رضا طقوسها الصباحية وتنتظر أولى وجباتها اليوم.
لكن رضا لا تزال بالفِراش.
رضا لن تطبخ اليوم.
لن تطبخ، لا، لن تطبخ.
رضا لن تطبخ اليوم.
"ماذا حصل؟ ماذا جرى؟"
"هل سيجوع الجميع اليوم؟"
"لا أفهم ما الحكاية".
دُهش الجميع: الحماة، أخت الزوج، والزوج.
ورضا لا تبالي.
تغادر سريرها ببطء.
تلتقط جرّة الماء من ركنها وتتحرّك خليّة البال نحو البِركة.
"هل سيذهب ابني إلى شُغله اليوم جوعان؟"
ولا تردّ رضا.
تتبرم حماتها. "أسألكِ، من أين تعلّمتِ هذا التعالي والجبروت؟ ما الحكاية؟"
ولا تردّ رضا. زوجها محتار.
أخت الزوج: "أوشكتُ أن أذهب للمدرسة".
ولا تردّ رضا. أخت زوجها حزينة ومندهشة.
تجلس رضا بهدوء جنب البِركة وتغمر قدميها في الماء. خلفها جلَبة. بنواحها العالي، تجمع الحماة الخلق حولها. ولا تبالي رضا. تجلس وهي تحدّق في الماء.
يأتي السمك الصغير (بوتي، بوجوري، خولسا، كاجالي) قطعاناً فيتجمّع عند قدمَي رضا.
"رُح بعيداً، اتركني. لم أجلب لكَ اليومَ طعاماً".
لكن السمك يواصل الدوران في تقلّب مرح. فحضور رضا يكفيه. ولا يريد عداه.
ترفع رضا ناظريها نحو السماء. فتضحك لها الشمس.
تسألها الشمس: "مغتاظة؟"
"لمَ لمْ تنتظري أطول قليلاً؟"، سألت رضا، وهي مجروحة وغاضبة.
"لو نظرتِ إلى الحقول، لأدركتِ ماذا قد يحصل لو تأخّرتُ أطول قليلاً؟"
تحدّق رضا، حيث تجلس جنب البِركة، في الحقول الذابلة. رضا قلقة. "هل ستعيش؟"
"لو ابتسمتِ، ستُردّ جميعاً للحياة".
تقف رضا. تدور حولها، توالي الضحك. وتمدّ ذراعيها.
تضحك رضا. تضحك. وتضحك.
تبدو عيدان الحبوب فجأة كمن يستيقظ من سُباته. تهزّ نفسها قليلاً ثم تقف متطاولة.
تجد رضا زوجها فجأة يهزّها من كتفيها.
تحدجُها حماتها في سُخط وهي مهتاجة وتسبّها بمرارة.
تقف أخت زوجها باكيةً في قنوط.
لكن رضا تضحك. تضحك. لا تزالُ رضا تضحك.
تخشخش الريح عبر ورق الشجر في تناغم مع رضا.
تترقرق مياه البِركة مستمتعة بالضحك.
ترنّم الطيور بصوت رخيم في انسجام.
تتراقص الأسماك وهي تطفو وتغطس.
تومئ الأزهار في نعومة بأرؤسها في تآلف مع ورق الشجر.
تضحك رضا. تضحك. وتضحك.
يحطّم زوجها الغاضب آنية الرزّ الفارغة ويغادر إلى السوق جوعان.
تواصل حماتها العويل والسباب بأعلى صوتها.
تخطف أخت زوجها خطوات رقيقة إلى منزل الجارة.
يأتي سازان ابن رضا في بطء إلى البِركة ويقف جنبها.
لكن رضا لن تطبخ.
لن تطبخ، لن، لن تطبخ.
رضا لن تطبخ اليوم.
رضا تدير رأسها طفيفاً.
تلوّح وهلة. ثم، تُصلّب نفسها.
تجلس رضا على الأرض. ثم تنهض فوراً. تعي أنها ليست مريضة. تدرك لوهلة أن أكثر الأشياء اعتيادية في الحياة قد تُمرض المرء. وهي لذلك لا تخاف.
"ماما، جوعان".
تتكرّر الصرخة، كأنها من بعيد. "ماما، جوعان".
يضطرب قلب رضا. بحر رخيٌّ تعذّبه فجأة عاصفة. فتضمّ إليها ابنها، وتواصل التحديق في الماء.
ثم ترفع بصرها إلى السماء. وأعلى إلى الشمس.
ترفع بصرها إلى الأشجار، إلى الطيور، إلى الأزهار، إلى ورق الشجر.
تنظر رضا بشغف إلى كلّ ما حولها.
يهلّ غراب صغير من غير مكان محدّد، وينقر ثمرة باباي ناضجة، يطرحها في حِجر رضا. ترفعها رضا بيديها، تقشّرها وتُطعم ابنها. لكن، لم يخفّ جوع سازان.
تنادي رضا طير الرفراف وتقول: "هاتِ لي قرنة اللوتس من عنقود اللوتس وسط البِركة".
الثمرة ضخمة ـ تكفي لإشباع أيّ جوع. لكن ابن رضا لا يأكل منها إلا نتفاً.
"ماما، جوعان. ألن تطبخي؟"
سازان أربع سنوات. يحسّ بالجوع الشديد. فأنّى لثمرة صغيرة أن تشبع جوعه؟"
"ماما، ألن تطبخي؟"
يودّ قلبها أن ينفجر. توشك أن تخضع.
لكن رضا لا تزال، تحاول أن تقول: "لا".
رضا لن تطبخ.
لن تطبخ، لا، لن تطبخ.
رضا لن تطبخ اليوم.
تحضن رضا سازان إلى صدرها، وتسير صوب البستان. تجلس مربّعة الساقين على العُشب، وتضع سازان في حِجرها. تتطلّع حولها في حذرٍ. لا أحد قريب في أيّ مكان. يتحرّك بالنسيم تفّاح الصنوبر وشجر الكاكاي في نعومة مما يخلق مظلّة ناعمة على رضا. تكشف ثدييها رويداً. ثدياها المدوّران الراسخان يتوهّجان في نور الشمس، تحت السماء المفتوحة. ترفع رضا ثديها الأيسر وتدفع الحلمة في فم ابنها. وبيدها اليمنى تلاطف رأس سازان، شَعره، جبهته، عينيه. للحظات، يرتبك سازان من هذا الحدث الطارئ الغريب. ثم يروح ببطء، ببطء شديد، يمتصّ برعم حلمة ثدي أمه. راح في البداية يمتصّ بنعومة، ثم بدأ المصّ عنيفاً، حتى حاول في النهاية أن يمتصّ بكلّ ما أوتي من قوّةٍ هذا الرحيقَ من جسم أمه.
رضا مستغرقة. رضا متشوّقة. لكن لم يحدث شيء. فماذا تفعل؟ فردَت رضا عمودها الفِقريّ، مدّت ساقَيها أمامها، جلست براحة أكبر. تحدّق في كلّ ما حولها. تكزّ على أسنانها، تعضّ شفتيها. تطلب شيئاً، تضرع لنيلِ شيءٍ. وساعتَها حدث. توالى كشلاّل، فائضاً من الجانبين كأنه نهر زاد عن ضفتَيه، مسبّباً رِعدة عنيفة شملَت جسمها، ثم انفجر شيء أماماً من ثديَي رضا.
تتطلّع رضا إلى وجه ابنها.
يطفح سازان بالضحك.
من جانبَي فمه النَشِط يُرغي الحليبُ الأبيض بقطراتٍ صغارعلى الأرض.
فتضحك رضا.
يضحك سازان.
تهلّ الغيمة فتغطّي وجه الشمس.
يرتاح طير الشليك على ساقٍ واحدة. يدوّم نسيم بارد بنعومة. فتضحك رضا.
يضحك سازان.
قرّرت رضا أنها لن تطبخ اليوم.
لن تطبخ، لا، لن تطبخ.
رضا لن تطبخ اليوم.



بوابة الحضارات | قصة للكاتب البنجلاديشى "بورابي داسو".. رضا لن تطبخ اليوم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى