ألف ليلة و ليلة توفيق قريرة - ألف ليلة وليلة والقصيدة السيمفونية

من لا يعرف في أغلب العالم اليوم حكايات ألف ليلة وليلة؟ يندر أن يجهلها أحد، فقد جعلت هذه الحكايات العالم الشرقي والغربي يحلم بالمَال والجمال، وهما من زينات الدنيا في كل مكان. في هذه الحكايات طار الإنسان قبل أن يحلم بذلك عباس بن فرناس، طار الناس على بساط السندباد السحري قبل أن يركبوا الطائرة. وفي هذه الحكايات أكلت شهرزاد بالحكايات عقل شهريار، الملك الذي ظل يتابع لألف ليلة (طبعا الرقم رمزي) حكايات لا تنتهي تقتله شوقا لأحداث لا قبل له بها، وكلما حكت شهرزاد جعلتها الحكاية تحيا، وفي حياة المرأة حياة النوع البشري بأسره.
ومن الطريف أن يكون هذا النص متعدد الجنسيات ومتعدد المؤلفين، وهو لذلك نص بلا أب. هو نص يحيل بأسمائه وأماكنه وربما بروحه على الحضارتين الفارسية والهندية، لكنه مليء بروح عربية تفوح أكثر من غيرها، وحتى الغربيون اعتبروه محيلا على هذه الحضارة التي ظلت تشدهم بتناقضاتها وكأن فيها عناصر من الحلم المفقود.
أقدم الترجمات كانت إلى الفرنسية على يد أنطوان غالان في بداية القرن الثامن عشر، وكان غالان سفير بلاده لدى القسطنطينية أيام السلطان محمد الرابع، ومن الشام تمكن من أن يقتني مخطوطات عربية لمكتبة ملك فرنسا، كان من بينها مخطوط «ألف ليلة وليلة». ويبدو أن الترجمات إلى اللغات الأخرى كالإنكليزية كانت من الفرنسية، واعتمادا على ترجمة غالان، لكن الاسم الأجنبي السائد والمحبذ هو الليالي العربية Arabian nights. الحقيقة أن الترجمة لم تكن نقلا أمينا، بل كانت فيها زيادات وتحريفات عن المصادر الأولى، هي التي أضفت على النص طابعه الانفتاحي، وجعلت اللغة تقول ما تريد وتكون حاملا لعناصر الثقافة التي إليها يترجم النص.

الحديث عن شهرزاد لن ينتهي وتأويل حكاياتها لن يخلو منه عصر، لأنها نص له عبقه الذي كلما تضوع ازداد عطرا وله سحره، كلما فُكّت عقدة أبانت عن نفاثين في العقد كثر.

ومهما يكن من أمر فإن أهم تحريف حدث للحكاية في رأينا كان ذاك الذي نقلها من «حكاية» أو «خرافة» إلى «ليلة»، أي من قول يقال في زمان إلى زمان يُملأ بالحكايات. فلقد أورد المسعودي وابن النديم أن ألف ليلة وليلة مأخوذة من أثر فارسي يحمل عنوانا فارسيا هو هزار أفسانة (أي ألف حكاية) بل يشير صاحب مقال ألف ليلة وليلة في دائرة المعارف الإسلامية (بالإنكليزية ط.2) بعد أن يورد هذا المعطى إلى أن فكرة الحكي اتقاء للموت هي فكرة هندية. جميلة فكرة أن تحكي كي لا تموت، أي أن تحكي لا لتقتل الوقت الذي سيقتلك كما في تصورنا العربي؛ بالحكي تحقق الخلود، وكلما كان الحكي متصلا بالحكمة خلد الإنسان. ليس الموت الذي نهرب منه بالكلام هو مغادرة الحياة، بل هو أن لا تحيا بعد الموت؛ الحياة بعد الموت أن تترك شيئا به يحكي الناس عنك.
الحديث عن شهرزاد لن ينتهي وتأويل حكاياتها لن يخلو منه عصر، لأنها نص له عبقه الذي كلما تضوع ازداد عطرا وله سحره، كلما فُكّت عقدة أبانت عن نفاثين في العقد كثر. ما يعنينا في بقية هذا المقال هو ضرب من الإبداع حول شهرزاد وشهريار، وقصصهما بالموسيقى، ونحن نعني ذلك الإنتاج الضخم الذي وضعه مؤلف السمفونيات الروسي الشهير نيكولاي ريمسكي كورساكوف (1844- 1908). شهرزاد هو عنوان السيمفونية وهي تلقب بـ«القصيدة السيمفونية» ويقصد بها نوع من السمفونيات ذات موضوع أدبي أو فلسفي وهي تأليف أوركسترالي عادة ما تكون مركبة من حركة واحدة ويستوحيها صاحبها من موضوع أدبي؛ وقد راج هذا الضرب من الفن في القرن التاسع عشر. لكن النقاد يعتبرون قطعة شهرزاد المتألفة من أربع حركات نوعا وسطا بين السيمفونية الخرافية أو الخيالية التي اشتهرت مع الفرنسي هكتور برليوز والقصيدة السيمفونية التي كانت من صناعة فرانز ليست المجري، وهي أوركسترا بلا برنامج معين، ولكن تقوم على فكرة مستمدة من الأدب أو الفلسفة أو الوصف. حركات سيمفونية شهرزاد الأربع هي: البحر وسفينة سندباد أولا وحكاية الأمير قلندر ثانيا والأمير الشاب والأميرة الشابة ثالثا وعيد في بغداد رابعا وأخيرا.
لن ينتظر منا القارئ تحليلا موسيقيا مختصا لهذه الحركات، وكيف أنها تنقسم إلى صوتين كبيرين، هما صوت نحاسي قوي يمثل صوت شهريار بجبروته السلطاني، وصوت القيثارة أو الهارب وهو صوت شهرزاد اللطيف. إنما نرمي أن نشير إلى أمر مهم يتعلق بترجمة فن يرتكز على القول واللغة، إلى فن آخر يرتكز على العلامات غير اللغوية مثل، الموسيقى التي تعتمد مادة صوتية اصطناعية، أو أوركسترالية لتقول تصورات أو تمثيلات معينة. وفي هذا الإطار يلاحظ مؤلف السيمفونية في بعض أقواله المهمة عنها، أنه لم ينقل في مؤلفه الموسيقى حكايات شهرزاد الملفوظة؛ وإنما استوحى في لحونه تمثيلات خاصة لا علاقة لها بالنص المحكي فيقول: «من العبث أن يجد المرءُ لازمة موسيقية تحيل على الصور (التي في الحكاية)؛ فعلى العكس من ذلك، فإن ما يبدو لنا وكأنه لوازمُ مُحيلة على الصور، ليست إلا مواد موسيقية خالصة مؤلفة للتطور السمفوني. فهذه الصور تمر وتنتشر في جميع أنحاء العمل بشكل تتابع فيه وتتداخل في ما بينها، وتظهر كل مرة تحت ضوء مختلف وترسم في كل مرة سمات مميزة وتطابق في كل مرة صورا ولوحات مختلفة».
هذا الكلام يعني أنه من العبث أن يتبع القارئ/ السامع (أي قارئ أسطورة ألف ليلة وليلة والمستمع لهذه السيمفونية) المسار نفسه؛ فلا توجد أصواتٌ قصصية تطابقها أصوات سيمفونية تحيل على مرجع واحد: أبطال ألف ليلة وليلة. القصيدة السيمفونية يراد لها أن تكون نصا من غير أثر، أو من غير خلفية لغوية نصية؛ يريد الموسيقي الذي استفاد من فكرة أدبية أن يضع مؤلفا موسيقيا لا لمحاكاتها في أداتها التعبيرية الأولى أو لتضخيمها، بل لمحوها وكتابة شيء جديد لا يشبهها. بهذا المعنى فإن سفينة السندباد في السيمفونية ليست كسفينته في النص القصصي، بل إن السندباد هو ههنا اسم قديم لمسمى موسيقي مختلف. وسيكون القارئ لهذه المحاور الأربعة أميا إن هو لم يتسلح بأدوات فك شيفرة الأصوات وتوزيعها ومداها والآلات التي تعزفها؛ ولا سبيل ههنا إلى قراءة حدْسية؛ فستكون تلك القراءة كفعل من يرى خطوط الحروف كأغربة عصم (كما قال المتنبي عن جدته وهي تقرأ رسالته) سيكون وهو يفك شيفرة الكتابة متوهما. إن القراءة العالمة في علم العلامات هي قراءة يجب أن تفك شيفرة العلامة- مهما كانت العلامة – بالكيفية الصحيحة التي تفك بها قبل أن تؤولها.
سيقولون لي كأنك تهمز الأرض بنقاد الموسيقى والمسرح والسينما غير المختصين، أولئك الذين يستعملون حدوسهم في القراءة. أقول أجل أنا أفعلǃ لأن القراءة الحادسة هي قراءة بحاسة سادسة، لا تصيب حتى إن صدقت؛ هي قراءة توحي بالسحر والشعوذة ولا تبني رأيا دقيقا. إن قراءة الفن بعلومه وبوسائله فهي القراءة النافذة. ليس أمام من لا يعرف غير الصمت، ولا سيما أمام الموسيقى؛ فالموسيقى على حد عبارة الشاعر الكندي إيتياي بلاي هي فن الصمت.

٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى