ربيع محمود صالح - قبعة الضجر

نعم .. نعم
لقد شكوتُ الأمرَ لأستاذي :
أخبرته أن الأفكار موجودة وكل التفاصيل / الملامح / الأحداث التي تتكون منها القصة .
ولكن المشكلة في الصياغة والقالب ..لا أجد القالب المناسب .. لا أستطيع لملمتها
في قصة واحدة .
قال لي :

" ابتعد عن الإطار.. لا تخنق كتاباتك .. دعها تخرج مثلما هي .."
ثم .. وقد أخذ التجلي مداه :

" لتكن قصة .. قصيدة .. أو خاطرة .. مقالاً .. أي شيء "
وتركني بعدها ليغرق في تأملاته وهو يتمتم ... شكليات

.. إنها مجرد شكليات .

-2-
أفكار كثيرة وشيقة تجتاحني وتعصف روحي ، وعندما تحين لحظة الكتابة ... كل شيء يتبخر .. يصير هواءً .

أحيانا أخافُ أن أكرر نفسي، خاصة إذا سبقَ لي الكتابة في الموضوع نفسه ؛ أصابُ بالدوار والخنقة، أمزقُ وأحطمُ كل شيء أمامي .

لا يا صديقي، لا علاقةَ للأمر بحساسيتي العالية تجاه الأشياء؛ بل هو أعظم من ذلك .. إنها الروح .

-3-
ما يراودني الآن كتابة قصة عن " توم وجيري " .. هو بعينه .. ما يهمني هو " توم" ..القط

..ألا تعتقد أنه ظُلم ؟
حسنا .. راقب معي مسيرة المسلسل الكرتوني :

في كل حلقة يبدأ الصراع بمطاردته للفأر (المدعو جيري) وتخطيطه لقتله ومن ثم طبخه أو أكله نيئاً ..القط لا ينجح في حماية البيت، لا يقبض على غريمه إلا للحظات نُسجتْ مشاهدها من أجل تثبيت الهزيمة وتعزيزها بهزيمة ساحقة لصاحبنا ..

لكني لا أستطيع تجميعها في قصة؛ أجد الجُمل والأفكار مرتخية بما يفيض عن حاجة قصة. أقلبُ المواضيعَ في رأسي ، تستدرجني فكرة قديمة جديدة :

الغراب !

حاولت الكتابة عنه . فوجدتني أنجرفُ لموضوع آخر، موضوع شخصي جدا . قصة حب ساذجة

ومشاعر حنين (أكثر سذاجة) إلى ماضٍ ذهب ولم يعدْ، أدرجتُ الغرابَ فيه فرحتُ أدافع عني بالغراب وليس العكس ..

-4-
سرقة أدبية :
قال الأستاذ إن كرم حاتم الطائي لم يكلفه أكثر من حصان واحد، ذبحه وقت مجاعة ..!
وقتها خطرت لي فكرة هجاء حاتم الطائي والكتابة عن بخله :

" الابن ينام جائعاً ..
الأب مشغول بإطعام الحصان _ الذي سيكون سبب شهرته _ وتسمينه . الابنة تذهب إلى مدرستها دون مصروف عقاباً لها على تبذيرها ، فلقد انفقت يوم العيد ثلاثة دنانير كاملة .الأم توصي الخادم أن تطفىء النور ، حتى لا يجهد بلاءهم ضيف في هذا الليل "

أفكار جيدة ، ينقصها التأثيث الجيد ..
-5-
عودة إلى الغراب :

يروى عن قيس بن ذريح أنه تطيّر _ قبل طلاقه من لبنى _ لرؤيته غرابا ينعق .. وبعدها بثلاثة أيام خضع للضغوط وذهب هو ووالديه إلى القاضي وطلقها ثلاثاً . و لمّا ندم اتهم الغراب وحمّله مسؤولية ما حدث (لقد نادى الغرابُ ببينِ لبنى ). تمنيتُ لو أمسكه من ياقة قميصه باطحا إياه وداعساً في بطنه :

( هل الغراب مسؤول عن تياستك ؟) .


-6-

رأيتُ اسطنبول :

أفكرُ بأن أتركَ كل القصص والنصوص التي أنوي كتابتها جانباً وأن أتجهُ نحو أدب الرحلات، فأكتب عن إحدى الرحلات التي قمتُ بها ، ولأنه زمن المسلسلات التركية لن أجد أفضل من الأستانة التي قضيتُ وزوجتي فيها أسبوعاً تجولنا في أسواقها ومساجدها وقصورها وجزرها وسواحلها ... وإن كان امرؤ القيس قد وقف على الأطلال كما وقف ابن حذام فقد وقفنا عليها كما وقف مهند ويحيى والأسمر وغيرهم .

في اسطنبول/ القسم الأوربي كل شيء نظيف، الشوارع والحانات والأسواق والفنادق ... تعلّق زوجتي : ( وحتى شاحناتهم نظيفة) .

لكن المشكلة أنّ الرحلة مضى عليها ثلاث سنوات .. هل سأتذكر كل التفاصيل؟ أم أنني نسيت؟

ربما أستعين بأحد الكتب التي تتحدث عن اسطنبول الحديثة...!

-7-
يجلس صديقي الناقد إلى جانبي وأنا أُراجع ما كتبت. يلكزني بيده ويقول لي إن عليَّ أن أبحث عن قفلة جيدة للقصة وإنه يكفيها _يقصد القصة _ تشتتاً ؛ فهي لا تحتمل أكثر من ذلك .

وأمسكني من ياقة قميصي وراح يرشدني :

أولاً: عليك العودة إلى لهجتك الاولى وكأنك تخاطب صديقاً، كي لا تكسر بنية القصة .

ثانياً : استعنْ بأحد المصادر التاريخية والأدبية لمتابعة مجريات حديث الغراب وما جرى حتى غدا رمزاً للشؤم والموت؟

ثالثاً : قمْ بالاتصال بالقط توم في بلاده أمريكا وتبيّن ما هو رأيه في القضية ؟

( ملاحظة : بالنسبة لحاتم الطائي تغاضَ عنه كي لا تزعج الضمير الجمعي ).


-8-

هكذا تكلّمَ توم :

( أعتذرُ عن تأخري في الرد، لكن لا تعتبر ذلك تخاذلاً، أعرف بالضبط ما تُريده :

"أنّ تكتبَ قصةً تذود فيها عني وترفع الظلم الذي وقع علي " .
والحقيقة عندي كل الأدلة والوثائق التي تثبت حقي وتفضح الأيدي الخفية التي اشتركت في تشويه صورتي وتأليب الرأي العام ضدّي. لكنّها أمريكا ومن يستطيع مجاراة اللوبيات والجمعيات السوداء ، أتفهمني ، لذلك اخترت الصمت.

بعد أن انتهيتُ من تصوير الحلقة الأخيرة ذهبت إلى بيتي وتحصنت فيه ... اعتزلتُ ، رفضتُ كل المغريات التي قدمت لي للاشتراك في مسلسلِ جديد. لذلك لجأوا إلى ما يسمى أبناء توم وجيري وأحفادهم .. وأنت تعلم أنني لم أتزوج . فكيف جاءوا بهؤلاء الأبناء والأحفاد !؟)

-9-
يخبرنا الجاحظ _ يا صديقي_ في كتابه"الحيوان" أن الغراب كان نديماً للديك وأنّه دَعَاهُ يوماً على بطحة مشروب في نادٍ ليلي . فأمضيا الليل يرقصان سكراً على أنغام الموسيقا ويتمايلان مع الراقصات ... ولمّا جاء وقت الحساب؛ اكتشف الديك الخُدعة وأن الغرابَ لا يملك فلساً واحداً.. لكن الغراب طمّأنه واعتذر لنسيانه المحفظة في البيت، واتفق مع صاحب الحانة أن يذهب ليحضر المحفظة بينما يبقى الديك رهينة في البار .. وذهب ، وذاك وجه الضيف .

-10-
كتبتُ إليه :
(عزيزي توم
أنتَ أمريكي الجنسية وهذا يحسّن موقفك ولو كنت على باطل. والوضع عندكم تغيّر. صحيح أنّ جيري أمريكي أيضا ولكن الرئيس الجديد أوباما نصير للمستضعفين ولا يهمّه في الحق لومة لائم . بإمكانك أن تلجأ إلى إحدى المحاكم، وهو سيأخذ لك حقك).

-11-

في اسطنبول ، كنتُ أعتقد أنني سأستفيد من الجمل الإنجليزية العشر التي أحفظها، إذ كنتُ خارجاً للتو من دورة تعليمية في الإنجليزية (المستوى قبل الأول) .. لكن اسطنبول خذلتني عندما اكتشفت أن العربية هي اللغة الثانية فيها..

- آربي إهكي آربي .

-12-
حقد شُعوبي :

ومنذ ذلك اليوم، والديك وصاحبه حاقدان على الغراب ... يعملان على تشويه صورته.


-13-

توم يتوجه إلى بلاد الشرق ؛ دخيلاً على بيت أحد شيوخ العشائر ليأخذ له حقه ..! والذي بدوره يعده بإيجاد حل بأسرع وقت وأنّه سيضع قضيته على جدول الأعمال كأهم قضية لدينا.


-14-

ثلاثة أيام مضت وأنا معتكف في بيت صديقي الناقد .. أدقق وأشطب .. لا أعرف ماذا سيخرج معي بعد كل هذا التشتت .. أأكمل أم أتوقف ؟..أأسميه نصاً أم قصةً ؟.. وربما ...؟ المهم ، صديقي رجل شهم ومضياف لم يكف منذ ثلاثة أيام عن تقديم الأطعمة والأشربة والمنام الطيب .. أفكر بكتابة قصة عن طيبه.. إنه بالفعل كريم مثل حاتم الطائي


* القصة الفائزة بالمركز الأول بمسابقة سواليف الأدبية الدورة 2

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى