رجاء النقاش - طه حسين‏.. يبايع العقاد أميرا للشعراء

جاء احتفال المجلس الأعلي للثقافة بالعقاد هذا العام متميزا‏,‏ لأنه اهتم لأول مرة ـ فيما أظن ـ بشعر العقاد‏.‏ وقد جرت العادة في الاحتفال بالعقاد أو في الحديث عنه إلي اعتبار الشعر بصورة عامة أمرا ثانويا بالنسبة لشخصية العقاد العظيمة في مجالات أخري مثل النقد والتاريخ والإسلاميات وتحليل النفوس‏.‏ ولكن لاشك أن الاهتمام بشعر العقاد سوف يكشف الكثير من الصفحات التي لا أقول إنها مجهولة‏,‏ بل أقول إنها منسية في تاريخنا الأدبي‏,‏ برغم أنها صفحات مهمة ومثيرة ولافتة للنظر‏,‏ ومن المفيد لحياتنا الأدبية أن تعود إلي هذه الصفحات‏,‏ وأن تتأمل مافيها من خير وشر‏,‏ وأن تنتفع بالايجابيات وتستبعد السلبيات‏,‏ بالاضافة إلي مافي هذه الصفحات المنسية من متعة غير محدودة‏.‏ علي أن شعر العقاد ليس عليه اتفاق‏,‏ فهناك من ينزلون به إلي الحضيض‏,‏ وهناك من يصعدون به إلي السماء‏.‏ ومع هؤلاء‏,‏ وهؤلاء قليلون‏,‏ هم الذين وقفوا موقفا متوازنا بين السلبيات والإيجابيات‏.‏ وسوف أحاول اليوم وفي الأسابيع القادمة ـ إن شاء الله ـ أن أتوقف أمام بعض الجوانب في شعر العقاد ومايتصل بها من صفحات منسية‏.‏

أصدر العقاد أول ديوان سنة‏1916,‏ وكان هذا الديوان يحمل اسم يقظة الصباح‏,‏ وواصل بعد ذلك إصدار دواوينه المختلفة حتي قبل وفاته في شهر مارس‏1964‏ بسنوات قليلة‏,‏ وقد بلغ انتاجه الشعري عشرة دواوين هي ـ بعد ديوانه الأول‏:‏ وهج الظهيرة ـ أشباح الأصيل ـ أشجان الليل ـ وحي الأربعين ـ هدية الكروان ـ أعاصير مغرب ـ عابر سبيل ـ بعد الأعاصير ـ بعد البعد‏.‏

وقد أثار العقاد في الأدب العربي المعاصر عاصفة عنيفة حول شعره‏,‏ كما أثار عواصف كثيرة أخري في مختلف ميادين الفكر والأدب والسياسة‏.‏ ومنذ البداية كان هناك اختلاف واضح حول شعر العقاد‏,‏ فكان بعض النقاد يرون في شعر العقاد نموذجا أعلي للشعر الحقيقي الأصيل‏,‏ والذي ينبغي أن يكون مثلا أعلي للشعراء العرب‏,‏ وكان هناك نقاد آخرون يرفضون شعر العقاد رفضا كاملا‏,‏ بل وكانوا يسخرون من هذا الشعر ولايرون فيه سوي أنه شعر يثير الضحك والابتسام‏,‏ وكان هناك آخرون معتدلون سجلوا السلبيات ولم يهملوا الإيجابيات‏.‏ والذين وقفوا إلي جانب شعر العقاد وصفقوا له وعبروا عن إعجاب واسع به هم في أغلبهم من أصدقاء العقاد وتلاميذه‏,‏ وهم كثيرون‏,‏ ونتوقف مع نموذج واحد‏,‏ علي سبيل المثال‏,‏ من بين المؤيدين والمعجبين بشعر العقاد وهو الدكتور زكي نجيب محمود في مقال له عن العقاد الشاعر حيث يقول‏:‏ إن شعر العقاد أقرب شيء إلي فن العمارة والنحت‏,‏ فالقصيدة الكبري من قصائده أقرب إلي هرم الجيزة أو معبد الكرنك أو مسجد السلطان حسن منها إلي الزهرة والعصفور وجدول الماء‏.‏ القصيدة الكبري من قصائده أقرب إلي تمثال رمسيس منها إلي الإناء الخزفي الرقيق أو إلي غلالة شفافة من الحرير‏.‏ ولو عرفت أن مصر قد تميزت في عالم الفن طوال عصور التاريخ بالنحت والعمارة‏,‏ عرفت أن في شعر العقاد الصلب المتين جانبا يتصل بجذور الفن الأصيل في هذا البلد‏.‏

هذا هو التفسير الخاص لشاعرية العقاد كما يراه الدكتور زكي نجيب محمود في الفصل الأول من كتابه مع الشعراء‏.‏ وهذا الاعجاب بشعر العقاد والحماس له يعتبر عنصرا مشتركا بين معظم أصدقاء العقاد وتلاميذه وفي مقدمتهم بالطبع أحد أبرز هؤلاء الأصدقاء والتلاميذ وهو زكي نجيب محمود‏.‏

ويمكننا بعد ذلك أن نضيف إلي هذا الاتجاه في الايمان بشاعرية العقاد والحماس له بعض ماقاله كتاب كبار من جيل العقاد نفسه‏.‏ والنموذج الذي نتوقف أمامه هنا هو نموذج الدكتور طه حسين‏,‏ الذي وقف في مسرح الأزبكية بالقاهرة في مساء الجمعة‏27‏ أبريل سنة‏1934‏ ليلقي خطابا في حفلة تكريم أقيمت للعقاد فقال‏:‏ كنا أيها السادة نشفق علي الشعر العربي‏,‏ وكنا نخاف عليه أن يرتحل سلطانه عن مصر‏,‏ وكنا نتحدث حين مات الشاعران العظيمان شوقي وحافظ‏..‏ كنا نتحدث عن راية الشعر العربي أين تكون ومن يرفعها للشعراء يستظلون بها‏.‏ كنا نسأل هذا السؤال‏.‏ وكنت أنا أسأل هذا السؤال‏.‏ لماذا؟ لأني كنت أري شعر العقاد علي علو مكانته وجلال خطره شعرا خاصا مقصورا علي المثقفين والمترفين في الأدب‏.‏ وكنت أسأل هل آن للشعر الجديد الذي يصور مجد العرب وأمل المصريين أن ينشط ويقوي‏.‏ انتظرت فلم أجد للمقلدين حركة أو نشاطا‏,‏ فإذا المدرسة القديمة قد ماتت بموت حافظ وشوقي‏,‏ وإذا بالمدرسة الجديدة قد أخذت تؤدي حقها و تنهض بواجبها‏,‏ فترضي المصريين والعرب جميعا‏,‏ وإذا الشعر الجديد يفرض نفسه علي العرب فرضا‏,‏ وإذا الشعور المصري والقلب المصري والعواطف المصرية لاترضي أن تصور كما كان يصورها حافظ وشوقي‏,‏ وإنما تريد وتأبي إلا أن تصور تصويرا جديدا‏,‏ هذا التصوير الذي حمل الملايين علي إكبار العقاد كما قال أحد الخطباء‏.‏ إذن لابأس علي الشعر العربي والأدب العربي‏,‏ وعلي مكانة مصر في الشعر والأدب‏.‏

ثم يقول طه حسين بعد ذلك‏:‏ ضعوا لواء الشعر في يد العقاد‏,‏ وقولوا للأدباء والشعراء‏:‏ أسرعوا واستظلوا بهذا اللواء فقد رفعه لكم صاحبه‏.‏

وصاحب اللواء المقصود في كلام طه حسين هو‏:‏ العقاد الذي جعله طه حسين في هذا الخطاب أميرا للشعراء‏.‏ وعندما نفكر في رأي طه حسين بتنصيب العقاد أميرا للشعراء نجد أنه رأي شخصي لايستند إلي أسباب موضوعية من الأدب والنقد‏,‏ حيث لم يقدم طه حسين في كلمته شيئا من هذه الأسباب الموضوعية التي دفعته إلي مبايعة العقاد بالإمارة الشعرية‏.‏ وقد أعلن طه حسين هذا الرأي في حفلة تكريم العقاد‏,‏ ولم يعلنه في الجامعة أو في دراسة أدبية نقدية فيها وضوح وتفصيل‏.‏ ومن ناحية أخري فإن تاريخ هذا الخطاب الذي ألقاه طه حسين هو سنة‏1934‏ كما سبقت الاشارة‏.‏و في هذا التاريخ كان طه حسين قد انضم إلي حزب الوفد‏,‏ وبدأ بعقد صلات قوية مع زعماء هذا الحزب الذي كان طه قبل ذلك من أشد أعدائه ومعارضيه‏.‏ وكان العقاد في ذلك هو كاتب الوفد الأول‏,‏ وكانت الحفلة التي أقيمت له تحت اشراف رئيس الوفد في ذلك الوقت وهو الزعيم الوطني مصطفي النحاس‏,‏ ولا شك وبالاضافة إلي ذلك كله أن طه حسين كان واقعا تحت تأثر عميق بالامتنان للعقاد‏,‏ لأن العقاد عندما كان عضوا في برلمان سنة‏1930‏ قد دافع عن طه حسين الذي تعرض لحملة عنيفة في ذلك البرلمان‏,‏ بسبب بعض آرائه ومواقفه المختلفة‏.‏ ولم ينس طه حسين للعقاد هذا الموقف‏,‏ وذكر مرارا مايحمله من تقدير له‏.‏

من هنا يبدو موقف طه حسين من خلع إمارة الشعر علي العقاد أقرب إلي الموقف السياسي والشخصي منه إلي الموقف الأدبي المبني علي أساس من النقد الخالص والدراسة الموضوعية‏.‏

علي أن فكرة إمارة الشعر في حد ذاتها تبدو فكرة غير قابلة للحياة‏,‏ وقد تقبلها الناس في حياة شوقي‏,‏ وقد كان شوقي شاعرا استثنائيا تفوق علي كل شعراء عصره وارتفع بشعره إلي أعلي مستويات الشعر العربي‏,‏ حيث كان الباحثون والنقاد يضعونه في صف المتنبي والمعري وأبي تمام والبحتري وغيرهم من عظماء الشعراء العرب‏.‏ وبعد رحيل شوقي لم يجد أحد مايبرر اختيار خليفة شعري له‏,‏ فالساحة الأدبية بعد رحيله لم تقدم شاعرا في حجمه وقامته‏,‏ كما أن العقل الأدبي العام لم يعد يقبل فكرة إمارة الشعر بسهولة‏.‏ فقد سادت بين الأدباء دعوة إلي التنوع والتجديد في الاتجاهات الشعرية وعدم تجميد الشعراء في قوالب ثابتة أو سد الطريق أمام هؤلاء الشعراء باختيار أمير لهم يرتفع فوقهم جميعا ويسمو عليهم‏,‏ ولاتستطيع موهبة أخري أن تنافسه أو تتخطاه‏.‏ ولو صح أن طه حسين كان يعني مايقول عندما خلع إمارة الشعر علي العقاد‏,‏ فهل كان كل مايستحقه منه هذا الأمير هو الخطاب السريع الذي ألقاه في حفلة تكريم عامة؟

إن طه حسين لم يعد إلي شعر العقاد في أي مقال له أو في أي كتاب من كتبه النقدية الكثيرة‏.‏ والاشارة الوحيدة التي نجدها في كتب طه حسين إلي شعر العقاد هي اشارة تتسم بالطابع الشخصي والعاطفي أيضا‏,‏ وهي الاشارة الواردة في إهداء طه حسين لروايته المعروفة دعاء الكروان إلي العقاد‏,‏ وفي هذا الإهداء تحية إلي ديوان العقاد هدية الكروان حيث يقول طه حسين في اهدائه‏:‏ إلي صديقي الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد ـ سيدي الأستاذ ـ أنت أقمت للكروان ديوانا فخما في الشعر العربي الحديث‏,‏ فهل تأذن في أن اتخذ له عشا متواضعا في النثر العربي الحديث‏,‏ وأن أهدي إليك هذه القصة تحية خالصة من صديق مخلص‏.‏

وهذا كله يوحي لنا بأن رأي طه حسين في شعر العقاد ليس رأيا قائما علي أساس صحيح من النقد الأدبي الذي كان طه حسين سيدا في مجاله‏,‏ فهو رأي له دوافعه السياسية والشخصية‏,‏ ولاشك أنها دوافع محترمة ولها قيمتها‏,‏ ولكنها دوافع لايمكن وضعها في الاعتبار عندما يكون الحديث خالصا لوجه الأدب وحده‏.‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى