ألف ليلة و ليلة بوعلي ياسين - الحياة التجارية والاقتصادية في ألف ليلة وليلة

غالباً ما يكون أبطال شهرزاد إما من الملوك وأبناء الملوك أو التجار، وتلقي حكايات ألف ليلة وليلة بعض الأضواء على الحياة التجارية في ذلك المجتمع. إذ ذاك تثير الانتباه سيادة الثقة في التعامل التجاري، الأمر الذي يتفق مع ازدهار التجارة الذي تشير إليه الحكايات.

على سبيل المثال، في إحدى القصص المتضمنة في حكاية الخياط والأحدب يحفظ التاجر ثمن بضاعته عند السمسار أشهراً عدة من دون ان تكون له به معرفة سابقة ومن دون أية مواثيق. وفي قصة أخرى يستأجر أحد تجار الموصل قاعة في دمشق، ثم يغادر إلى مصر، لكنه يبقى مستأجراً للقاعة مدة ثلاث سنوات وفي كل سنة يرسل أجرتها، ويعود بعد هذه المدة الطويلة، فيرى القاعة كما كانت لم يدخلها أحد.

وفي سفرتين، الأولى والثانية، يتخلف السندباد عن مركبه البحري، ثم يصادف المركب ذاته بعدئذ فيجد بضاعته محفوظة باسمه وصاحب المركب يحاول بيعها لحسابه من أجل أن يؤدي الثمن له أو لأهله عند عودة المركب إلى الوطن. وعندما يزعم السندباد أنه صاحب البضاعة، لا يستعيدها إلا بعد أن يبرهن بصورة قاطعة على أنه السندباد البحري حقاً. وأبو محمد الكسلان يديـــن بثروته الطائلة لهذه الأمانة والثقة في العلاقة بين التجار.

إلا أنه لو حدث أن انحرف أحدهم عن أصول التجارة، فإن التجار الآخرين يعيدونه إلى جادة الصواب، ولو كان غريمه عدواً، كما حدث لنورالدين الذي باع جاريته الحبيبة إلى افرنجي ثم ندم عن ذلك وأوراد التراجع. "فقال له الافرنجي: قد بعتني جاريتك وهؤلاء التجار يشهدون عليك بالبيع. فقال التجار كلهم: نعم، يا نورالدين، أنت بعته جاريتك قدامنا، ونحن نشهد عليك أنك بعته إياها بعشرة آلاف دينار، قم اقبض الثمن وسلم إليه الجارية، والله يعوضك خيراً منها".

وألحت عجوز في أن تشتري البغلة من بدر باسم، وهو يريد. "فقال: لا أبيعها إلا بألف دينار. وقال بدر باسم في نفسه: من أين لهذه العجوز تحصيل ألف دينار. فعند ذلك أخرجت من حزامها ألف دينار. فلما نظر الملك بدر باسم إلى ذلك قال لها: يا أمي، إنما أنا أمزح. فنظر إليه الشيخ وقال له: يا ولدي، ان هذه البلد ما يكذب فيها أحد، وكل من كذب في هذه البلد قتلوه". فكلمة التاجر واحدة، ولا مجال للتنصل منها أو للمزاح، هي عقد بيع غير مكتوب، لها مفعول العقد المكتوب عند وجود الشهود، ان لم يكن ثمة عقد مكتوب.

غير أن المتبع عادة أن لا تُعقد الصفقات التجارية شفاهياً، بل كتابياً. فعندما رست المزاودة في مريم الزنارية على نورالدين بألف دينار، أحضر الدلال القضاة والشهود وكتبوا عقد البيع والشراء في وقته، وناولها الدلال لنورالدين وقال له: تسلّم جاريتك، الله يجعلها مباركة عليك. عند ذلك قام نورالدين من وقته وساعته ووزن الألف دينار وأخذ الجارية وأتى بها إلى البيت.

الثقة أساس التعامل

وتتجلى الثقة التجارية أيضاً في اقراض التجار لبعضهم. ففي حكاية علاء الدين أبي الشامات يقول أحد أولاد التجار: "لما كبرت وبلغت مبلغ الرجال قلت لأبي: يا والدي، احضر لي متجراً. فقال: يا ولدي، ما عندي شيء، ولكن رح. خذ لك مالاً من واحد تاجر واتجر به وتعلم البيع والشراء والأخذ والعطاء. فاتجهت إلى واحد من التجار واقترضت منه ألف دينار، فاشتريت به قماشاً وسافرت به إلى الشام، فربحت المثل مثلين". شبيه بذلك حدث لأحد التجار في حكاية معروف الاسكافي، فكان الرأسمال المقترض سبباً في ثرائه. أما إذا خسرت تجارة المستدين، ولم يستطع لسبب من الأسباب تسديد ديونه، فيعتبر عندئذ مفلساً ويقوم القاضي ببيع ممتلكاته والدفع للدائنين. فإذا لم تكن له ممتلكات، يكون مصيره السجن.

هذا تماماً، كما يجري حالياً في المجتمع الطبقي الحديث. تسري هذه الاجراءات على التجار، كما تسري على الكسبة والحرفيين. ففي حكاية علي الزيبق تلفق دليلة المحتالة قصة عن صباغ مديون، أعلن افلاسه، وأتلف موجودات دكانه ليثبت اعساره عندما يأتي الكشف من طرف القاضي، فلا يؤدي للدائنين حقوقهم. ويقص علينا سقاء أنه اقترض خمسمئة دينار وطلع الحجاز في تجارة، فضاع منه جميع ذلك في الحج، فلم يرجع إلى مصر لئلا يحبسه الناس على أموالهم.

الفائدة

هل كان التجار يتقاضون من الدائنين فائدة على قروضهم؟ لا تذكر الحكايات شيئاً عن الإقراض بالفائدة، على الأرجح لأنه يعتبر "ربى"، والربى محرم في الإسلام. غير أن هناك إشارة غير مقصودة إلى وجود الفائدة في مجتمع شهرزاد، وذلك في هذا البيت من الشعر:
واحفظ درهمي عن كل شخص = لئيم الطبع لا يصفو لأنسي
أحب إليّ من دولي لندل = آنلني درهماً لغد بخمس

إن الحياة التجارية منظمة في مجتمع شهرزاد بما يكفل حسن سيرها، من أوجه ذلك تنظيم الأسواق. في حكاية مدينة النحاس نجد وصفاً لسوق المدينة: سوق عظـيم عالي الأبنية، لا يخـرج بعضها عن بعض. الموازين معلقة في الدكاكين، والنحاس مصفوف، والخانات ملآنة من جميع البضائع. أربعة أسواق مسـتقلات، دكاكيـنها مملوءة بالمال، سوق الخز. وفيه من الحرير والديباج ما هو منسوج بالذهب الأحمر والفضة البيضاء على اختلاف الألوان. سوق الجواهر واللؤلؤ واليـاقوت. سـوق الصيارف، وتحتهم أنواع الحرير والابرسيم ودكاكينهم مملوة من الذهب والفضة. سوق العطارين ودكاكينهم مملوءة بأنواع العطريات ونوافح المسك والعنبر والعود والند والكافور وغير ذلك. وتعدد لنا حكاية مريم الزنارية الأسواق التي مر بها نورالدين أثناء تجواله في مدينة الاسكندرية: سوق النجارين، سـوق الصرافين، سوق النقلية، سوق الفكهانية، سوق العطارين. ويصل عبدالله بن فاضل إلى مدينة غريبة، ويدخل سوق التـجار فيرى كل تاجر جالساً في دكانه والدكان ممتلئة بأنواع البضائع، يجد أقمشة وصناديق فيها أكياس الذهب، ثم يدخل سوق الصاغة فيرى فيها رجالاً جالسين في الدكاكين والبضائع وهي المصاغ عندهم بعضها في أيديهم وبعضها في أقفاص، ثم يدخل سوق الجواهر فيرى الجواهرية جالسين في دكاكينهم وقدام كل واحد منهم قفص ملآن بأنواع المعادن كالياقوت والألماس والزمرد والبلخش وغير ذلك من سائر الأصناف.

إلى جانب الأسواق المذكورة أعلاه نسمع بسوق النحاس في حكاية الصياد مع العفريت، وعن سوق الجلادين المختص بالجلود في حكاية مزين بغداد، وعن سوق البزازين أو سوق البز أو سوق القماش في حكايتي اردشير وتاج الملوك، وعن سوق الدواب في حكاية علاء الدين ابي الشامات، وعن سوق العلافين في حكاية أبي محمد الكسلان، وعن سوق الجواري في حكايتي أنيس الجليس وعلاء الدين ابي الشامات، وعن سوق العجم أو الاعاجم في حكاية مريم الزنارية، وسوق الحرير في إحدى قصص كيد النساء.

تنظيم الاسواق

> كل سوق من اسواق حكايات الف ليلة وليلة يختص بنوع من البضائع. وهناك شيخ لكل سوق، يسمونه ايضاً "كبير السوق" او "نقيب السوق"، وفوق الجميع "شاه بندر التجار" الذي يكون عادة من اغنى التجار واكثرهم وجاهة. تحدثنا حكاية علاء الدين ابي الشامات عن شاه بندر التجار فتقول: "وكان من عادة شاه بندر التجار انه، لما يأتي من بيته في الصباح ويقعد في دكانه، يتقدم نقيب السوق ويقرأ الفاتحة للتجار، فيقومون معه ويأتون الى شاه بندر التجار ويقرأون له الفاتحة ويصبحون عليه ثم ينصرف كل واحد منهم الى دكانه".

ويبدو ان التجار ينتخبون شاه بندر التجار، فكأنه رئيس اتحاد التجار، لكن يظهر في مكان آخر ان للملك سلطة او تأثيراً في ذلك. ففي الحكاية آنفة الذكر يرى تجار مصر تصرفاً يفسرونه على انه غير لائق من شاه بندر التجار، فيقولون لبعضهم: "نحن ما بقينا نرضى به ان يكون شيخاً علينا" واتفقوا على عزله من المشيخة.

وفي مكان آخر من الحكاية نفسها يخلع الخليفة على علاء الدين ابي الشامات ويجعله شاه بندر التجار في بغداد ويقعده في الديوان. وعندما يراه الشهبندر السابق جالساً في رتبته وعليه خلعة، يسأل عن السبب، فيجيبه الخليفة: "اني جعلته شاه بندر التجار، والمناصب تقليد لا تخليد، وانت معزول"، ثم امر من ينادي في الديوان: "ما شاه بندر التجار الا علاء الدين ابي الشامات، وهو مسموع الكلمة محفوظ الحرمة يجب له الاكرام والاحترام ورفع المقام". اذن، وضع شاه بندر التجار غير واضح في الحكايات، مرة يكون منصباً شعبياً ومرة اخرى يكون منصباً حكومياً. قد يكون - كمحاولة من قبلنا لحل هذا التعارض - منصباً شعبياً خاضعاً لموافقة الدولة او تملك فيه الدولة حق النقض الفيتو.

يلاحظ ايضاً ان للسوق حارساً، وان بعض الاسواق لها باب يقفل عندما لا يكون هناك نشاط اقتصادي، بمناسبة وفاة احد التجار مثلاً، كما في حكاية غانم بن ايوب. ويرد اخيراً ذكر المحتسب، تلك الشخصية الاقتصادية الهامة في الدولة الاسلامية في القرون الوسطى، وذلك في حكاية مريم الزنارية.

المصارف والصرافون

> حكايات شهرزاد لا تعطينا امثلة على تجار مارسوا نشاطهم التجاري لفترة محدودة برأسمال غريب، اي بالقروض، وحققوا بها ارباحاً معتبرة، ومع علم التجار بأن ايداع الاموال يحقق منفعة عبر تشغيلها، فان الحكايات لا تذكر شيئاً عن الفوائد، كما اوردنا. بالتالي من المنطقي ايضاً ان لا تتحدث الحكايات عن وجود مصارف بنوك تسليفية، بل انها بالعكس تعرض علينا مظهراً من الاكتناز. نشاهد التجار في حكايتين حكاية التاجر مع العفريت وحكاية الحمال مع البنات يدفنون قسماً من اموالهم، عندما يهمون بالقيام بتجارة بعيدة. لكن الملاحظ ان المال المدفون ذهبي، اي من مادة ذاتية القيمة قابلة للدفن. ويفسر خبراء هذه الظاهرة المعروفة تاريخياً بالقول: "ادت المصادرات الى بروز ظاهرة جديدة حدت من النشاط التجاري في اسواق بغداد، اذ لجأ اصحاب الثروات الى الحيلة ليخفوا ثرواتهم عن عيون الطامعين، فنشأت عادة دفن النقود تحت الارض".

ويذكر ضومط ان كبار امراء مصر في مطلع القرن الخامس عشر كانوا يجمدون عائدات مصانعهم "اما بدفنها في الارض او عند اقاربهم، خوفاً من مصادرة السلاطين لها".

ولا ترينا الحكايات في مدينة شهرزاد مصارف تقترض النقود وبالفائدة لكن تاريخياً كان هناك صيارفة ومصارف فذكر بهذا الصدد: "بلغت حركة الصيرفة في اسواق بغداد غاية ازدهارها في الربع الاول من القرن الرابع الهجري، بازدهار التجارة، والقدرة على تسليف النقود، وتبديل العملات، وصرف الصكوك والسفاتج".

* اخذت مادة هذه الصفحة محررة ومعدلة من كتاب "خير الزاد من حكايات شهرزاد" لمؤلفه بوعلي ياسين. وهذا الكتاب الشيق من اصدار دار الحوار للنشر والتوزيع 1986.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى