شرف الدين ماجدولين - لكل كتابه

الكتاب ليس ورقا محبّرا، قد يكون لوحا أزليا أو حتى أغنية نترنم بها، أقول هذا الكلام لأن أغنية “أقبل الليل” لأم كلثوم كانت كتابا ليليا لسنوات طويلة، قبل أن يضحى الليل القادم بخجل شأنا بيتيا مقرونا بالنهوض القاسي، حتى لا تنتقل عدوى الليليات باكرا للعقب. كان الاحتفاء بالليل حبورا خالصا لوعوده المسرحية والروائية والسينمائية والموسيقية…، كان الليل كتابا لي وحدي، كتابا مفتوحا على شتى المباهج، لهذا اخترت أن أكتب أطروحتي عن “ألف ليلة وليلة”، رغم أني كنت أمقت الديك إياه الذي تحوّل إلى ناقوس نحاسي حطمته مرات عديدة قبل التدجين الإرادي.

لكن الكتاب شيء نفيس في النهاية، لهذا سميت “التوراة” و”الإنجيل” و”القرآن” بالكتب، ونعت المسيحيون واليهود بأهل الكتاب. وبعد ذلك كان الكتاب كناية عن الورق النفيس، حينما كانت الدفتان من الوبر وما بينهما مخطوطات برائحة العرق الحريف، كتبت من سواد أو من ألوان سقفها الذهب، وكان الكاتب وكان الخطاط وكان الوراق، وكانت مهن منذورة لتعميد المعنى.

بالطبع لم يدر بخلد الخالق يوما أنه ستكون في يوم ما قداسة لكتاب أخضر أو أحمر، وإلا لما خلق الألوان إياها، فحين عرفت الكتب لم يكن قدرها الإيغال في إهانة البياض، كانت كتبا لحمل الرسائل، ولتخفيض قدر العذابات، كانت سوادا على بياض، أو نحتا على حجر، وحين منحت لونا، فلأن العذاب شأن معقد، ما كان منحازا ولا قابلا للشرح ولا للتلون، لقد كتب “تولستوي” في مقدمة روايته الخالدة “أنا كارنين” “إن الأسر السعيدة تتشابه دوما بينما شقاوة الأسر تحتاج كل منها إلى حكاية”، أي أنها تحتاج إلى لون، بعد أن يكون كتابها قد انطوى على حجم، لهذا أعتقد أننا قد نمنح لكتبنا لونا، لكن مسألة إغلاقها ومنحها غلافا يقفل حجمها، ويخرس أفقها، متروكة للزمن.

كان لنا بالتأكيد كتاب أخضر وكان تجليده بحسب مستلمه، بدءا من الورق الخفيف الأصفر إلى المطبوع الفاخر الشبيه بكتالوغ مدينة باريس، وكان هناك من استلمه بيمينه ومن استلمه بشماله، وكان هناك من وضعت عشرات النسخ رغم أنفه في حقيبة سفره المهترئة، مع إعفاء سخي من ملتزمات الجمرك، وكان هناك من اخضرت عيونه من تركة السؤال عن عدم القدرة على فهم الكتاب.

وكانت لنا كتب بقدر مهارة السلطان في دراسة طب العيون، لكننا بقينا مع انتفاضاتنا الحديثة دون كتاب، ننشد الملاحم والتراجيديات، ونكتب يومياتنا شذرات هناك في الجدران التي أبقاها الصاروخ أو برميل المتفجرات، ثم على ذلك الجدار المفترض، في الأنترنت. بتنا دون كتاب ونحن أمّة الكتاب.



خير جليس.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى