حسن الجزولي - رائحة امرأة

من بين رأسي المثقل بالتعب والوسادة المشبعة برائحة أنفاسها، أحسست بغتة أن ذراعها قد اٍنسحب رويداً .. سبائك شعرها الطويلة قد اٍنسدلت من على صدري. بعد نحو من ربع الساعة رفعت رأسي المثقل بالتعب وبقايا الزمان وسهرة الأمس معها، وبأعين مرهقة عاينت المكان، كانت بقايا السهرة مازالت مطروحة على المنضدة وحول المكان ..أعقاب السجائر رخيصة السعر تمتلئ بها المنفضة، شرائح اللحم البارد والجبن الناشف وقطع الجمبري المملح التي جلبتها معها على طبق بركن من الأريكة..فتافت من الحمص الشامي منثورة على المكان .. بقايا كأسين وروجها البرتقالي الشفاف مطبوع على أحداهن.. بضع من النبيذ الأحمر الريفي على أطراف قنينة الكريستال.. ذابت الشمعة الغامقة حتى تشبع حاملها النحاسي بسيل من الدموع..وقبل أن يستوي رأسي المثقل بالتعب وبقايا الزمان وسهرة الأمس معها، غشت عيناي المتعبتان بالنعاس مكان اٍعتادت ترك أشيائها، فما رأيت قطع ملابسها منثورة بفوضى كما اعتادت بعثرتها، ولا حقيبتها الجلدية التي قدمتها لها في عيد اٍسمها ملقاة على أحد أرفف كتبي, وما كانت على المنضدة بجانب الآباجورة أسورتها أو عقدها العاجي، ويبدو أن معطفها الشتوي الذي اٍعتادت تركه في خزينة ملابسي قد اٍرتدته على عجل من أمرها خارج الشقة، أو هكذا خيل إلي، لا أدرى ..

ما كان بالشقة على ما يبدو سوى رائحة أنفاسها العبقة، ثم عدت أحتضن الوسادة بكلتا يدي بعد أن عاينت كل ذلك، ثم عدت بكل كياني لمواصلة نومي، ثم كنت ألعن فى صمتي تلك الظروف التي علقتني بتلك الشقية.. ثم كانت الوسادة مشبعة حقاً برائحة أنفاسها العبقة.

في الأسابيع التالية لاختفائها المفاجئ، وبعد أن روعني تماماً، وبعد أن أرهقني تماماً، وبعد أن تأكد فشلي تماماً في أن التقيها بعد أن بحثت عنها طويلاً جداً، وبعد أن روعني اٍختفاؤها المفاجئ كثيراً جداً، تعودت أن أغشى هذا المكان، نفس الحديقة التي التقيتما فيها صدفة.. حديقة واسعة في أطراف المنطقة التى أسكنها.. دونما أسوار وبها أشجار كثيفة ضخمة وأخرى صغيرة..في الصيف تخضر وتينع وتتفتح أوراقها.. تسكنها العصافير الحلوة بأصواتها العذبة ويكثر روادها.. وبها مقاعد خشبية منثورة هنا وهنالك.. يعتني بها مجلس البلدة صيفاً فيخصص لها عمالاً لنظافتها وتنسيق جوانبها، وعندما يحل الشتاء ويهطل الجليد بكثافة ويحاصرها الصقيع من كل جانب، يهجرها الرواد الذين اٍعتادوا المجيء إليها لأكثر من سبب .. فتغادر العصافير أعشاشها .. يغادرها الكهول وتهجرها الصبايا المليحات.. فتحاصرها الكآبة من كل جانب.

أما هي فقد اٍعتادت المجيء لهذه الحديقة في مثل هذا الطقس تحديداً .. قالت لي مرة أنه يحلو لها فعل ما لا يعتاده الغير.. ومشاويرها دوماً تلعق الطرقات التي لا يحلو للآخرين أن يمشوها.. صدفة..في تلك الحديقة..وفى ذاك الطقس الشتوي التقيتما بصحبة قطتها السيامية الكفيفة .. قلت لها وماذا تفعلين بروح كفيفة، ذكرتني وفمها الدقيق يفعل خطوطاً ساخرة بين جنبتيه، بأنها تفعل ما لا يعتاد الغير فعله، اٍبتسمت كمن أُسقط في يده ولذت بمعطفي والصمت القارس. كان الطقس قائماً وبقايا أمطار مزعجة على الأرض. كان الرذاذ على أوراق الشجر المتساقطة على الأرض، وكان اٍصفرارها يغطى المكان، كان الطقس عموماً يوحى بكثير كآبة ويزيد من جراح الوحشة والمنافي، لاسيما وأنا في فصل لا هو من فصول البلاد التي أعرف، فيبلل المساكن بروائح الذكرى والقلوب بدعاش الشجن، ولا هو من الفصول التي أحتمل فيها لملمة المشاعر وسد المنافذ دون مجيء الأسف.

تقدمت نحو المقعد الخشبي المطل على البحيرة .. نفس المقعد الذي كنت جالساً عليه لحظة أن تقدمت هي نحوي وجلست بقربي دونما اٍستئذان، ولكنها حيتني على أية حال، إلا أنني أحسست أنها تحية عابر سبيل لا ينتظر حتى رداً ودوداً، وضعت قطتها السيامية الكفيفة على حجرها، ومن معطفها الشتوي أخرجت علبة من تبغ رخيص السعر، أشعلت لها بأدب جم وأنا أتصنع اٍبتسامة بدت مضطربة، فتوهجت صفحتا خديها فوق لهب الثقاب، كان ثغرها ينم عن لطافة وكانت عيناها ناعستين وبقايا فتور على الأهداب، كان وجهها وضاحاً باسماً وكان قوامها فارعاً و لدناً هفهافاً، ثم غابت مع دخان التبغ المتصاعد مع صمتها. وبدأت أنا أختلس النظرات بين الفينة والأخرى.

ما كانت جميلة جمالاً هياباً..وما كانت بتلك الرقة الملازمة للأنوثة عادة..بشكل آخر أستطيع القول أن جمالها ما كان بذلك الذي يشار اليه.. اٍلا أنني أشهد أن بها بعض ظرف وكثير شقاوة ورغبة لغيظ الآخرين.. لماذا لا أدرى.. وهو الأمر الذي تأكد لي فيما بعد، كانت ربيعية ما تعدت سنوات المراهقة إلا قليلاً، مع أنها تصر دوماً لي أن عمرها قد جاوز الخامسة

والعشرين، اٍلا أنها مراهقة بعنف ووقورة بكثافة، بها بعض مزاج يفور حيناً طويلاً ويهدأ أحايين قلائل.. وهو الأمر الذى أحسست به فيما بعد أيضاً. فوضوية من صدرها الشبيه بالشهب التى تحن للاٍنطلاق، وحتى أسفل ساقيها البديعين، وبشعر ذهبى متهدل وطائش أقرب الى خصلات الغجر، ما كانت تحسن هندامها, ولا كانت صبورة لهذا اٍلا قليلاً، كانت تمص التبغ مصاً وكان التبغ يذوب بين أصابعها الرخامية، فتبدو وكأنها تتلذذ برائحة الشواء على لفافة التبغ، ثم بدأنا الحديث.

كنت أظنني - وببعض لباقة اٍلتقطها من صيغ أهلها - قد جرجرتها لحديث كان يحلو لي أن تخوض فيه معي، وإذا بي أكتشف أنها جرجرتني لإجابات عن أسئلتها التي اٍنهمرت علي حول خاصة شأن نفسي، ولكننا تحادثنا على أى حال. وهكذا تعرفت عليها. كان الطقس غائماً وبقايا أمطار مزعجة على الأرض المبتلة.

اٍنتبهت فجأة حولي فوجدت أنني أحادث نفسي.. نهضت من المقعد الخشبي أمام البحيرة وأنا أعالج أزرار معطفي الشتوي بعد أن أشعلت تبغاً رخيصاً .. دسست يدي في جيوب معطفي .. اٍستنشقت وزفرت هواءً مكثقاً من صدري. ثم توجهت نحو معبر الخروج. كانت قدماي تلعقان الطريق المؤدى إلى مخرج الحديقة، وخشخشة أوراق الشجر الصفراء تئن تحت حذائي الشتوي. كان الطقس يشحن العظام بالصقيع والأفكار بالأسى. كانت الحديقة مشبعة حقاً برائحة أنفاسها العبقة.

في الشهور التالية لاختفائها المفاجئ، وبعد أن روعني تماماً وأرهقني تماماً وبعد أن فشلت في أن ألتقي وطال بحثي عنها، كنت مازلت مواصلاً لعادة أن أغشى هذا المكان، نفس الحديقة، دلفت لصحنها وتوجهت لذلك المقعد الخشبي. كان الطقس غائماً وبقايا أمطار مزعجة على الأرض المبتلة، جلست - بعد أن أشعلت تبغاً رخيصاً- ثم طفقت أتابع حركة طيور النوى بانسيابها في فتحة السماء فوق رأسي المثقل بالأسى، ودخان التبغ المتصاعد يحوم هو الآخر مبعثراً كأفكاري مخترقاً ضباب الطقس الضارب على المكان.

من بين عتمة الأشجار والضباب الضارب ومدخل الحديقة وأفكاري المبعثرة أطل طيفها وهى تدلف لصحن الحديقة رويداً رويداً، وحين بدأ الطيف يقترب نحو مكان جلوسي في ذات المقعد الخشبي بانت ملامحه عن اٍمرأة رصينة الخطو والوقار، على نحو من الستين من عمرها، كانت رزانتها تزيدها بهاءً، وكانت عيناها واسعتين، وبهما بريق يشابه لبن الصباح، وعندما اقتربت من مكان جلوسي انحنيت لها رافعاً قبعتي من على رأسي

ومفسحاً لها مكاناً، فرنت لي بعينين كأن بهما تعبٌ شديدٌ وهى تبادلني التحية بوقار.. وقد أحسست وكأنهما تعاينان أعماقي، فخفق قلبي لبرهة وأصابتني دهشة تبددت فيما بعد، وبعد أن جلست بطيبة عميقة ظلت صامتة.. أم ساهمة لا أدرى.. إلا أنني لاحظت أنها تختلس النظر نحوي بين الفينة والأخرى. وأخيراً تشاغلت عني بمداعبة قطتها السيامية السوداء التي كانت تقبع في حجرها بنظرات مبددة.

تسللت أشعة شمس ذاك النهار الذي طلعت فيه بغتة من بين أوراق الشجر، فكشفت عن صفحة البحيرة فتلألأ وجه جليستي التي غابت.. فتلألأت هي الأخرى أفكاري المشحونة بالأسى على اٍختفائها الذي روعني تماماً، والذي أرهقني تماماً.

اٍنتبهت إلى أن المرأة قد عادت بوقارها تعاين أعماقي بمشروع اٍبتسامة متحفظة على فمها الدقيق. أصابتني بعض لعثمة في حديث حاولت به تبديد حرجي. ثم وبكلمة مني وأخرى منها وجدتني قد دلفت في الثرثرة والحديث..كانت أسئلتها متلاحقة إلا أنها كانت شجية بددت بعض جوانب كآبتي والحرج الذي تلاشى مع الثرثرة التي سالت. فحدثتها عن بلدي وحال بلدي وأهل بلدي، قلت لها نحن قوم لا حول لنا ولا قوة بما تملكون وما تسعون لامتلاكه، قلت لها نحن قوم ليس لنا ما ندخره لأعادى الزمن سوى الأحلام والفرح المباغت، قلت لها أن ديارنا واسعة بما لا يطاق، ولكننا نتجشم عناء التطواف بدياركم حفظاً لماء الوجه من ذوى القربى أولاً، ولكي نبالغ في لملمة المشاعر وسد المنافذ دون مجيء الأسف ثانياً، قلت لها أن طقس بلادكم يوحى بكثير كآبة ويزيد من جراح الوحشة والمنافي، قلت لها جميلة هي القطة التي تسكن في حجرها. وفجأة وجدتني أتحدث عن غياب جليستي الذي روعني تماماً وأرهقني تماماً.

: أوه.. حقاً؟ وأين تكون قد ذهبت يا ترى؟ إنني حقاً أتعاطف مع أحاسيسك الصادقة هذه.. لبتني فعلت شيئاً من أجلك يا عزيزي البائس لو أستطيع.

: آه.. أشكر لك جميل عطفك أيتها العمة الرقيقة..أنت حقاً امرأة رائعة. ولكن من أين لي أن أعلم أين هي الآن ؟ ثلاثة أشهر كاملة مضت منذ أن فقدتها.

: هيا حدثني عنها قليلاً.. قد يريحك هذا على نحو ما!.

فرنت لي بعينين وكأن بهما تعبٌ شديدٌ. وبنظرات كأنها تعاين أعماقي كانت تنتظر الحديث.. كانت نظراتها كأن بها بعض أسى دفين، ولهما محيا كأنه شحن أطياف لوعة كأبلغ ما يكون عليه المحيا حينما يحمل مثل هذا العبء.. كانت نظراتها تعاين أعماقي وتنتظر الحديث.. قذفت بعقب السيجارة الثامنة على صفحة البحيرة الراكدة.. فانداحت دوائر الذكرى وحركت الشجن.

: قد أحتمل ذهابها العابر كمجيئها، رغماً عن أنه أوغل عميقاً في الفؤاد.. ولكن لا تتصوري أيتها العمة الرقيقة كم تهيج مهجتي بعبقها الذي طبعته على وسادتي وفراشي وداخل شقتي وكل الأمكنة التي مشيناها سوياً، أو تعلمين.. يقول بعض حكماء أهلي: رحم الله أمريء توقع حرقة العشق .. فاجتنبه. قد أحتمل غيابها.. إلا أن تلك الرائحة.. ثلاثة أشهر مرت منذ أن اٍختفت تلك الشقية. وكأن الأرض قد اٍنشقت وابتلعتها دفعة واحدة، تصوري بنفس سرعة قدومها في ذات المكان الذي نجلس عليه الآن, كان هذا الاٍختفاء المثير للعجب. تعبت بدوري من البحث عنها, عاينت كل الأمكنة التي اعتادت الذهاب إليها.. سألت عنها كل الذين كنت أعتقد أن لهم بها صلة ما.. وهنا اكتشفت أمراً عن سيرتها أثار مزيد دهشتي.

توثبت نظرات العمة، إلا أنها اٍستدركت سريعاً، وكمن يتصنع بروداً عادياً تفضحه خلجات الشفاة المعبرة عن توتر تود إخفاءه سألتني مستفسرة.

: لاشئ سوى أنه فى بحثي الدائم عنها اٍكتشفت أن الذين سألتهم عنها كانوا عابري سبيل في حياتها.. كما في حياتهم، تصوري، لا أحد هنا يعلم عنها شيئاً البتة، وهو الأمر المثير للعجب بالنسبة لي، مع أنها حكت أنها من بنات هذه المنطقة وتسكن فيها، وبدوري لم أنتبه مطلقاً لتسجيل عنوانها البريدي أو رقم هاتفها.. بل هي التي اعتادت مخابرتي وهى التي اعتادت المجيء إلى شقتي، وهى التي اعتادت تحديد الأماكن التي نلتقي فيها والأماكن التي نمشيها، بل هى التى تحدد إلى أي وقت نمكث في تلك ألأمكنة، إلى نهاية البرنامج اٍن كان بها بعض مزاج - وهو الأمر النادر الحدوث - أو تنهض فجأة مقررة العودة لشقتي أو أي مكان آخر. كان يسكنها مزاج يفور حيناً طويلاً ويهدأ قليلاً، اٍنه حقاً لأمر عجيب.. أليس كذلك أيتها العمة الرقيقة ؟ .. بحق السماء أين تكون قد ذهبت ؟ .

ثم أصمت رويداً وأنا أنقل بصري لبرهة متابعاً حركة طيور النوى على الأشجار وانسيابها على صفحة السماء، وريثما أشعل سيجارة أخرى لا ألبث أن أعود للحديث عن جليستي التي غابت.

تلك الشقية كانت تعرف كيف تنسج وقتها الذي قررت أن تمضيه، كانت تنسجه بأصابع رخامية فيها رقة وانسياب، كان بريق عينيها وكأنه يختلط بلظى متعثرة.. أقول لها ونحن نتسامر على الفراش أن لها صدرٌ ربيعيٌ يشابه القمم والوديان، تقول لي:- إياك والسباحة عبر تياري، أقول لها أن لعينيها نداءٌ خافت كلما عاينتهما يجف عشب بوحي فوق راحة لساني، فتضحك ببهجة حميمة، تقول لي:- فناري بعيد وتياري جامح أكثر مما تتحمله جوانحك، أواصل فيها دونما اٍكتراث فأقول لها منتشياً :- واٍن اٍمتزجت روحي بروحك.. تنظر نحوي بعينين متألقتين وتقول :- هذان أمران لا يلتقيان.. فمثلي جامح وقد لا أستقر فيك يا هذا.. حيث فناري بعيد.

تلك الشيطانة المجنونة حتى درجة العذوبة.. من أين أتت لي لا أعلم .. الجامحة كمهرة شُدت من لجامها. خطفت أوقاتي وبددت أيامي وسحبتني من شجوني، فتركت من أجلها قاعات الدرس وأهملت همومي ودقات قلبي، فطفقت أمسي وأصبح بها. عرفتني على مجتمعات ما خطرت على بالي، وجرجرتني إلى أمكنة ما كنت أتصور أنني سأغشاها، وعلى بشر لا يجمعهم جامع. نساء مدن بديعات، موظفون مغمورون, تشكيليون فوضويون، مخمورون وبائعو سلع هامشية، عمال سكك حديدية، سينمائيون وشعراء وكتاب أعمدة صحفية، عاطلون ونشالون، طالبات مراحل دراسية مدمنات للمخدرات والبهجة, بائعات هوى على الأزقة الضيقة وزهور على محطات المترو وعلب الليل، تجرجر بعضهم إلى شقتي دون اٍستئذان فى كل الأوقات, وأقضي الأوقات معهم في الملاهي الليلية والرحلات الخلوية، أرغمتني على تعاطي الخمور وإدمان المخدرات بكل أنواعها، فسرت فيها إرضاء لها، كانت شرهة في المخدرات.. تبيع أغلى ما تملك وأملك للحصول عليها.. وكانت شرهة في تعاطيها.. وكانت شرهة أيضاً في الجدل حينما يكون بها بعض مزاج - وهو الأمر النادر الحدوث - نخبة عظيمة لا يجمعها جامع عرفتني بهم، وكانت بالنسبة لهم كمن اٍمتلك سر الكون، مع أنها ما تعدت سنوات المراهقة إلا بقليل، كانوا عندما تتحدث يصغون باهتمام فائق، وكانت في آرائها التي تطرحها دون أن تكون صائبة، لا تخفى نبرة الاٍزدراء والسخرية منهم، كانت شرهة في إغاظة الآخرين، ولذا كانوا يهابونها، أما أنا فقد كنت حقاً أهابها، ولكن لامر يختلف تماماً، كانت تجادل في كل شيء.. الراب ميوزيك وأغنيات جون لينون وبوب مارلي وماريا كير.. غجر الشرق وشهود يهوا.. طبقة الأوزون التي قالت أنها تتفتح كزهرة اللوتس الصينية.. بيلا بارتوك وجورج لوكاتش.. ياسر عرفات ومدينته (الفاضلة).. جنرالات العلم الثالث الذين قالت أنهم ينهضون من متاهاتهم كالعنقاء من الرماد.. أفلام فيلينى والباتشينو وشحوب السينما على وجه هوليوود.. روايات كامارا لاي وأناشيد الفراعنة تهليلاً للنيل والإله حابي.. سخريتها من مراسم الأتراح عند أهلي.. الجنس والجينز.. الكوكايين والكولا.. أفضل الطرق لاعتقال رحيق الحشيش في الخيال لأطول فترة ممكنة.. أغاني النصر..طرق صنع البيتزا الإيطالية.. كانت تجادل في كل شيء إن كان بها مزاج, وأقسم أنني لم أشهد لها قط مطالعتها لكتاب أو مقال ، بل حتى ليست لها قدرة عادية ولا حتى أي صبر للاستماع لمذياع أو مشاهدة تلفاز، من أين لها هذا الإلمام الموسوعي بمثل كل تلك الموضوعات , لا علم لي، فالمخدرات أولاً والمخدرات ثانياً، وأما في أغلب الأحيان فاٍن متعتها التالية هي الصمت المطبق والتحديق المبهم بتلك العينين المتألقتين والأهداب الفاترة.

لم تعلق العمة بأية كلمة حول كل الذي سردته .. وكأني بها غابت في صمتها مع بقايا ذكريات مبعثرة يبدو أنها تداعت، كان محياها وكأنه شحن أطياف لوعة، كانت نظراتها وكأنها مبعثرة ما بين أعماقي وأعماقها.

كان الطقس يوحى بكثير كآبة ويزيد من جراح الوحشة والمنافي.. كان الطقس يشحن العظام بالصقيع والأفكار بالأسى.. ثم لم تعلق العمة الرقيقة.. إلا أنها زفرت بآهة عميقة خلتها تخرج من خبايا صدرها، وما أبدت أي تعبير أستشف منه أن لها رغبة في حديث، رغماً عن محاولاتي الودودة لسبر غورها علني أكتشف سر المزاج الذي مال فجأة وفصل بيني وبينها, إلا أنني فشلت فلملمت بمودة بقايا ثرثرتي وطفقت أتابع الصمت الذي أطبق على المكان.

: الجرعات الزائدة وضح فيما بعد أنها لم تكن بفعل أي صدفة .. إنما تم ذلك بقصد الانتحار .

بغتة ألقت علي بهذه الكلمات, حتى إنني لم أنتبه مطلقاً لأول وهلة أن الأمر يعنيني في شيء فالتفت إليها معتذراً بلباقة فائقة عن عدم اًنتباهي لما قالت، لم تكن تنظر قبالتي، وكانت صفحة وجهها تنم عن شحوب ظهر للعيان أكثر من ذي قبل، حتى أن الأسى حول محاجر عينيها قد طاف وسال بكثافة لا تخطئها العين، ثم كررت لي- دون أن تنظر قبالتي- ما ذكرته .. أحسست أن خفقات قلبي التي زادت عندما رأيت العمة تدلف نحو صحن الحديقة عادت تتسارع.. مكثت لبرهة أنظر نحو العمة محاولاً لملمة أحاسيسي المبعثرة أصلاً.. سألتها ولا أعلم كيف خرج السؤال من بين لعثمتي المرتجفة.

: جاءوا لي بنتيجة التشريح وأنا في صالة الانتظار بالمستشفى.

: ................؟!

: الفحص أثبت مادة الكوكايين التي استنشقتها المسكينة بكميات مهولة.

: ..................؟!

: دفناها في الأسبوع الأول من اٍختفائها الذي تتحدث عنه الآن في مقبرة العائلة بين والدها وجدتها.



مكثت صامتاً أنظر إليها محاولاً لملمة أفكاري التي تناثرت حول المكان، كانت نظراتي مبعثرة بين العمة التي بانت لي لوعتها تماماً وبين قطتها السيامية الساكنة على حجرها وبين اٍلتياع أعماقي، ثم ألم بنا الصمت الكئيب, أنا والعمة الرقيقة والسيامية التي ما انتبهت إلى روحها الكفيفة اٍلا اللحظة. بعد فترة حسبتها فيما بعد فوجدت أنها قاربت الساعة اٍلا قليلاً، نهضت العمة تعالج أزرار معطفها الشتوي .. امرأة تطرق أول أبواب الشيخوخة .. أصيلة الملامح.. فارعة بقوام ينساب بوقار مع هيبتها.. كانت متشحة بسواد ما انتبهت إليه حين حضورها.. اٍحتضنت السيامية الكفيفة بحنو أقرب لهدهدة الرضيع.. فأسلمت الكفيفة نفسها للحضن الرقيق.. ثم غادرت العمة صامتة دون تحية.. بل دون أن تلتفت نحوي.. مكثت أتابع خطواتها بين أشجار الحديقة نحو معبر الخروج.. تحت طقس غائم وبقايا أمطار مزعجة على الأرض المبتلة .

نهضت أنا الآخر بعد برهة أعالج هندامي.. أشعلت تبغاً رخيصاً .. دسست يدي فى جيوب معطفي الشتوي.. رفعت رأسي نحو قبة السماء متأملاً حركة طيور النوى وهى تنساب.. أطرقت متوجهاً نحو معبر الخروج والطريق يلعق قدمي.

كان الطقس يوحى بكثير كآبة ويزيد من جراح الوحشة والمنافي، وسيما أنا في فصل لا هو من فصول البلاد التي أعرف، فيبلل المساكن بروائح الذكرى والقلوب بدعاش الشجن، ولا هو من الفصول التي أحتمل فيها لملمة المشاعر وسد المنافذ دون مجيء الأسف. خرجت من الحديقة إلى الطريق الذي استقبلني مشبعاً حقاً برائحة أنفاسها العبقة.

بودابست أواسط 1995



©

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى