حمدى الجزار - بار الحظ العاثر.. قصة قصيرة

قبل ست سنوات كان الكاتب"العابر" قاعدًا على كرسي مفرد مرتفع إلى جوار النافذة في حافلة صفراء صغيرة، يقوم برحلة بين مدينتيْن في الغرب الأوسط الأمريكي، كانت الحافلة تطوي الإسفلت تحتها ببطء، والطريق طويل، يبدو للكاتب أن لا نهاية له. على جانبي الطريق حقول ذرة صفراء شاسعة، لا ترتفع فيها شجرة، أو نبتة عالية، ولا يبرز على الطريق مَعلّم واحد، مطعم أو محطة وقود أو مقهى، والكاتب يلصق وجهه بزجاج النافذة ويحدق تارة في السماء الزرقاء الصافية، الخالية من الطيور، وتارة أخرى تستسلم عيناه لصفرة الحقول المنبسطة، بلا أشجار، وبلا حيوانات، بلا بيوت أو بشر.
أخيرًا بعد زمن بدا للكاتب طويلا جدًا، مترًا بعد آخر، بدأ يظهر على البُعد مَعلّم ما، اقتربتْ الحافلة من مبنى أحمر كبير، أنيق المعمار، ينتصب وحيدًا في خلاء الصُفرَة، ابتهج الكاتب وتابعتْ عيناه المبنى الفريد، وتوقفتْ طويلاً عند يافطة البار المنيرة في هذا الغروب. أعلي البار كانت اليافطة كبيرة وجميلة الخط، وتُضِيء بألوان متعددة باسم البار: Hard luck Bar
الكاتب "العابر" أعجبه الاسم، وظل يتفكر فيه لشهور، حتى ظن أن بقدرته أن يكتب أولى قصصه عن أمريكا، قصة قصيرة بعنوان Hard luck Bar. الكاتب لم يفلح سوى في كتابة عنوان القصة، وسطور قليلة منها على ورقة بيضاء. خلال أيام وشهور أخرى لم يكتب سطرًا آخر، غضب بعض الوقت، حاول مرة أخرى، استسلم حتى يَئِس من كتابتها، فتركها وانشغل بأمور أخرى، ونسى أمرها تمامًا.
بعد ست سنوات، في الشمال الغربي، في مدينة أمريكية أخرى، كان"العابر" يسير وحيدًا في شارع جميل، تحفه بيوت صغيرة من الخشب، لها سقوف من القرميد الأحمر، تسلقتْ واجهاتها أشجار ملونة الأوراق، وذات زهور حمراء وبيضاء وصفراء. على يمين ويسار الكاتب أحواض زهور أمام البيوت وفي جزيرة الشارع الصغيرة، الزهور أشكال وألوان، وتحت عينيه، في كل مكان، جمال أخاذ. كانت المدينة الصغيرة كلها ربيعًا في غير وقته، رغم اقتراب الشتاء الجليدي، الطقس كل يوم استثنائي وفريد، الشمس تستطع بالنهار، والقمر بدرًا بالليل، والمطر الرحيم يسقط عند الغروب، وفي الصباح الباكر.
كان الكاتب يركض حرًا وسعيدًا تحت شمسيته بهيجة الألوان، والمطر الغزير يسقط فوقه، فيُطْربُ أذنيه بوشيش رائق كأنه موسيقى. الكاتب خرج في هذا الجو الماطر، فقط، ليجرب متعة السير تحت المطر في الغروب. كان مبتهجًا، ورشيقًا يقفز في الشارع الخالي من البشر، يشاهد السماء بطيورها وبشمسها الغاربة، ترسل الماء بسخاء وبلطف على الأشجار والزهور، والبيوت مبتكرة الواجهات، الطافحة بفنون الرسم، وتنسيق الزهور، وفروع الأشجار السارحة على الجدران، والأبواب. بعد نحو ساعة من السعادة تحت المطر كانت ملابس العابر قد ابتلتْ تمامًا، وصار قماش الشمسية ينضح بالماء على رأسه.
لأقرب بار دخل العابر، دفع الباب المعدني الكبير بهدوء، ودخل مبتسمًا.
العابر لدهشته الكبرى وجد منافض في بعض الأركان وعلى بنك البار، وسجائر مشتعلة ببعض الأيدي، ورأى رجالاً ونساء يجلسون إلى طاولات عتيقة، يشربون، ويدردشون، ويضحكون. بارات التدخين نادرة بالمدينة.
جلس العابر سعيدًا بزجاجة البيرة المحلية، وبالسيجارة التي أشعلها.
كان على شاشة كبيرة برنامج من برامج تليفزيون"الواقع"، يعرض حكاية عن واحدة:"إنها رجل حقيقيShe is really a man!!""
المرأة السوداء الشابة السكيرة، التي عرفها الكاتب من مجرد النظر لعينيها، كانت تشاهد البرنامج، وتضاحك العجوز الأبيض إلى جوارها.
العجوز قال: برنامج سخيف جدًا، عمره خمسة وعشرون عامًا.
قال العابر متدخلاً: لا بد إنه يربح كثيرًا، وله جمهور واسع؟!
قال العجوز: نعم ، وصمت.
في البار شاشتان كبيرتان تبثان قناتين مختلفتين، على الشاشة الأخرى مباراة بيسبول يتابعها بعض الرواد ضاجين بالحماس وبالترقب، وهناك، أقصى البار آلة كروكيت لا يلعب عندها أحد، وآلة موسيقى عتيقة، عندها تقف فتاتان من فتيات الحيّ، في العشرينات تقريبًا، تدفعن النقود، وتطلقن في فضاء البار، موسيقاهما المحببة كما تشاءان. الفتاتان مرحتان، وتتراقصان بلطف، واحدة رشيقة وشقراء، والأخرى بنية، وعظيمة العجيزة، ومجعدة الشعر.
عن يمين الكاتب ابتسم له "بن"، وقال بوجه طيب أحمر، وأسود:
- " كل يوم أصحو من النوم، أنظر إلى السماء، وأقول "شكرًا شكرًا"، كل يوم أفعل هذا".
للسماء في هذه المدينة بيوت كثيرة.
وهناك في ركن كانت جماعة من العجائز يتضاحكون كصبية، ويشربون من كؤوسهم على مهل، وفي وقار.
الحقيقة لم يحدث شيء غير عادي على الإطلاق، بعض أهل الحي يقضون أمسيتهم بالبار، لا جديد، أحيانًا يشتد النقاش بين اثنين فيتعاركان، يتشاجران ثم يعودان للهدوء ويقرع أحدهما كأس الآخر مبتسمًا، أحيانًا يفترق صديقان قديمان بلا وداع، أحيانًا يقبل رجل امرأة قبلة أطول من المعتاد، أحيانًا يهذي أحدهم بكلام غير مفهوم، وأحيانًا.....
مثل أي بار في مدينة على ظهر الكوكب لم يحدث شيء مذهل، سوى أن البارمان أصر على أن يعزم العابر على زجاجة بيرة أخرى على حسابه، لم يحدث شيء مذهل سوى أن الكاتب"العابر" حين خرج من البار ألقى نظرة على اسم البار، وابتسم لنفسه.
كان البار يحمل اسم Hard luck Bar .


* عن:
بوابة الحضارات | قصة قصيرة.. بار الحظ العاثر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى