شريفة شرف الدين - بَنُو حَيَوَان فِي مُحَاكَاةِ الْكِيْزَانْ (قصة قصيرة)

جلس الشمنبازي العجوز فوق غصن وريف و أخذ يجول بعينيه يمنة و يسرى و تارة نحو الأعلى ثم ينكس رأسه حاكا جلده أو ماسحا على ذقنه:
– يا لرتابة الحياة في الغابة اللعينة! بعد كل هذه السنوات الطوال و بعد أن خَبِرتُ أسرار الغابات البعيدة و القريبة رغم كل الذكاء الذي أتمتع به لا أتعدى ثلاثية التسلق، الأكل و التكاثر!! تُنكر الحيوانات مكانتي لأنها تجهل ذكائي و مدى حيلتي و لكن إن كان لها عذرها لمحدودية ذكاءها فأي عذر لي أن أشاركها ذات الاهتمامات الحيوانية و لا أتعداها إلى ما يوازي ذكائي و فطنتي .. نعم .. لها الحق ألا تعرف مقداري فأنا و جماعتي لم نبرهن لها حتى الساعة حقيقة الأمر.. لذلك لا نحظى منها بأي تقدير أو احترام. و لكني لمجرد التغيير و كسر الروتين سأُحدث أمرا تتحدث به ذوات الأظلاف .. الخف و الأجنحة و ستتناقلها الأجيال. نعم لماذا تبقى البحيرات ساكنة دون حراك؟ فلتتحرك إن لم يكن لأجل أي شيء، يكفي أن يُشار إليّ إنني محركها ..
مسح الشنمبازي ذقنه ثم ابتسم ابتسامة غامضة و أتبعها بقهقهة خفيفة و على إثرها تسلق من غصن إلى آخر في حركات بهلوانية رشيقة ثم أمسك غصنا بيديه و تدلى بظهره و صار يرى الأرض بشكل مقلوب و أخذ ثانية يفكر تفكيرا عميقا:
– أملك الذكاء كما أملك مهارة التفوق و كذلك أتمتع ببعض القوة التي تمكنني التغلب فقط على بعض حيوانات و طيور الغابة و بني جنسي و لكني سأظل شمنبازيا متسلقا غالب وقته هاربا طالما أن الفيلة .. الدببة .. وحيدة القرن و الأسود ..النمور و حتى تلك الأصلة الزاحفة تتغلب عليّ في المواجهات الحتمية لأنها تملك القوة التي أفتقرها و لكن .. ياه كيف نسيت حكمة جد جدي القائلة (هيمن على عدوك مستغلا قوته بذكائك)لماذا لا أستغل قوتها القرنية في المناطحة.. الخرطومية في الإمساك.. المخلبية في التشبث و التمزيق و النابية في العض وصولا إلى مبتغاي؟ نعم إنها لفكرة ما سبقني بها أحد و لا أظن يلحقني بها أحد. و لكني أريد شيئا أكثر من مجرد القوة لتحريك و تطويع هذه الجموع كيف أشاء .. كلها تعاني .. فالضواري تلهث وراء طرائدها و الفرائس فارة منها .. و لكن ما الذي يجري في أمخاخها ساعة سكونها .. سأشغل ذلك الفراغ فيها بأن ألعب على عقولها البسيطة إذا افترضت أن لها عقولا. سأعمل على إثارة المسلمات لديها ..
****
رقد زعيم الضباع بعد يوم مجهد و صراع مرير. سمع و هو يغالبه النعاس همسا يأتيه من أعلى الشجرة التي يرقد أسفلها:
– حتى متى تظل الأسود زعيمة عليك؟ لماذا لا تُحدث انقلابا تدين لك الغابة بعدها و تصير الآمِر الناهي فيها؟ ألا ترى كيف تهرب أنت و جماعتك من الأسد و أنت صاحب الفريسة؟ أي مذلة و أي صَغَار؟ أترضى أن يرث أبناؤك هذا الخضوع و الجبن؟ خير لي أن أموت الساعة من أن أعيش خائفا مترقبا مهددا. كم مرة فتك الأسد صغارك بينما النعامات و حمر الوحش تراقب بتخفي مدعيا أنك لم تشهد شيئا؟
ضرب الذئب أذنه برجله اليسرى كأنما يطرد ناموسة ملحاحة و تعدّل في رقدته. ثم لم يلبث أن أتاه الصوت الهامس ثانية و لكن أكثر وضوحا من سابقه:
– أنتم آل ضبع أكبر عددا و أفتك فكا و أكثر جماعية .. كل الذي تحتاجه جماعتكم .. تنظيم دقيق و ستكون بقية الحيوانات إلى صفكم.. هذا أمر جلي لا ريب فيه.
نظر الضبع نحو الأعلى فلمح شبحا يتحرك بين الغصون .. أمعن النظر فبدا له الشمنبازي الضخم مبتسما ابتسامة لم يفهمها و لكن اطمأن لها الضبع ثم قال متسائلا:
– و لكن كيف و الأسود هي الملوك لعهود طويلة؟
– هي ملوك لأنكم مثلنا رضينا لها أن تكون .. نستطيع أن ننقلب عليها و تكون لكم السيادة أولا منفردة ثم لنا مشاركة معكم بعد استتباب الأمر.
– و ما حاجتنا إليكم إن دانت لنا السيادة أيها الشمنبازي الذكي؟
– آه .. ما حاجتكم إلينا إن دانت لكم السيادة؟ لن تدين لكم السيادة أبدا؟ أعطيك سنة كاملة و أتحداك إن استطعت أن تأتي بفكرة واحدة تهز شعرة من شعرات الأسود!
قلّب الضبع أذنيه الضخمتين دون الاهتداء إلى أيما فكرة انقلابية فقد كان همه لا يتعدى ثلاثية.. أركض، افترس و تكاثر ثم قال في بلاهة
– لقد كسبت أيها الشمنبازي ..في الحقيقة لا تحضرني فكرة في هذه الساعة و حتما لن تحضرني أبدا و لكن هل تعني أن لديك الفكرة؟
– ليست الفكرة فحسب بل حتى ضمان الاستمرارية و إن شئت التوالي.
قال الضبع مستسلما:
– مع أني لم أفهم بعضا مما تقول و لكن اتفقنا طالما سنكون السادة بدلا عن الأسود البغيضة عدوتنا اللدود.
قال الشمنبازي سريعا رافعا سبابته:
– أما و قد اتفقنا فلدي شرطان
– قلهما أسمع
– أما الأول فيبقى الأمر سرا بيني و بينك حتى من جماعة الضباع .. وأما الثاني فهو ألا تنفرد بأي أمر دون الرجوع إليَّ فبإمكاني تطويع المعتاص و فتل سوق الأشجار إن تطلب الأمر
قال الضبع المنبهر بفصاحة و ثقة الشمنبازي:
– أما بالنسبة للشرط الأول فكن كأنك لم تقل و لم أسمع و أما الثاني فستكون لقاءاتنا كما هي الآن سرية و قبيل النوم فالضباع تنام عميقا و لن تسمعك.
تدلى الشمنبازي حيث الضبع و قال هامسا:
– الخطة هي أني و أبناء عمومتي من قردة البابون و أنتم قطيع الضباع و الكلاب البرية سنعمل على إجفال طرائد الأسود التي تعتمد عليها و بذلك ستجوع و إذا استمرت لأسبوعين دون طعام ستصل درجة الهزال و عندها تخور قواها و تكون الهجمة من حلفاءنا جميعا عليها ثم نقوم بالقضاء على أشبالها و بذلك نضمن تشتتها و بالتالي ضعفها الأبدي .. فنتركها إن تركناها تقتات الجيف و العظام و أؤكد لك أن البطون الخاوية لا أطماع لها و سهلة القيادة ومأمونة الجانب.
****
و نجحت الخطة المرسومة كما أراد لها الشمنبازي العجوز حتى بدون مواجهة أو إراقة دماء .. بل إن الأسود التي كانت تولم طول الليل على زرافة لم تفطن بأن أمرا مدبرا قد حِيكَ ضدها و لكنها بعد أيام لم تجد تفسيرا لاختفاء طرائدها هكذا فجأة.
أصبح الصباح بانقطاع زئير الأسود ليحل محلها عواء و ضحكات الضباع. و سريعا ذاع الخبر و عمّ أرجاء الغابة بأن عهدا جديدا قد بدأ و أن الكل موعود بالرخاء و الإزدهار. و عملت الغربان على نقل الخبر ليومين متتاليين.
في آخر لقاء له بالضبع الزعيم قال الشمنبازي:
– أما وقد استتب الأمر و طُرِدت الأسود فسأختفي أنا و جماعتي لفترة ليست بالقصيرة و كل ما هو مطلوب منك بسط هيمنتك و إظهارقوتك حتى تهابك كل الحيوانات و لتكن هيبتك أضعاف ما كان من أمر الأسود فالحكمة تقول (ضيّق عليهم تتفسح ما شاء لك التفسح). و تأكد إن أنت تساهلت فالعاقبة ستكون وخيمة عليكم من الأسود.
و سريعا تمت السيطرة على الغابة و اتفق مجلس حيوانات الغابة على عقد اجتماع اسبوعي لإدارة الغابة و حيواناتها.
في أول اجتماع اقترح الخنزير توزيع المهام على مجلس الحيوانات و كانت القسمة كالتالي: الرئاسة للضباع .. الموارد المائية للتماسيح .. المراعي و السهول مناصفة بين النمور، الفهود و بنات آوى .. المستنقعات للأنوكاندا و الخنازير .. الغابات للشمنبازي و بنو عمومتها من قردة البابون و أوكلت الحراسة للسناجب. و أوكل المجلس للصقور مسؤلية الفضاء. أما القضاء فكان من نصيب الحمر الوحشية.
احتج المجتمعون على عضوية الحمير و الخنازير و الجاموس لأنها ليست من المفترسات و لكن أقنعها الضبع العجوز أنها و بأعدادها الكبيرة ستلعب دورا مهما في تثبيت دعائم السيطرة على الغابة .. ثم همس في أذن الضبع الذي بجواره" فلنقبل عضويتهم لضرورة المرحلة و لخفة عقولها و سهولة اقناعها كما إنها ستمثل مؤونة غير شاقة إذا اعتبرنا أن المرحلة القادمة تتطلب تفرغا تاما لقضية الاستيلاء على الغابة و لن نقدر على إهدار أوقاتنا وراء الطرائد. استحسن المجلس فكرة الضبع الذي قال هامسا:
– "إضافة إلى أن عملية التخلص منهم في أي وقت لا يعد عقبة كبيرة.
و التفت الضبع إلى الكلب الذي بجانبه و قال له ناهرا:
– لماذا لا تكف عن النباح؟
طأطأ الكلب رأسه و وضع ذيله بين رجليه الخلفيتين و قال:
– سيدي أنا لا أحسن غيره
– انبح فقط عندما نشير عليك بذلك
و مذ ذلك الوقت جلس الكلب لا يرفع عينيه عن الضبع منتظرا أوامره بالنباح أما لماذا ينبح فلم يكن مهما و لكن المهم هو أن يمارس النباح.
*******
في الاجتماع الثاني قررت اللجنة أن تسن دستورا يضبط حركتها و ينظم أمورها و لم يكن ذلك الدستور فضفاضا كثير التفاصيل بل من بين كل إملاءات الشمنبازي العجوز للضبع لم يتذكر منها غيربندين الطاعة و الولاء .. الطاعة لولاة الأمر و ما يصدر منها و الولاء لمملكة الحيوان و الطير و إن أدى ذلك إلى التضحية بحياتها. أما القضايا الأخرى التفصيلية التي قد تطرأ فإن الفصل فيها يكون وقتيا بما يراه ملك الغابة و مستشاروه.
في الاجتماع الثالث تقرر تخصيص مستحقات ملك الغابة و اللجنة الموقرة حتى تتفرغ لأمور الحكم. أولى تلك القرارات كانت تخصيص مساكن جديدة للملك و لجنته حول البحيرة ذات المياه العذبة المليئة بالأسماك و الملتفة بالأشجار ذات العشب و الظل الظليل. و تقرر أن منطقة البحيرة منطقة محظورة و الاقتراب منها جريمة إلا في حالات استثنائية تجيزها اللجنة. و قد رفعت حالة قصوى من الاستعداد بوضع السناجب فوق الأغصان لمراقبة المتسللين و إطلاق صيحات الإنذار إذا تم رصد دخلاء أيا كانوا.
كان بين الفترة و الثانية تذهب صغار القردة إلى جماعة الغزلان و تزف إليها خبر اختيارها دون غيرها للشرب من مياه البحيرة العذبة على أن تدخل منفردة من جهات متفرقة. لم يحدث أن رجعت أي من تلك الغزالات إلى قطيعها بدعوى أن الملك قد قرر بقاءها في محمية البحيرة و لكن الحقيقة أنها كانت تقدم وجبات للملك و لجنته. حتى أن الملك اختنق في أول كبد قدم له فأشار إليه مستشاره البابون قائلا في أدب جم:
– سيدي ليس ثمة حاجة إلى أن تلتهم طعامك التهاما فهو خاصتك و لن يشاركك فيه أحد فنحن نخشى عليك الاختناق أيها الملك المفدى.
و لكن صعب على الضبع الإقلاع عن عادة الالتهام و الخطف فقد كانا طبعا فيه فكف مستشاره البابون عن تقديم النصح له معللا لبقية الحيوانات فعلة الملك ب:
– إن الالتهام دليل قوة و سمة الملوك .. أتريدون ملكا يأكل كما يلقط العصفور حبه؟
اقتنعت الحيوانات بتبرير البابون و صار عرفا أن أقوى الحيوانات أقدرها على الالتهام و صار ذلك عرفا سائدا بين أعضاء المجلس الحيواني. و عندما تشبع إلى حد عدم القدرة على التنفس، لا ترضى إلا تتكدس أمامها اللحوم و تظل تحرسها اليوم بأكمله.
اكتفى الملك بأكباد الغزلان أما التمساح و ما له من قدرة هائلة على البلع و هضم ما لان و صَلُبَ، فقد خُصصت له العظام و الجلود حتى تبقى منطقة البحيرة نظيفة و بعيدة من الشبهات التي قد تتسبب فيها مخلفات الضحايا. و قد كانت تلك أهم قرارات اللجنة المنظمة و هي سياسة التنظيف و عدم إبقاء أيما دليل. تكونت اللجنة المنظفة من الصقور القمامة .. التمساح .. الأصلة .. الضباع .. و أخيرا الديدان.
في وقت وجيز نقصت أعداد الغزلان نقصانا كبيرا فرأت من تبقى منها الفرار من مملكة الحيوان للنجاة بذواتها و بالفعل خلت الغابة في أيام قلائل من الغزلان تماما.
في الاجتماع الرابع حكمت اللجنة بإعدام القرد المنظم لوجبات اللجنة لتقصيره و تسببه في هروب الغزلان. و كانت خطة الاعدام أن يرافق القرد أصلة الأنوكاندا إلى أجمة قريبة بدعوى أن بعض الغزلان قد اتخذتها مأوى لها و ما إن ابتعدا قليلا حتى التفت الأصلة حول القرد و عصرتها حتى فارقت الحياة ثم ابتلعتها عن آخرها.
بينما كان جل أعضاء اللجنة متمددا في الظل ببطون مملوءة، جاء الغراب لاهثا و هو يقسم بحياته أنه رأى و سمع أن الصقر المسؤول عن الأجواء يحدث جماعة الصقور عن سوء الأوضاع بمملكة الحيوان و أنها بما لديها من القدرة على الطيران لا سلطان لأي من أعضاء اللجنة عليها و أنها ظلت طوال فترة حكم المملكة الحيوانية بدرجة قمامة و لم تُرقى أبدا.
أمر الضبع الملك بتقديم ما تقيأه من كبد الغزال للغراب جزاء لولائه ثم اجتمعت اللجنة في مناقشة القضاء على الصقر المارق. قال الخنزير البري المكروه من الجميع: لا أحد منا يقدر على الطيران و الصقور إذا أرادت النوم نامت على نهاية أفرع الأشجار و لن تتمكن قردة الشمنبازي بأوزانها الثقيلة على القبض عليها أما السناجب فستكون فريسة سهلة لها. أرى أن ندعو لتكريم الصقر على ولائه ثم ننقض عليه بالطريقة التي سأهمس بها في أذن ملك الغابة. مع أن ملك الغابة كان في سره يكره هذا الخنزير بالذات و لا يثق به أبدا إلا أنه استحسن فكرته و وافق عليها. و نقل الغراب إلى الصقر خبر تكريمه.
جاء الصقر محلقا بزهو و بعد مناورة طيران رائعة بين الأشجار، نزل أمام الملك و أغمض عينيه و انحنى واضعا منقاره على الأرض فاردا جناحيه طاعة لملك الغابة و هو يقول:
– لبيك أيها الملك العظيم.
قال الملك و هو يتنفس بصعوبة نتيجة تخمته الدائمة:
– رأينا أن نكرم أصحاب الولاء و الطاعة في المملكة الحيوانية و أنت أيها الصقر أكثر الحيوانات ولاء فلم تكثر الشكوى و التذمر من المهام الموكلة إليك كما لم تطلب و لا مرة ترقيتك عكس بقية الحيوانات التي أزعجتني كثيرا دون أن أرى لها نتائج عملية.
قال الصقر ..
– مجرد طاعتكم و الولاء لكم شرف لا يدانيه شرف.
قال الضبع بصوت تهديدي أكثر منه ودي:
– لقد قررنا نحن لجنة المملكة الحيوانية ترقيتك من صقر قمّام عادي إلى صقر قمّام من الدرجة الأولى و يترتب على ذلك أنكم جماعة الصقور يكون لكم السبق في النزول على أيما جثة و لن يشارككم فيها أي حيوان آخر حتى تقضوا حاجتكم منها جميعا.
صفق الصقر بجناحيه و هو يقول:
– .. يحيا العدل .. يعيش الملك العظيم و إن سمح لي جلالتكم فلدي ما أقوله:
– تفضل أيها الصقر الوفي و أوجز فساعة قيلولتي قد حانت:
– في الحقيقة كنا نعاني أيما معاناة من تزاحم القمامين من الدرجات الدنيا و كان الصقر منا يرجع أحيانا بظلف أو بقايا عظم و لكن منعنا ولاءنا و طاعتنا لكم من التكلم في الأمر.
– قال الملك و لذلك حفظنا لكم حقكم بهذا التكريم .. هيا فلنبدأ تكريم الصقر الوفي.
رغم كل عبارات الإطراء و الترحيب .. لم يشعر الصقر قط بالاطمئنان و قد أبقى نفسه مستعدا لطيران سريع و لكن اللحظة لم تحن.
قال الضبع الملك مستنكرا:
– ماذا؟ هل تريدون تكريمه بعيدا عني؟ أريده بجانبي
مرغما جاء الصقر و وقف بجانب الملك و جِيئ بأغصان على هيئة أكاليل و وضعت على رقبته ثم جيئ بآخر و آخر و آخر لم يظهر من الصقر إلا رأسه و عندها قال الملك و عيناه تشعان شررا:
– هل تستطيع الطيران أيها الصقر
و قبل أن يجيب سد أكثر من حيوان أنفه اتقاء من الرائحة الكريهة التي أحدثها الصقر المرعوب و هو يقول بصوت راجف:
– إذا شاء الملك طرت و إن شاء بقيت
– بلغني أنك من أكثر أعضاء الغابة ولاء للمك
– ما في ذلك شك أيها الملك
– فإن الملك راغب في رأس صقر كمقبلات قبل الغداء– ماذا تقول في ذلك؟
– سأقدم لك ثلاثة رؤوس من رؤوس الصقور الشابة بدلا عن رأسي فمنقاري من الصلابة بمكان لكبر سني .. فقط إن أزحتم هذه الأغصان، سآتيك الساعة برؤوس الصقور الشابة:
رأى الصقر لعاب الملك و هو يسيل بينما يتقدم إليه و لم يقدر حتى على الفرفرة بسبب الثقل الذي عليه و في قضمة واحدة كان رأس الصقر بين أنياب و أضراس الضبع الملك و من يومها هاجرت بقية الصقور و تركت فضاء الغابة بلا حماية.
أشيع مرض ملك الغابة بعسر الهضم و أرجع السبب إلى أن معدة جلالته لم تقدر على هضم منقار الصقر. و سريعا تمت تصفية الخنزير بتهمة التآمر على اغتيال الملك و قامت جماعة التماسيح على الفور بالمهمة على نحو كامل. هز الحمار الوحشي رأسه و هو يتمتم:
– مع إني القاضي .. لا أحد يستشيرني و أسمع بالحكم كغيري من الحيوانات و لكن ما همي طالما أنهم يؤدون مهامي عني. لن اكترث!
كدواء لعسر الهضم الذي يعاني منه الملك رأت اللجنة أن تجرب الحليب فأوتي بجاموس و أخذ الغراب يطير فوقه قائلا:
– من بين جميع مملكة الحيوان وقع الاختيار عليك لشرف مد ملكنا بالحليب.
اندهش الجاموس المطوق بسبعة من الضباع و ما إن قال أنه ذكر و أن الذكور لا ألبان لديها حتى فتكت به الضباع تحت بندي العصيان و عدم الولاء و استمر الأمر مع جماعة الجواميس حتى تكومت جثثها و بعدما شبعت اللجنة المنظفة، صدر قرار بإيقاف استدعاء الجواميس لأنه قد تبين للجنة أن الجواميس الذكور لا حليب لديها. لم يتبقى من جماعة الجواميس الذكور غير جاموس واحد أشار لجماعته بالهجرة من مملكة الحيوان حفاظا على نفسها و لحقت بالغزلان و الصقور.
بعد عدة أشهر ظهر الشمنبازي العجوز و حفظ له الضبع الملك وعده و جعله وزيره الأول و سريعا بدأ الشمنبازي في سلسلة من الاجتماعات و الخطب التي لا يفهم كنهها أحد و لكن لم يتجرأ حيوان على التخلف أو إبداء عدم الفهم. بل كانت تصيح إعجابا بخطبه و أصبح مألوفا أن يُرى الشمنبازي يخاطب جموع الحيوانات بأسلوب تهكمي يشوبه شيئ من الحركة الخفيفة و الضحك الغامض:
– نعم أنت أيتها العشبيات .. العشب ليس عشبا كما الماء ليس ماء ..تستطيعين إشباع بطونك دون الخروج إلى المرعى و الارتواء باقناع عقولك أنك مرتوية .. عبث كله هذا العواء و هذا الضجيج .. تستطيعين أيتها الحيوانات التواصل مع بني جنسك تخاطريا .. فقط تحتاجين إلى التأمل بعمق و تصفية أذهانك مع إيمان كامل بأن الأشياء ليست هي الأشياء. هذه دعوة لتجديد أسلوب و نمط حياتك .. أنت كما أنت مذ أن جئت إلى الوجود .. و ستظل ما لم تحدث نظرة استحداثية لتكون علامة فارقة في هذا المنعطف.
و في اجتماع آخر:
– تعلمون أيتها الدواب .. أيتها البغال و الحمير أيتها الجواميس و أفراس النهر و أسماك البحر و البحيرة أن الحياة ليست أكلا شربا و تكاثر .. تستطيعون مثلي .. ألا تأكلوا ثلاث أشهر سويا .. بمقدور الأفيال الطيران و إن شاءت النعامات سبحت .. بالأمس كنت بغابة الأمازون .. و غدا سأرحل اسفيريا إلى غابات الملايو و الهند .. قد تشكون .. قد تحتارون و تتسآءلون كيف؟ لا تسأل أبدا كيف .. الكيف قيد للعقل .. خذي مني أيتها الحيوانات .. و عندما أقول خذي مني، لا أستثني أحدا.
أخذ الكلب في النباح بشكل هيستيري و التفت إليه الضبع الملك آمرا إياه بالصمت و لكن الكلب لم يذعن و استمر في النباح و لما انتهره الضبع الملك، اقترب منه الكلب و قال هامسا في أذن الضبع الملك:
– ألا ترى يا مولاي أن الشمنبازي يسخرمنك و يتهكم عليك؟ لقد قال في خطبة سابقة (عبث كله هذا العواء و هذا الضجيج) ثم إنه يقول اليوم (خذي مني أيتها الحيوانات .. و عندما أقول خذي مني، لا أستثني أحدا) أي أنه جعلك من العوام التي تأخذ منه. إنه خطر عليك و على ملكك لذلك نبحت فيه.
بإشارة من الملك الضبع أتت خمسة من الضباع بكبير قردة الشمنبازي العجوز العاجز عن تسلق الأشجار و ادعت أنها ضبطته و هو يحرض القردة على الهجرة بل يريد إزاحة الملك و قدمت عدد من الحيوانات شهادتها من اقتباسات سابقة للشمنبازي و هو يحط من مكانة الملك و يستخف به.
غضب الضبع الملك غضبا شديدا و أمر حرسه بحرمان الشمنبازي من مغادرة شجرة الحراز و بعد التأكد من عدم خطورته قال الضبع مخاطبا الحيوانات:
بالأمس رأيتم ما حل بالصقر العميل و اليوم هذا الشمنبازي الذي لا يحسن غير الفلسفة الفارغة أساء الأدب معنا و لولا كبر سنه و قلة حيلته لرأى مني العجب العجاب و أقولها رسالة قوية أن كل مارق علينا أو منا هالك و السلام.
لم يكن الشمنبازي العجوز مذعورا و لكنه عدم الحيلة في المقاومة لكبر سنه و تخلي مناصروه عنه. في اليوم التالي جيئ بالشمنبازي مقبوضا عليه ثانية .. ضبع يعض على رجله الخلفية اليمنى و آخر على رجله الخلفية اليسرى و آخر انغرست أسنانه في جلد ظهره بينما اكتفى الضبعان الآخران بفغر فاهيهما للإنقضاض عليه إن أبدى أيما مقاومة. حانت التفاتة من الشمنبازي العجوز إلى مستشار الملك ابن عمه البابون و لكنه توارى و تشاغل بالبحث عن البراغيث في جلد الملك.
لم يكن الأسد الملك قادرا على الكلام بسبب عظمة سمكة طعنته في لثته بينما كان يلتهم في الخفاء. بقى هذا الأمر سرا إلا من الضبع و التمساح الذي قدم له السمكة قبل اسبوعين بينما كانت كل الحيوانات نائمة. التهب ضرس الملك و أنتن حتى هجرته إناثه و منعه الالتهاب العواء و صار يصدر أوامره بالإشارة فقط . أشار إلى الأصلة بعصر الشمنبازي .. زحفت الأصلة صوب الشمنبازي العجوز و عندما بدأت الالتفاف ببطء تقيأت الأصلة دون إرادتها ثلاثة من صغار الضبع كانت قد ابتلعتها سرا بعدما أصابها الجوع.
لم تلبث بعض إناث الضباع أن فتكت بالأصلة دون رحمة أما الشمنبازي العجوز فقد تسلل خفية وسط احتدام الخلاف و أصبح منبوذا مطرودا لا تُسمع أخباره إلا بين الفينة و الأخرى تأتي السناجب أنها رأته في أطراف الغابة يصحيح دون أن يعيره أحد اهتماما.
سريعا بعد تلك الأحداث، عُقدت عدد من المحاكمات السريعة.
في المحاكمة الأولى حكم على جاموسة بتهمة عدم الحزن بما فيه الكفاية لضرس الملك فقد ضُبطت تأكل متهكمة بسلامة أضراسها و عقابا لها تم ربط فمهما ربطا محكما بعدما حُشي بالرمل.
في القضية الثانية حُكم على تيس جبلي بالاعدام دفعا من أعلى قمة الجبل بتهمة إزعاج الملك أثناء قيلولته رغم أن التيس يسكن في جبل على مسير يوم من موقع الملك و لم يشفع للتيس حين برر ذلك أنه كان يراود أنثاه الذي تأبت عليه كثيرا.
في القضية الثالثة حكم على نمر بعض أرجله من خلاف مع قطع ذيله بتهمة أنه رأى في منامه الأسد. قام أقوى الضباع فكا بتنفيذ العقوبة.
في المحاكمة الخامسة حكم على فرس نهر بالنفي في الصحراء لأنه تغوط في بركة ماء قُدِّرَ أن يشرب منها الملك في يوم ما. قام بمرافقته إلى منفاه فيلان عن يمينه و آخران عن يساره و وحيد قرن على أثره.
في آخر القضايا حكم بفقع عيني حمار وحش لأنه تجرأ بعدم الانحناء لموكب مرور جلالته. و لما نفى التهمة قالوا لم نجد أنفك ممرغا بالتراب. قامت جماعة الغربان بتنفيذ العقوبة بعدما دفع الحمار دفعا لتغوص أرجله الأربعة في وحل من الطين.
بعد التدهور المريع في أحوال و موارد الغابة اقترحت الضباع تقسيم الغابة حتى يسهل التحكم عليها و لكن انتهى الأمر بأن طمعت حيوانات الغابات المجاورة و لم يتبقى من الغابة إلا منطقة البحيرة.
خلال سنوات قليلة هجرت غالبية الطرائد مملكة الحيوان و تبدل العشب الأخضر المتمدد إلى عشب جاف تذروه الرياح بسبب الاختلال البيئي الناتج من هجرة الحيوانات. في السابق كانت العشبيات تأكل من جانب و تخصب الأرض من جانب الجانب الآخر بما تلقيه على الأرض من الروث أما و قد رحلت فقد أجدبت الأرض و شجبت و قل المطر لدرجة العدم. و لم تنجح فكرة الملك بأن تعيد مجموعة الذئاب تخصيب الأرض بإلقاء مخلفاتها فقد كانت تلك المخلفات حارقة للحشائش بدلا من أن تكون مخصبة.
أما المفترسات التي اكتنزت لحما و شحما، فقد غلبها المشي بعدما فارقتها الرشاقة حتى الفهود المعروفة بقدرتها العالية في السرعة أصبحت تمسك أمامها إما سلحفاة عجوز تخلفت عن الهجرة غير قادر على اختراق قدحهأو جيف الحيوانات التي نفقت و هي في طريقها إلى الهجرة.
جفت البحيرة و أصبحت وحلا و طين و من بين كل تلك الأسماك الكثيرة لم يتبقى غير سمكة صغيرة خبأت نفسها في تجويف عظم ساق الفيل الذي عجزت اللجنة المنظفة في التخلص منه فرمته في البحيرة.
جلس الغراب في أعلى الشجرة الجافة و لم يرى غير الضبع الملك نحيفا بادي الأضلع و قرد البابون كعادته يبحث عن براغيث في جلد الضبع الملك.

* نشر في حريات يوم 22 - 08 - 2016

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى