ثقافة شعبية مقدمة ديوان الشيخ عبد العزيز المغراوي - إشراف و تقديم الأستاذ عباس الجراري.. عضو أكاديمية المملكة المغربية

الرباط 2008

بسم الله الرحمن الرحيم

إن كل متتبع للتراث الشعري العربي – قديمه وحديثه – لا يلبث أن يلاحظ أن "الملحون" يمثل أحد الأشكال التي تفنن المغاربة في إبداعها – ولا يزالون – متوسلين بلغة غير معربَة، وإن كانت في معجمها "العامي" تحاول أن تبتعد قليلاً عن اللسان الدارج المتداول، وأن تقتبس بعض ما يجعلها تقترب من اللغة المدرسية ؛ مع التصرف في الصيغ واعتماد جوانب بلاغية، والارتقاء بفنية الأسلوب.

ونرجح أن يكون سبب هذه التسمية راجعاً إلى "اللحن" بمعنى الخلو من الإعراب أو عدم الالتزام به، وليس بمعناه الدال على التنغيم للتغني والتطريب، كما سنبين فيما بعد لدا الحديث عن الطريقة التي كان يؤدى بها لأول نشأته.

وقد أطلقت على هذا الفن أسماء كثيرة دالة في معظمها على جانبه الإبداعي، مثل "الموهوب" و "السّْجية" و "الشـعـر" و "النظـم أو النّْظام" و "القريض" و "لوزان" و "اللّْغا" و "العلم الرقيق" و "الـﮔريحة". ولعل أبرزها جميعاً مصطلح "لَكْلام" الدال بقوة على عدم التَّغني، لا سيما حين يميز بينه وبين مصطلح "الآلة" الذي يقصد به التوقيع اللحني المصاحب بالآلات الموسيقية أو "لمَّاعن"، والذي ارتبطت تسميته بالموسيقى الأندلسية التي تشكل مع الملحون أبرز الأجناس الفنية بالمغرب.

كما نرجح أن تكون الأُصول التي انطلق منها هي الأغاني والمرددات الشعبية المحلية، وإن تأثر فيما بعد – وهو يطور نفسه – بالأزجال والموشحات الأندلسية، وكذا بالقصيدة العربية، وبشعر العرب الوافدين إلى المغرب، ثم بـ "عروض البلد" الذي ظهر في الأمصار ؛ وهو قريب من الموشح.

وإذا كنا نربط "الملحون" بالأزجال، فلاعتبارنا أن الزجل في أصل استعماله الأدبي يطلق على الشعر الشعبي، قبل أن يرتبط بما أنتجه أبو بكر بن قزمان من أزجال أندلسية. وغير خاف أنه عاد اليوم ليطلق عند العرب على كل شعر يبدع باللغة العامية، ولا سيما مقطوعاته القصيرة القابلة للتلحين والغناء ؛ إلى جانب احتفاظه بمدلوله الأندلسي. وغير خاف كذلك أن المغاربة وضعوا لشعرهم تسميات كثيرة هي التي أشرنا إليها، ومن بينها "الملحون". على أني يوم كتبت أطروحتي عن هذا الفن جعلت لها عنواناً رئيسياً هو "الزجل في المغرب"، ثم عنواناً فرعياً هو "القصيدة"، على اعتبار أن الزجل في مفهومه الذي شرحت يبقى أوسع وأشمل.

** ** **

في هذه الفترات المبكرة يشار إلى شعراء كابن غرلة، وعبد المومن الموحدي، وأخته رميلة، وميمون بن خبازة، ومحمد بن حسون، وابن سبعين، وابن شجاع التازي، والكفيف الزرهوني، والمنصور الأعمى.

ولعل أقدم شيخ معروف عند حفاظ الملحون هو مولاي الشاد الذي عاش في القرن التاسع الهجري بتافيلالت، حيث ظهر بنمط شعري عرف يومئذ بـ"كانْ حتى كانْ". وهي تسمية معبرة عن تداوله الشفوي كأحد فنون القول، مع الإشارة إلى أن الكتابة جاءت متأخرة على يد غير العوام. وذلكم ما يزيد في توضيح التسمية بـ"لَكْلام" الواردة قبل.

ولتقديم نموذج لنظم هذا الشاعر، نسوق الأبيات التالية:

لا تْقولوشي يا حسْرا اعْلى ازْمان = الخير والشر افْكُل ازْمان كايْنين
مـا حـدّْ اكْتـاب الله فالصّْـدور = اعْــلاه نبكــيوْا اعـــلاه
ما قاطْعِين يـاسْ من رحمـة الله = واحبيبنا الشـافـع رسـول الله

عة هذا "الكلام"، فقد وقع الاهتمام بمن يحفظه ليسرده في الزوايا والمساجد ؛ وكان يطلق عليه "الحفَّاظ". ولإبراز أهميته شاع عند المعتنين أن "السَّجَّاي تَيَوْلَدْ والحفَّاظ تَيْرَبِّي" ؛ أي أن الشاعر يلد والحفاظ يربي.

وعلى الرغم من أن هذه القراءة كانت تقوم على السَّرد أو "السّْرادة"، فإنها لم تكن تخلو من التمطيط والضغط على الحروف، مما يعطيها بعض التوقيع. ثم لم تلبث هذه المرحلة أن أفضت إلى الإنشاد المنغم والموقع، فأُطلق على المنشد "شيخ لـﮔريحة" و "شيخ النّْشاد"، موازاة مع "شيخ السّْيجة" و "شيخ النّْظام"، والمقصود بهما الشاعر

وقد ارتبط الإنشاد في هذه الفترة بالنقر على "التّْعريجة" أو "لَـﮔْوال"، ثم لم يلبث في مرحلة لاحقة أن غدا يُصاحَب بالعزف على الآلات الموسيقية. وذلكم بعد أن تطورت مضامين الملحون ولم تعد مقتصرة على المواعظ، ومسها تنوع كبير كان الغزل في طليعته ؛ وكذا بعد أن عُرفت "نوبات الآلة" التي وفدت من الأندلس، بحكم التواصل الذي كان للمغرب معها على عهد الوحدة، ثم على إثر الهجرات التي توجهت إليه بعد عملية الاسترجاع.

وهكذا ظهر ما أُطلِق عليه "لوزان" الذي كان من أوائل نصوصه – إن لم يكن أولها – ما صدر عن عبد الله بن احساين الذي ينتمي كسابقه إلى تافيلالت وإلى القرن نفسه. وقد جاءت فيه الإشارة إلى "لوزان" و "كان حتى كان"، وكذا إلى تسميات أخرى. وفيه يقول:

نبدا باسم الله انْظامي يا للِّي ابْغا "لـوزان"
لوزان خِير لي أنايا من قُول "كان حتى كان"
ربي الْهمني نمدح خِير لشْـراف يا لَخْوان
بـ"الشعر السّْليس" الفايز هو ايْكون لي عوَّان
حتى انْقول ما قالوا عشاق النّْبي افكل ازْمان
وانْكون "افْلَقريض الملحون" أنا المادْحو حسَّان
مدَّاح مادْحو بَلْساني والشـوق له مَن لَكْنان
والمادْحُو ابْقلب اكْنانو يرضاه ما عْيَا بلْسـان

ويبدو أن نص الملحون بدأ يكتمل ليأخذ شكل "القصيدة" أو "لقْصيدْ"، وتجمع على "اقْصايد" و"قصْدان".

هذا وقد جاء نص ابن احساين غنياً بملامح التطور الذي عرفه الملحون على يده. وهي ملامح سرعان ما أصبحت تقاليد يسلكها جميع شعراء الملحون. وتتمثل في البسملة التي استهل بها، ثم في التصريح بالاسم والمكان، على حد قوله في آخر مقطوعته:

واسْمى افْلامْتي عبد الله بن احساين الـوَزَّان
أَسايْلين عِنِّي فاضْرَا عاصي ومعدن النقصان

وهو في الختام يؤرخ لقصيدته، في فخر بنفسه وهجاء خصومه بأنهم مجرد تلاميذ له، وهو مُعلمهم وفقيههم:

تارِيخ حلّْتي "رحْل" عدَّ ازْمانها افكل ازْمان

والقايلين ﮔـاع "امحضْرا" ونَا فْقيههم وزَّان

وواضح وفق حساب الجمل، أن التاريخ هو ثلاثون وثمانمائة، إذ الراء بمائتين، والحاء بستمائة، واللام بثلاثين.

وما كان له أن يختم قبل أن يهدي السلام والتصلية على هذا النحو:
واتْمام ما نْظمت الْسيدي من ذا العْقيق والعقيان
حلاَّ امْوَصّْلاَ للمـاحي ما ناح طير علْ لَغْصان
واسْلام ربّْنا للشّـرفا اوْهَـل لَهْدَا افكلّ امْكان
والناظمين عن "ميزاني" واللِّي ايْزيد لُو "ميزان"

وإذا كان ابن احساين قد سبق بهذا النص إلى النظم على البحر "المثنى" الذي هو شبيه بما عليه البيت في الشعر العربي القائم على الصدر والعجز، أو ما أطلق عليه أشياخ الملحون: "الفراش" و "الغطا"، فإنه لم يلبث أن نظم على بحر يكون البيت فيه مكونا من ثلاثة أشطار، وفق ما جاءت عليه قصيدته "اللقمانية" التي يقول في أولها:

يا راسِي نوصِيك كيف وصَّى ولْدُو لقمان
وانْتَ تَصْغَا كِيف ما صْغا ولْدُو لَبْيانِي
واتْوَصِّى بوصايْتي المرْوِيا قوم اخْرين

** ** **

من هنا فُتح الباب للعديد من الأوزان التي قال فيها تلاميذه ومن جاء بعدَهم، من الذين طوروا الأداء كما طوروا المضامين، على حد ما سنرى بعد. وكان تلميذه الحاج اعْمارة قد وضع أسهل أوزان "المثنى" في قصيدة "الحجة" التي يقول في حربتها:

يا لْحضْرا قُولُوا بالسَّر ولَجْهار = الصّْلا والسَّلام اعْلى النبي المختار

وهو ميزان أطلقوا عليه "لَمْشَرْﮔِـي" أي المشرقي، إيحاءً بموضوع القصيدة الذي هو الحج إلى البقاع المقدسة في المشرق. كما أطلقوا عليه "لحْويَّط لْقصير" باعتباره أسهل أوزان المثنى. وهي تسمية شبيهة بما يوصف به الرجز الذي يسمى "حِمار الشعراء".

وفي هذا التوجه التطوري، كان ابنه وتلميذه محمد بن عبد الله بن احساين سباقا إلى النظم على البحر الرباعي (المربوع)، والخماسي (خامَسْ لشْطار).

فعلى الرباعي جاءت قصيدته المدحية التي أولها:
صلَّى الله امْع امْلايْكو علْ لَحْبيب العساري
وامَرْ هـلْ لِيـمـان افلبْشـر
بصلاة الهادي امْع اسْلامو فَايَات اسْوارُو
صلــى الله اعْليـه وافْـرا

وعلى الخماسي نظم قصيدة "طامو" التي "حربتها" أي لازمتها التي واضح فيها ما لجأ إليه من جناس "تجنيس" أداره على اسم محبوبته:

قالت يَمَّا اتْقول طَامُو قلت وأَبيك يَا لطَّـام
يا قدّْ اعْلام فاللّْطـام قالت تَرَا ايْقول طاما
تَاراتْ ايقول فاطما

وذكر "الحربة" – أي اللازمة التي بها تُعرف القصيدة – يستدعي الإشارة إلى الشاعر حماد الحمري الذي كان سباقا إليها، بحكم تقسيمه القصيدة إلى مقاطع تحتاج إلى أن يفرق بينها. وهو ما يتضح من "ربيعيته" التي تتكون من تسعة أقسام، والتي جاءت حربتها التي نكتفي بذكرها على هذا النحو:

الوردْ والزّْهر واغْصانو واشْجار باسْقا واطْيار
ايْسبّْحو النعْم الغنِي والْما افْقلبْ كل اغْدير

وكان لا بد لمثل هذا التطوير أن يصاحبه وضع مصطلحات دالّة. فبالإضافة إلى "التبييت" و "الفراش" و "الغطا" التي سبقت الإشارة إليها، فإنهم أطلقوا "الميزان" على البحر، و "القياس" على الوزن، و "الحرف" على القافية، و "الصّْروف" على التفعيلة.

ورغبة في تحديد هذه "الصّْروف" فقد ظهرت محاولتان:

الأولى نادى بها عبد العزيز المغراوي الذي هو صاحب هذا الديوان الذي نحن بصدد التقديم له. وهو كذلك من تافيلالت، وينتمي للقرن الحادي عشر الهجري. وكان لمكانته المتميزة ينعت بـ "شيخ لشياخ"، و "شجرة لكلام". وتقوم محاولته في ضبط التفعيلة على "الدندنة" أي "دانْ دانِي" باعتبارها مقياساً موسيقياً يقوم على الإيقاع لضبط التفعيلة، وفق ما يمكن تطبيقه على "حربة" قصيدة "المزيان" لقدور العلمي:

حَنّْ واشْفق واعْطَفْ بَرْضاك يا لمزيان
لا اسْماحَا ميعادَ الله يَا لهاجَـر
دانْ دانِي يـا دانِي دانْ دانْ يـا دَانْ
دانْ داني يا داني دانْ دانْ داني

والثانية دعا إليها المصمودي الذي هو من القرن نفسه، وكان يعيش بعد المغراوي بقليل، ويعتبر عميد الفن بعده، إلى حد قيل: "المغراوي شجرة لكلام والمصمودي فرع من فروعها". وتقوم دعوته على "مالي مالي ..." التي نمثل بتطبيقها على هذا البيت من "وردة" ابن سليمان:

لا تْلوموني في ذا الحالْ جِيتْ نَشْهدَه وانْوَدِّي
يا عْدُولي فالموت اسْبابي خدّْ الوَرْدا(1)
لَلاَّ يـا مُـولاتـي لَلاَّ ويَا مـالِي مـالِي
للاَّ يا مُـولاتـي للاَّ ويَا مالي مالـي

** ** **

في سياق هذه المحاولات التقنية – وهي ما تزال في بدايتها – لم يكن مستغرباً أن يظهر من يرفض قيود الوزن والقافية. وذلكم ما قام به ادريس لمريني الذي كان معاصراً لمحمد ابن احساين، إذ قال في أبيات تكشف ثورته الواضحة على هذه القيود:

أنا ابْغيت نَنظَم و "الحرف" ابْدا ايْغور
اعْلاه ما يْكون الشعر ابْلا "حرف"
غير حسّْ اوقُول الكَلْمات
ولوْدَن تسمعْ ما قلْتِي
ولقلوبْ اتْغنِّي بَغْناك

______________________

(1) أو: خال افْوَرْدَا
تَابْعا تلْديد المعنى
ولا اعْنات ابْشي "قافيات"
...
لاشْ نحبَسْ فكْري فـ"الحرف"
ونحبس عقلي فـ: "التبييت"
ولفْكار اتْماثَل لَطْيور
ما رْضات اقْفر من "لَبْيات"
جايب اسْلُوكو من "لحروف"
والرّْكايَزْ من "لقْياسات"

ومع ذلك، فقد استمر تطوير الأوزان والبحور على يد شعراء كبار، ومنهم الجيلالي امتيرد الفيلالي الأصل، وكان يعيش في أواخر القرن الثاني عشر الهجري وأوائل الثالث عشر. ولمكانته أطلق عليه "الفـاكْية د الشّْياخ" أي فاكهتهم، و "عرصَتْ لشياخ" أي روضهم. وقامت محاولته التطويرية على جعل "فراش" البيت أطول من "الغطاء". وهو ما جاءت عليه قصيدته "الساقي" التي حربتها:

ألسَّاقي وﮔَّضْ لَرْيام ردّْ بالك النُّوبا لا تْغيب عن مُولاها
كبّْ يالساقي راح اللِّيل

ولم يكتف امتيرد بذلك، إذ أضاف بحراً جديداً أطلق عليه "السوسي" برز به في قصيدته "الحرَّاز" التي حربتها:

حرَّاز لَلاََّ لَرْسَامُو جِيتُو انْصيبْ قَلْبُو نَصْراني
كيف عارْفُو ما زال

وفي هذا البحر الذي يعرف عند بعض الأشياخ بـ"المزلوﮒ"، ومعناه الخيط الرقيق، تتكون القصيدة من أقسام، كل قسم منها يشتمل على:

1) بيت من شطرين
2) أشطار مرسلة
3) بيتين
4) حربة على قياسهما

وتتجلى ميزة هذا البحر في أنه مناسب للقصائد الحوارية.

** ** **

ومن التطورات التي عرفتها القصيدة الملحونة كذلك، ظهور بحرين جديدين:

أولهما: "مكسور الجناح"، وقد سبق إليه محمد بن علي العمراني المكنى "ولد ارزين"، الذي ولد بتافيلالت، ثم انتقل إلى فاس للدراسة والإقامة حتى غدا أعظم شعرائها، ولقب بـ "المعلم" قبل وفاته سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف للهجرة، الموافقة عام اثنين وعشرين وثمانمائة وألف للميلاد، وقد تجاوز الثمانين.

وتتكون القصيدة في هذا البحر من أقسام، كل منها يشتمل على ثلاثة أجزاء:

1) الدخول، وهو شطر يتيم، منه كانت التسمية
2) مجموعة أشطار حرة أطلقوا عليها "لَمْطِيلْعَات" أو "لَكْراسا"
3) البيت، ويكون على قياس "الحربة".

ومن الأمثلة عليه قصيدته الشهيرة بـ "المزيان" ؛ ونكتفي بذكر حربتها التي تقول:

لِيَا قال المزيـان
وَصَّفْ هذا الحسن يا للِّي تهواني
قلت يا دابَل لَشْفار
توصَافـك لا يحْصـار

والثاني: بحر "المشتب" الذي يتكون القسم فيه من بيت يفصل بين أول أشطاره وبقيتها بمجموعة من الأشطار "لمطيلعات"، وكأن البيت مَحشُوٌّ بها ؛ إذ الشتب هو الحشو. وكمثال عليه، نسوق هذا القسم من قصيدة "التوبة" لأحد تلاميذ ابن علي، وهو محمد بن سليمان الفاسي الذي اشتهر بالتعبير عن معاناة المرض الذي عجل بوفاته. وفيه يقول:

أول البيت: ما فيها ما يبقى
لمطيلعات: غِير نَعْم الباقي
يا غْفيلْ مَا لكْ شاقي
لاَيَنْ تَاتْزيدْ احْماقِي
وِينْ مَن غَرَّتهم بالمال والنصر
ما فازوا غير ابْلقْبَر
ما نْفعهم فيها تَدبيرْ
آسْعادتْ مَنْ دَار الخير
نالْ سلْوان
واعْليه ما صْعاب هَانْ

بقية البيت:
وَانْتَ ارْمِتْنِي لَهْلاكي في ذ الاسْواق
نَلْحقْها مَخْليَّا
اوْلا وجدت اعمارا

وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الأشياخ لا يعتبرون "المشتب" ولا تروقهم حتى تسميته، ويرون أنه لا بحر بعد "المبيت" إلا "السوسي" و "مكسور الجناح".

والحق أنه بهذا النوع من التطور في البحور والأوزان، مما لم يعرفه الشعر المعرب، كثرت القصائد حتى قيل إن "الحافظ لألف وزن فشلان"، مثلما قيل عن "صاحب ألف وزن ليس بزجال".

** ** **

وقد رافق هذا التطور تطور آخر تجلى في أساليب التفنن في التعبير، في نظر إلى ما هو معروف في الأدب العربي ومحاولة محاكاته. ونشير منها إلى ما يلي:

أولاً: "التجنيس" أي الجناس. وقد برع فيه أحمد الـﮔندوز الرباطي الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري، وامتد به العمر حتى أوائل الرابع عشر. يتضح ذلك من قصيدته "غاسق لنجال" التي يقول في أول أقسامها:

بَجْفاك عمْدَا لي عدت انْحيل
ما شْفك تَعذابي اوْلا امْحاني
سيف لجْفَا امْحانِي
لَعْبَادْ لاَمْحانِي

فامحاني الأولى جمع محنة، والثانية من المحو، والثالثة من اللمح.

وقد اشتهر كذلك في النظم على أسلوب "التضمين" الذي سنشير إليه بعد، حتى اعتبر عند الأشياخ "رايَس التضمين والتجنيس".

ثانياً: "التضمين" أو "التلزيم"، والمقصود به لزوم ما لا يلزم. وقد ذاع فيه إلى جانب الـﮔندوز، صيت الشاعر الفاسي أحمد الغرابلي المتوفى عام أربعين وثلاثمائة وألف للهجرة ؛ على نحو ما تكشف قصيدته "مـالكة" التي التزم فيها حرفي الكاف واللام ؛ وفي حربتها يقول:

أرَايَتْ لَمْلاَكا
يا مولاتي المالْكَا
لِك العبد او كُلّْ ما مْلَكْ
انت مالِكة احمايَتْ الملك

ثالثاً: "النشب"، ويقضى باستهلال البيت بكلمة أو شطر من البيت السابق، ويطلق على الأجزاء المنشوبة: "لَمْطَارش". وقد يتم ذلك مباشرة على حد قول أحمد الغرابلي في قصيدته "عين الرحمة" التي منها قوله:

أَعِين الرَّحْمـا الـرَّاحْمَا يا قرَّت لَنْيَام
يا قرَّت لنْيام جُدْ لي يا بحر التعظيـم
يا بحر التعظيم والفَضْل يا عين الرحْما

وقد يكون بين كلمتين أو شطرين على شكل غير مباشر، كما في "فَارْحا" للتهامي المدغري الذي يعد عميد شعراء الملحون. وفي ثاني أقسامها يقول:

رَفْدِي يا للاَّ الطَّايَــحْ = بهْواك اعْيَا ابْقُولت أَحْ
ما بين الهِيضْ والنُّواح = سَرُّو بِينْ لَحْسُودْ بَايَحْ
ﮔُـدَّامَكْ يَـا الْمالْحَا
سَرُّو بِين لَحسودْ بَايَـحْ = يا كنْز الكنْز والرّْبـاح
يا رُوح الرُّوحْ والنّْجاح = يَا دَامِي فَالفْجوجْ سايَحْ
بِين ازْهارُو اللاَّقْحَا
يَا دَامِي فَالفْجوجْ سايح = كَمَّنْ مغْـرومْ بِك سـاحْ
حسّْ الخلخال به صاحْ = صاحَ الخلخال والدّْواوح
في تَحياحْ لَمْـﮔابْحَا

ولا شك أن قارئ هذا النص يلاحظ أنه جاء على قافية الحاء التي كان المدغري ولوعاً بها، إلى حد وصف بأنه "حَيَّاح الحا". وحين سئل عن ذلك أجاب بأن حرف الحاء هو أكثر الحروف تعبيراً عن المشاعر، لأن الإنسان إذا التذ قال "أَح"، وإذا تألم قال كذلك: "أَحْ".

وإلى جانب هذه الأساليب التي لجأ إليها أشياخ الملحون لتجميل شعرهم وتنميقه و "تزويقه" كما يقولون، فقد شاع عندهم استمداد القافية من موضوع القصيدة. فقصائد المحبوبات غالباً ما تكون قافيتها هي آخر حرف في أسمائهن ؛ وإن لم تكن كذلك فهي "صيَّادية".

كذلك تجنبوا حرف الهمزة في القافية، واعتبروا استعمالها "بَرْصاً". ولعل من بين القصائد القليلة التي جاءت كذلك، قصيدة للحاج الجيلالي الشبابي من سلا، قالها سنة خمس وستين وتسعمائة وألف، في تهنئة جلالة الملك المرحوم الحسن الثاني بميلاد سمو الأميرة للا أسماء ؛ وفي حربتها يقول:

بنْت اهمامْ الشعب سِيدْنا حسَن الأسماء
الأميرة أَسْماء
مُنَاي امْعَ ارْجَائِي
قُرة عِين احْبِيبْنا = وراحَتْ لَقْلوب امْلاَما

ومثلها قصائد لعبد الحميد العلوي وحسن اليعقوبي من سلا في نفس المناسبة.

ثم إنهم قسموا الكلام إلى مستويات جعلوها على هذا النحو:

1) "اكْلام بالَغ" = بليغ.
2) "اكْلام امْرصَّع" = مرصع ومنمق وجميل.
3) "اكْلام ابْيض" = بسيط وواضح.
4) "اكْلام اكْحل" = غامض ومعقد وصعب.
5) "اكْلام امْسَلَّس" = مستقيم لا كسر في ميزانه.

كما أنهم اعتبروا استعمال الكلمات المعربة الفصيحة عيباً أطلقوا عليه "البرص".

بالإضافة إلى هذه التقنينات، فرقوا في السجية بين درجات ثلاثة:

1- "المنقول" ويتمثل في اعتماد الروايات الواردة في الكتب، على نحو ما يلجأ إليه في نظم المدائح النبوية.
2- "الهيض" ويعني وصف الواقع.
3- "الغيظ" ويتجلى في نقل الأحاسيس والانفعالات.

وفرقوا كذلك بين:

1- "السَّجَّاي" وهو الذي يقول شعراً فيه عواطف وأفكار.
2- "الوهْبي" وهو القادر على النظم بدون أحاسيس ولا أفكار.

كما فرقوا بين:

1- "السَّلاَّخ" وهو الذي يسطو على معاني غيره ويبدل الألفاظ.
2- "المسَّاخ" وهو الذي ينتحل شعر غيره ويحاول التغيير فيه.

وما كان لهذا التقنين وذاك التفنن أن يهمل أساليب الأداء، فاعتبروا براعة المنشد في أنه:

1- "ايْركَّب"، أي أن يأتي بقصيدة إثر قصيدة منشد آخر وعلى نفس ميزانها.
2- "ايْفَجَّج"، أي أن يستعرض عدة نغمات في قصيدة واحدة، وإلا فهو يغني "اعْلى جَنْب واحَد". أما من يتقنه فيقال إن ميزانه "انْفَق" وإلا فهو يأتي به "امْصوَّر".

** ** **

وللتوفيق بين الشعر من حيث هو لغة، وبين الأداء من حيث اعتماده على النغم واللحن، فإن المنشد قد يضطر إلى بعض التعديلات الصوتية في نطق الكلمات ؛ كما يضطر إلى إضافات لفظية لضبط الميزان، أطلقوا عليها: "التشحيرة" و "الترتيحة"، مما "يُشدُّ" به الميزان و "يقبض"، والذين يقومون به هم "الشَّدَّادَا".

ومثال ما يُشدُّ به الميزان قولهم:

يا سيدنا
أَسيدْنا أَسيدنا
يا للاَّ يا للاَّ
دادا امِّي أَللاَّ هْيَا لَلاَّ

فمثلاً في قصيدة "اعْشِيَّت الجمعا" للتهامي المدغري، تأتي الحربة وما يتخلل أشطارها لضبط الميزان على هذا النحو:

أنا اعِشيَّت الجَّمعا شاب اشبابي = يا للاَّ يا للاَّ
هلكتني عزْبا وشابَّــــــا = يا للاَّ يا للاَّ
مَن شاهَدهُم يَسْخَا بَشْبابـــو = يا للاَّ يا للاَّ

وزيادة في إضفاء جو نغمي على القصيدة وضبط ميزانها، جعلوا مقدمات لحنية أطلقوا عليها "السَّرَّابة"، وتجمع على "اسْرَارَب". وقالوا: "من لا يَوْزَن بسْرَارَبْ ميزانو يبقى عايَبْ". وهي عبارة عن قطعة قصيرة تكون في نفس البحر، وتتكون من:

1- أبيات تمهيدية تُسمى "الدّْخول".
2- "ناعورة" وهي أبيات قصيرة نادراً ما تكون أكثر من ثلاثة.
3- بقية الأبيات
4- "الرَّدْمَة" وهي الشطر الذي يختم به ؛ ويكون فاصلاً بين السرابة والقصيدة.

والسرابة من حيث إنشادها أنواع أربعة:

1) "المزلوﮒ" : وتكون رقيقة حادة.
2) "الـﮔبَّاحي" : وهي التي يصاحبها ضرب قوي ومتواصل بالأكف، وتكاد أغلب السرارب اليوم تكون من هذا النوع.
3) "الحَضَّاري" وتنشد في استرسال سريع.
4) "السَّماوي" وهي التي يستهل إنشادها ببطء كالموال، ثم يأخذ صوت المنشد في الارتفاع كأنه يصعد إلى السماء. ويطلق على هذا النوع كذلك "السرارب الحسناويين".

وقد ضعف نظم "السرابة" اليوم، إضافة إلى الخلط الذي يقع فيه المنشدون حين ينشدون "سرابة" قصيدة لغيرها، حتى ولو لم تكن منسجمة معها في الموضوع.

هذا ويلاحظ ضياع كثير من "السرارب"، كما يلاحظ نسبتها لغير أصحابها، أو إنشادها دون معرفتهم. وهو ما يطلق عليه "اسْراربْ احْراميين".

وأول من وصلتنا سراريبه، هو الشيخ الجيلالي امتيرد الذي سبق ذكره، ومن أشهرها:

اعلاش أَمحبوب خَاطْري تجفيني = أَلجافيني واعْـــلاش دالْجفــا

جِيتَكْ مَن خاطْري ولا ردِّتينـي = كاتْمنِّيني يا شَــــارَدْ لعْفَــا
خَالفْتِ فالقُول بـاشْ وعَدْتِنِــي = ولا وصلْت الْرسْمِي قَاسِيتْ ما كْفَا
قالت نـاس الشعر والقوافـــي = الزِّين ابْلاتِيهْ صُورتُـــو تعْداف
والخِير صاحْبُو يعرف

وكما قد يبدأون بـ "السرابة" فكذلك قد يجعلون "موَّالاً" أو "تمْويلة" يقدمون بها للقصيدة. وكمثال على ذلك، نسوق تمويلة لقصيدة ابن سليمان التي حربتها:

يا راسِــي لا تشْقَى
أَلتَّاعبْ لا بدّْ من لَفْراق
لا تَامَـنْ فالدنيــا
ابْناسْها غَــــرَّارا

وهذه هي التمويلة:

أَمَالي يا مالي
للا يا مولاتي للا
أمالي مَصْبَرنِي
أغْرايبي لاموني

ثم إنهم قد يختمون بـ "الدّْريدكة" التي هي - حين توجد – تتضمن ما يتضمنه القسم الأخير من القصيدة، على نحو ما سبقت الإشارة إليه.

ولم يكتفوا بهذا، بل زادوا فجعلوا مقدمات للأقسام أطلقوا عليها "انْواعَـر" و "اسْوِيرحات"، و "لكْراسا" و "العروبي". وهي غالباً ما يُبدأ بها في القسم الثاني، لأن الأول يبدأ بـ "الحربة". وهو ما لا نحتاج إلى تقديم نماذج له.

** ** **

ومع هذا التطوير الذي مس الشكل والأداء، عرف المضمون كذلك تطويراً واسعاً، وذلكم ابتداء من القرن التاسع الهجري على يد تلاميذ عبد الله ابن احساين المشار إليه قبل. فعنده كانت القصيدة مقصورة على المديح النبوي وما يرتبط به من حِكم وتصليات. ثم جاء تلميذه الحمري الذي سبق ذكره، فقال في الطبيعة قصيدته الربيعية.

واللافت للنظر أن تلميذاً آخر له هو محمد بن علي بوعمرو، سبق إلى غرض لم يكن يومئذ مسموحاً بتناوله، وهو الغزل، إذ أنشأ قصيدة "زهرة" التي أطلق عليه بسببها لقب "العاشق" ؛ وحربتها:
زُوريني قَبْل اللاَّ نقْبــار
يا هْلاَل الدَّارا زهــرا

إلا أنها أثارت ضجة كبرى عند خصومه الذين نعتوه بالزندقة، وطالبوا برجمه وصلبه وإحراقه. وفي ذلك قال معاصره لمْراني:

زَنْديق ابـن الزنديق اللِّي ايْردّْنـا فسَّـاق
يَسْتَاهل الرّْجِيم ابْلَحجَر حتى ايْموتْ بالتَّحقيق
وِيلا ايْموتْ يَتْصَلَّبْ عام وُبَعْد دَلّْتُو يُحْراق
وَنْشَتّـتُو ارْمَادُو ونْقول هكْذا ابْغَى لَعْشِيـق

إلا أنه استمر ينظم في الغزل، إذ أضاف قصيدة "عَبْلَة"، وحربتها:

ايلا اتْعذَّبْت اعْذابي من انْواجْلِي
وِيلانا هْنِيت واسْعَدْنِي حَالِي
اسْبَابي افْلَهْنَا اغْزالي عَبْلا

ومع ذلك، فما كان لهذا الغرض الذي ستكون له الصدارة فيما بعد، أن يزاحم المديح النبوي الذي أحرز كيانه في هذه المرحلة على يد الجيلالي امتيرد المتحدث عنه قبل، وربيبه الحاج محمد النجار، إلى حد لقب كل منهما بـ "مدَّاح النّْبي" ؛ ثم على يد تلميذ هذا الأخير، عبد القادر بوخْريص، وهو فيلالي، إلا أنه أقام في فاس.

ثم كان أن ظهرت موضوعات جديدة سبق إلى كثير منها محمد بن علي ولد ارزين الذي مر ذكره. وهي:

1- "السُّولان" أي الألغاز والمعميات التي منها القصيدة التي يقول في حربتها:

بَسْؤَالك اسْتفْخَر يا حفّاظـــي
اوْلا ابْحال اللِّي عَارْفين سُولان

وفيها يسأل عن ماهية الشعر والمواهب كيف تتسرب للنفوس، على هذا النحو:

واسْأَل مَن ادْعاو اعْلى علْم الشعر وَلَمْواهَبْ
واعْلى اشْمَنْ اسْبيل يدخل لَجْسَام
كان لهم فالخلق ارْسامْ
قسموه الفهَّام اقسام
مَن لا يدْريهْ لا يْقولْ شاعر فالقول ايْجِيب
واللِّي داخَل بحر لهْوا ابْجهلو يلقاه اصْعيب
إِلا مَنْ وَدُّو رّْبنا الوهَّاب
واللّي ادْعا اعْليك ابْجهلُو بَالْكَ تْسْتهابُو
ما جاب عوض سولاني
أَلُو أيْعيشْ ما عاشَ المرو ولا يجيب لوزان

2- السياسة، من خلال قصيدته "المصرية" التي تحدث فيها عن حملة نابليون على مصر، وهذه حربتها:

بَشَّار لَمْشَارَق جَانا حتّى اللَّمْغارَبْ
بَشَّر الإسلام بِينْ مَصْر ولاَّت الإّسلام
لِنـا اوْ لِـك يـا مـصــــر
وجبت لَبْشَارا اللاَّ كيفها ابْشَــــارا

كما أنه سار على نهج المغراوي في نظم الملاحم الطويلة، مثل قصيدة "الذرة" التي جاءت في ثلاثة وستين وخمسمائة بيت، وضمنها كثيراً من معارف عصره، وأولها:

يالسَّاهي مَن نُومَك فِق سبَّح الرَّبّْ
لِمْتَا وَانْتَ تَايَهْ افْلَغْرورْ لَوَّاب
الصّْلا والسَّلام اعْلى اخْيَار لَنْسَابْ
سيدنا محمد طه اشفيع لعْراب

وإلى جانب هذه التطورات، عرفت القصيدة مضامين ذاتية متميزة، كما عند ابن سليمان المشار إليه في قصيدته "الطبيب" التي حربتها:

الطّْبِيبْ يَعرَفْ دَايَا والدّْوَا سُومُو غَالِي
عَالْجُوني يَا ناسي لا نْمُوتْ مُوت الغَفْلا

وكذا في قصيدته "الوردة" وحربتها:

لا تْلُوموني في ذا الحالْ جِيتْ نَشْهَدْ وانْودِّي
يا عْدولِي فالمُوت اسْبابي خدّْ الوَرْدَا (أو خال افْورْدا)

كذلك سيعرف الملحون استعمال الرمز في قصائد يتأمل الشاعر فيها أحوال المجتمع، وينتهي إلى توقع أشياء فيما سُمِّي بـ "الجفريات". وقد برز فيها محمد بن قاسم العميري المكناسي المتوفى في منتصف القرن الثالث عشر الهجري، ومنها لاميته(2) التي يقول في حربتها:

ذاك الوَلْد المهْبُول أَصْلُو مَنْ أناضُول
الفَرْخ يَشْبَه اخْوالو

فعلى الرغم من أن الشاعر كان يعيش في عهد المولى عبد الرحمن الذي ولي عام ثمانية وثلاثين ومائتين وألف للهجرة، وتوفي سنة ست وسبعين ومائتين وألف، فقد بدا مضمون جفريته مطابقاً لما حدث بعد في عهد المولى عبد العزيز الذي دامت ولايته من إحدى عشرة وثلاثمائة وألف إلى اثنتين وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة، وكانت أمه تركية.

_______________________

(2) وتنسب هذه القصيدة لابن عبود السلاوي.

ومثله معاصره – تقريباً – محمد الموقت المراكشي الذي يبدو أنه كان معاصراً للعميري، والذي قال قصيدة ظهر وكأنه فيها يتنبأ بدخول الحماية عام ثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة، الموافق سنة اثنتي عشرة وتسعمائة وألف للميلاد، وهذه حربتها:

أَسَايلْني انْفِيدَكْ ابْكافَر باريز
اسْتفَدْ أُكُنْ عَايَقْ واتْبَعْ الغُرْزَا

** ** **

هذا، وسيشهد الملحون تألقه في القرن التاسع عشر الميلادي، على يد مجموعة من الشعراء الكبار ذكرنا بعضهم من قبل ؛ ولا سيما منهم شاعرين متميزين:

أولهما: عبد القادر العلمي المعروف بسيدي قدور. وهو من مكناس وأحد أوليائها المعروفين، لما كان له من أحوال ومقامات.

اشتهر في قصائده بالحكمة والموعظة حتى لقب بـ "فيلسوف الملحون". وكانت فلسفته تسير في اتجاهين: أحدهما متشائم كقوله:

هادُو اشْروط اعْلامات التَّخْراب
عاد النّفاق امْودَّا بِين الكُبْــرا
بَالحِيـلا والمصانْعـا ولَخْـدع عادت اخْلايق اطْبَايعهم مقْلُوبا
مذهبهم نَدْرِيه خمَّمت اولاد جِيلْنا ﮔَـاعْ بَعْصَا وحْدَا امَضْرُوبا

والثاني متفائل على حد قوله في قصيدة "الدار"، مبينا أن الحياة لا تخلو من الحلاوة والمرارة:

يوم اشْلوق اوْ يُومْ زَقُّـوم اوْ يومْ مسْتَعْدل بِين الطِّيب والزّْهاما
وهو ما يؤكده في قصيدة "طامو":
معلومْ كِيف ما دامتْ رخْفَا ما تْدُوم شَدَّا
هذا امْواجَبْ احْكام اصْروف الدهـر
يـوم احْـلاَ مـن طـعـم التـمـر
أو يـوم كمثـل الحنْظـل مـــرّ
كما اشتهر بأنه غالباً لا يذكر اسمه على عادة الأشياخ.

وعند بعض الذين ترجموه أنه توفي عام ستة وستين ومائتين وألف للهجرة، بعد أن ناهز المائة عام ؛ وكان بذلك معاصراً للسلطان المولى عبد الرحمن بن هشام، وذا علاقة متبادلة معه. ومن إبداعاته التي ذاع صيتها: قصيدة "التوسل" التي يقول في حربتها:

يا من ابْلاني عافِني ارحمتَك انَّال
خفّْ ثقْلِي يتْسرَّح يَرْتْخا اعقالي

وتجدر الإشارة إلى أن بعض شعره نسب لغيره، كما نسب له ما صدر عن بعض معاصريه، ولا سيما من تلاميذه، أمثال الطيب الواستري، ومحمد بن هاشم العلوي، وعزوز اللمتوني.

والثاني هو التهامي المدغري، وأصله من تافيلالت، إلا أنه عاش في مراكش وفاس حيث كان رفيقاً للأمير محمد بن عبد الرحمن، وإن توفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف للهجرة، قبل أن يتولى رفيقه الملك بأربع سنوات.

وقد اشتهر بنظم الشعر المعرب، والغزليات والخمريات في الملحون، حتى عُد "شاعر المرأة الأول" ؛ إضافة إلى أنه – كما سبقت الإشارة إلى ذلك – كان مولعاً بنظم "السرارب" والإكثار من قافية الحاء، والقول في "النشب".

ولم يكن مستغرباً وهو المختص في الغزل، أن يستحضر ذكرى "العاشق" بوعمرو الذي كان رُمي بالزندقة والفسق، لمجرد أنه تغزل في شعره، فقال عنه:

لو كُنت في ازْمان "العاشق"
انْكون لُو الْخُو الشّْقيق
وانْحقّْ لَلْجحُــود احْقايَق
وانْقول يالنَّايَــم فِق

** ** **

أما بعد ذلك، ومع تأزم الأوضاع المغربية في أول القرن الماضي وما قبله – أي قبل إعلان الحماية على المغرب عام اثني عشر وتسعمائة وألف للميلاد – فسيظهر شعراء تناولوا بعض الأحداث الناجمة عن تلك الأوضاع ؛ يكفي أن نذكر منهم:

الحاج ادريس بن علي لحنش الذي كان ينظم في الملحون وفي المعرب الذي له فيه ديوان ضخم ما يزال مخطوطاً في خزانة الرباط العامة، هو: "الروض الفائح بأزهار النسيب والمدائح" ؛ إضافة إلى رسالة ألفها بعنوان: "المقامة المغنية عن المدامة المسماة بروضة المنادمة والإيناس في لطف محاسن وادي فاس"، وهي مطبوعة على الحجر.

كانت وفاته سنة تسع عشرة وثلاثمائة وألف. وقد اشتهرت قصيدته "التطوانية" التي تناول فيها حرب تطوان التي وقعت عام ستة وسبعين ومائتين وألف للهجرة، الموافق سنة تسع وخمسين وثمانمائة وألف للميلاد ؛ وفي حربتها يقول:

مَدْرَا نَفْديو الثَّار = ويفادينا ربي امْع النّْصارى
نَسْعاو النصـر والفتـح امْن الله ابْلمفضَّل وانْصـارو

كذلك نذكر هاشم السعداني الذي ضاع له كناش يضم إنتاجه في حريق أصاب دكانه. وقد اشتهر بالقصيدة التي أنشأها في احتلال مدينة وجدة عام خمسة وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة، الموافق سنة ثمان وتسعمائة وألف للميلاد، وهذه حربتها:

يا لسلام ابْكِوا اعْلى ادْخول وَجْدَا
دُونْ حرب اغْنمها لًعْدُو اوْنال لْمراد

أما في عهد الحماية، فسيبرز شعراء في التعبير الوطني، ومن بينهم: محمد العيساوي الفلوس الذي يعد أحد كبار شعراء فاس في هذه الفترة، وكانت وفاته سنة خمس وخمسين وتسعمائة وألف للميلاد، وهو دون الستين.

ومن الشعر الوطني الذي اشتهر به قصيدة "النجمة" التي رمز بها للحرية، إذ جعل الليل والنهار يتصارعان من أجلها، والمقصود بهما الاستعمار والوطن. وجاء في حربتها:

سَمْعُوا يا حضَّار ما جْرى للضَّيّْ أُلَبْهِيم
عن حسن النَّجْما اتْحَارْبُو في سَايَرْ لَكَامْ
وانْصَارا الضَّيّْ اوْحازْها الْرَسْمُو وانْحاز اللُّوم

ومن بينهم كذلك محمد بن عمر الملحوني "شيخ أشياخ" مراكش. وهو من الذين أفدت منهم ومن كنانيشهم الكثير. وكان مبرزاً في نظم "السرابة"، إضافة إلى شعره القومي والوطني الذي نكتفي فيه بالإشارة إلى قصيدته في نفي الملك المغفور له محمد الخامس سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة وألف للميلاد، وما كان له من رد فعل في مراكش. وفيها يقول:

يَا هْلِي مَعْظَم يوم السَّبت بانَت ارْجَـالْ = فالْمدايَنْ خرجَتْ بَطْرارْها كاتْقَاتَل
شبان افحول خارجين اﮔْـفُول
دَا لْهذا جَذْبان الحالْ سـارْ في حـالْ = كُلّْ واحَدْ بَلْسَانو كيصْرخْ قَايَــل
وِينَادي فالحجايَفْ ولَفْحُــول
يا هْلَ الشعب المغربي اكْهُولْ واطْفـالْ = ما بْقَى بعدَ اليُوم اصْبَـر يالسَّايَـلْ
به الشَّبان بالجميـع اتْقــول
يوم لَخْميس امْضَى وابْقَى الحربْ ما زال = عمر الثّوار ما تْهَنَّا الشعـب حامَل
واليُـوم اهْلُـو سيّبُو لَحْمُـولْ

وقد عُني ولده الأستاذ الباحث السيد عبد الرحمن الملحوني بجمع شعره – على كثرته – وذلك بعد أن توفي عام اثنين وسبعين وتسعمائة وألف للميلاد.

ولعلنا أن نضيف محمداً بلكبير المتوفى عام ثلاثة وسبعين وتسعمائة وألف للميلاد ؛ وهو أحد كبار أشياخ مراكش الذين عنوا بالقضايا الوطنية والقومية، ولا سيما مأساة فلسطين، على نحو قصيدته في حرب الستة أيام التي وقعت في يونيو عام سبعة وستين وتسعمائة وألف للميلاد ؛ وكان نظر فيها إلى الهزيمة التي مني بها العرب في محاولة لتأملها وأسبابها، مما يتضح في مثل قوله:

النّزع ادْهانا امْع بعضنا بعض اُلَعْدُو افْجنبنا يتْسنَّانَا
وامْعـاهْ لَخُّــوت = سلّْحوه بَقْنابل لَلتَّخْرابْ

في وقت ما أحوج المسلمين إلى الاتفاق وتوحيد الصف:

لازَمْ للَصَّف انْوَحّْدُوه حسّْ امعنَى نتَّاحْدُوا اللاَّمَنْ يَقْوانا
اذَا كُنَّا متوافقين ما يَلحقْنا كذَّاب

هذا ويذكر من بين الشعراء الذين أغنوا مجال التعبير الوطني شيخ أشياخ الرباط المرحوم الحاج محمد العوفير الذي أطلعنا قبل وفاته رحمه الله على بعض كنانيشه التي تظهر أن أكثر نظمه في الغزل، وإن كانت له وطنيات رائعة، كقصيدته التي قالها في إحدى ذكريات "ثورة الملك والشعب"، التي تخلد يوم نفي الملك المغفور له محمد الخامس في العشرين من غشت عام ثلاثة وخمسين وتسعمائة وألف للميلاد، والتي حربتها:

من اعْظَمْها ذكرى يا من اتْسَالْ تاريخْ امْخلَّد
ثورة الملك امْع الشعب يُوم الاستعمار انْفَاه
لَكِن المُولى جادْ اعْليه أَيّْدو واكْرَمْ مثــواه

ومثله معاصره شيخ الرباط الكبير عثمان الزكي الذي كان كثير النظم في الأزمات السياسية والاقتصادية، على حد ما تكشف قصيدته "التوبة" التي حربتها:

يا طـالب لمــان = تب واعمل ما أمر به ربنا

كما يذكر من بين الذين أغنوا هذا المجال، ولا سيما في الاتجاه الواقعي الاجتماعي، الشيخ المرحوم عبد القادر الجراري المتوفى عام أربعة عشر وأربعمائة وألف للهجرة، الموافق سنة ثلاث وتسعين وتسعمائة وألف للميلاد. ونكتفي بإيراد حربة إحدى القصائد التي قالها في أزمة "البون"، أي البطاقة التي كانت تقنن التموين وتزويد المواطنين بما يحتاجونه من مواد غذائية وغيرها، أيام الحرب العالمية الثانية، وهذه حربتها:

حَرْتْ ابْقلَّــت لِبْزَار والفَاخَــر
والزِّيتْ والسّْمَن والصابون امْع السّمِيد عَادَ اهْمُومْ السّكَّر

ومثله محمد لحلو الفاسي الذي له كذلك قصيدة في المناسبة نفسها، يقول في حربتها:

يا نعــم الستــار جد برحمتك يا لكريم غثنا

وفي هذا الإطار الاجتماعي، لكن باتجاه معاكس، ظهر بعض الشعراء بقصائد فكاهية، كقصيدة "الزردة" للحاج محمد بن عمر الملحوني، وفي حربتها يقول:

ولَمْضيغْ افْراسَا مَنْ لا ايْلِيهْ ضَرْسات
كيْملْوَجْ فَمْضِيغـو عـادْ تَيْسَرْطُــو

وهي قلبٌ لقصيدة "الوصاية" للعلمي، وأولها:

لَحْبِيـب اللاَّ ينفعنِي افْيُوم حَزَّاتْ
ما نَحْمَل عن قلْبي غلّْ منْ اكْلَفْتو

وقد اشتهر الشيخ احمر الراس المراكشي بهذا الأسلوب الذي يقلب فيه الموضوع من الجد إلى الهزل، كقوله:

سكْران رِيتْ يامَسْ يلْفظ بَشْعَارُو
اسْكَر وطاحْ في دولَتْ لَبْكَــار
ما فاقْ حتَّى اتْكون العَشْـــرا

وهي قلب لقول التهامي المدغري:

اللازْهُور ازْهر وازْهارُو = بِك الزّهر اللاَّ ازْهـر
صُولِي صُولِي يا غْزَالي زَهْرَا

ويبدو أن هذا الموضوع تعرض للإهمال، وضاعت معظم قصائده لِما قد تتضمن من فحش وعبارات نابية.

** ** **

وعلى امتداد هذه الفترة الممتدة زهاء ثلاثة قرون، كان للتصوف أثر متميز في "الملحون" ظهر به أشياخ، كمحمد بن يحيى البهلولي المتوفى حوالي ستين وتسعمائة للهجرة، ومحمد الشرقي المتوفى سنة عشر وألف للهجرة، وعبد الله الهبطي المتوفى عام ثلاثة وستين وألف للهجرة، وعبد الوارث الياصلوتي المتوفى سنة ست وسبعين وألف للهجرة، وأحمد بن عبد القادر التستاوتي المتوفى سنة سبع وعشرين ومائتين وألف للهجرة، ومحمد بن علي بن ريسون المتوفى عام تسعة وثمانين ومائة وألف للهجرة، ومحمد الحراق المتوفى سنة إحدى وستين ومائتين وألف للهجرة، ومولاي علي شقور المتوفى عام خمسة عشر وثلاثمائة وألف للهجرة، وأحمد بن عاشر الحداد الرباطي المتوفى عام ستة وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة، وآخرين أغنوا بقصائدهم ومقطوعاتهم ميدان "الذكر" الذي ما زالت تُتداول فيه لحد الآن.

والحق أنه من الصعب استعراض مختلف الميادين التي أبدع فيها شعراء الملحون. كما أنه من غير السهل ذكر أسمائهم، إذ لا يتسع لذلك نطاق هذه المقدمة.

ومع ذلك، فإنا نرى من باب الإنصاف والوفاء ضرورة ذكر بعض الذين كانت لهم مشاركة في هذا المجال، والذين وقفنا على نماذج من قصائدهم ؛ من أمثال محمد الروداني، ومحمد بن موسى الشريف، وعبد الرحمن ابن الحاج الطاهر، والعباس الحرار، وعباس بن بوستة، ومحمد المختار الشرايبي، ومحمد بن بوستة من مراكش ؛ ومحمد الجابري، وادريس العلمي، وعبد العزيز بن ادريس الوزاني، وعبد العزيز اعنون، ومحمد الشتيوي، والطيب الدباغ، وعلال العلوي، وعبد القادر الودغيري من فاس ؛ والتهامي ابن الشيخ فاضل، والمعطي بن صالح الشرقي، ومحمد الضعيف، وبوعزة الدريبكي، ومحمد بن أحمد الشرقاوي، ومحمد بن يوسف، والتهامي بناني، وتلميذه المكي الريش من الرباط ؛ وأنجار، ومحمد الشليح، والشيخ البري، وحسن اليعقوبي من سلا ؛ وبنعيسى الدراز من مكناس ؛ ومحمد بن علي الدمناتي، وحسن ابْرِيَّا، وعبد الكريم الفيلالي من أسفي ؛ وأحمد بن رقية، والبصير الزموري، وادريس الزموري من أزمور ؛ ومحمد المودن التطواني، ومحمد حسن من تطوان ؛ ومحمد العلمي ولد زيطانة من شفشاون ؛ ولحسن الصفريوي من صفرو ؛ وأحمد لحبيب من تافيلالت ؛ ومولاي أحمد بن عبد السلام العلوي من الدار البيضاء.

ولعلنا ألا ننسى ذكر بعض الشواعر اللائي كان لهن ظهور في هذا الفن، بدءاً من رُمَيلة أخت عبد المومن الموحدي، وكانت بارعة في نظم الأزجال، على الطريقة الأندلسية، وفق ما يكشف هذا النموذج الذي مطلعه:

مشَى السَّهَر حَيْرَان *-*-* حتى رَأَى إنسان *-*-* عَيْني وقف

وفي خرجته تقول:

اسْمر جنــان *-*-* في شَقَّة من نعمان *-*-* قد التَحَفْ

ونصادف بعدها في فترة متأخرة وبعد أن أحرز "الملحون" كيانه، الشاعرة الورديغية التي يحفظ لها من شعرها قصيدة في مدح سيدي محمد بن الحسن الريسوني المتوفى سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف للهجرة، وفيها تقول:

القطْب لهْمام = شَافْتُو عيني افْلمْنام
لابَسْ لَحْرِيرْ = دَايَرْتُو خَضْــرا

كما نصادف الشاعرة التوردانية بنت الفقيه التورداني الشفشاوني وزوجة السيد أحمد بوجنة، وكانت تعيش أيام السلطان محمد بن عبد الرحمن، أي أنها كانت معاصرة للتهامي المدغري. وعُمِّرت حتى أدركت عهد الحسن الأول في آخر القرن التاسع عشر للميلاد. ويقال إنها كانت تنظم الشعر ملحوناً ومعرباً. ومن أبياتها في مدح امرأة ريسونية تسمى العزيزة بنت أحمد:

للاَّ لعْزيزا يا بنت احمد يا بَنْت الجاه العالي

** ** **

هذا، وعلى الرغم من قصر هذه المقدمة وتقصيرها، فإنها توضح مدى أهمية شعر الملحون، باعتباره تراثاً غنياً يبرز الإمكانات الإبداعية التي تتوافر لأشياخه، وهم يبتكرون ويتفننون ويتقنون كذلك.

ولعل الذين يريدون شيئاً من التوسع، أن يرجعوا إلى بعض ما نشر عنه من مؤلفات، ولا سيما ما كتبه متخصصون عارفون، على رأسهم الشيخ المبرّز الأستاذ أحمد سهوم الذي ألف كتاباً عن "الملحون المغربي"(3)، والذي كنت أفدت من أحاديثه الإذاعية عن هذا الفن، قبل أربعة عقود، يوم كنت أنجز أطروحتي عن "القصيدة".(4)

______________________

(3) من منشورات (شؤون جماعية) صحيفة الجماعات المحلية بالمغرب والبلديات العربية والدولية – الطبعة الثالثة – دجنبر 1993 – مطبعة النجاح – الدار البيضاء. وتجدر الإشارة إلى المقرر الدراسي الذي كان وضعه في فن الملحون، لتلاميذ المعاهد المعنية التابعة لوزارة الشؤون الثقافية، بطلب من وزيرها في سنوات السبعين الأستاذ المرحوم الحاج امحمد اباحنيني ؛ وكان قد رقن واستنسخ ليكون في متناول هؤلاء التلاميذ ومدرسيهم.

(4) الطبعة الأولى – مطبعة الأمنية – الرباط – محرم 1390هـ-مارس 1970م.

ثم أتبعها بـ : "معجم مصطلحات الملحون الفنية" – مطبعة فضالة 1398هـ-1978م.

كما أذكر من بينهم الزميل المرحوم الأستاذ محمد الفاسي، في "معلمة الملحون" التي نشرتها أكاديمية المملكة المغربية(5)، والأستاذ عبد الرحمن الملحوني فيما نشر من تراث والده المرحوم الحاج محمد بن عمر الملحوني(6)، وما كتب عن هذا الفن(7) وغيره من ألوان التراث الشعبي ؛ دون أن أنسى الأستاذ الدكتور عبد الصمد بلكبير الذي نشر "ديوان الملحون"، متضمناً مختارات المرحوم والده.(8)

وتكريماً للشيخ بلكبير، واحتفاء بالشاعر أحمد سهوم، أصدرت جمعية هواة الملحون بمراكش: "شعر الملحون بين ثقافتين: العالمة والشعبية"(9). وكان الأستاذ عبد الله شقرون قد أخرج "الأدب الشعبي على أمواج الإذاعة"(10). كما أصدر الأستاذ علال رﮔـوﮒ: "المقاومة المغربية من خلال التراث الشعبي"(11). وأصدر الأستاذ الدكتور محمد بنشريفة "تاريخ الأمثال والأزجال في الأندلس والمغرب" في خمسة أجزاء.(12)

ومن الاعتراف للذين يسعون من الشباب المتطلع إلى نشر نصوص من الملحون، سواء في أصلها أو مترجمة، أشير إلى الأستاذ فؤاد جسوس الذي أصدر أربع مجموعات صغيرة عن "الملحون المغربي بلغة مـوليير"(13)، وإلى المنشد البارع السيد

______________________

(5) في خمسة أجزاء، صدر القسم الأول من الجزء الأول منها في شعبان 1406هـ-أبريل 1986م. وصدر جزء (مائة قصيدة وقصيدة في مائة غانية وغانية) عام 1997م.

(6) ديوان شيخ أشياخ مراكش الحاج محمد بن عمر الملحوني – المطبعة والوراقة الوطنية – 2003م.

(7) ديوان الملحون (سلسلة أبحاث ودراسات في القصيدة الزجلية) اطلعت منها على أربعة أعداد (1990-1992م). وله كذلك "أدب المقاومة بالمغرب من خلال الشعر الملحون والمرددات الشفاهية" صدر الجزء الأول منه عن دار المناهل، و "شاعر مكناسة الزيتون الشيخ عبد القادر العلمي" طبع شركة بابل للطباعة والنشر.

(8) مطبعة فضالة – المحمدية – الطبعة الأولى المصورة 2006م.

(9) منشورات وزارة الثقافة والاتصال – مطبعة دار المناهل – الرباط – أكتوبر 2002م.

(10) منشورات اتحاد إذاعات الدول العربية (تونس 1987م).

(11) نشر المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير (مطبعة المعارف الجديدة – الرباط 2004م).

(12) منشورات وزارة الثقافة – 2006م.

(13) Le Melhoun marocain dans la langue de Molière (Publiday-Multidia) –Casablanca 2003-2004-2005-2006

محمد السوسي الذي نشر مجموعات صغيرة بعنوان "الملحون"(14)، وإلى الشاعر الأستاذ جمال الدين بنحدو الذي أخرج مؤخراً "شهدة ملحونية"(15) من إبداعه، وألحق بها بعض عيون القصائد المتداولة.(16)

وإني لأود في هذا المقام أن أشيد بالدارسين الذين تناولوا في بحوث الإجازة موضوعات تتصل بالملحون، ولا سيما الذين أنجزوا رسائل وأطاريح جامعية سعدت بالإشراف عليها بعد جهد شاق مع الإدارة التي لم تكن تقبل كل ما يتصل بالتراث الشعبي، سواء في الدرس أو البحث ؛ وأخص منهم بالذكر الأستاذ الدكتور منير البصكري في رسالته عن "الشعر الملحون في أسفي"(17) وهي مطبوعة، وأطروحته عن "النزعة الصوفية في الشعر الملحون" ؛ والأستاذ عبد الإلاه جنان في رسالته عن "شاعر الملحون الشيخ أحمد بن رقية الأزموري – دراسة لشعره" ؛ والأستاذة ثريا ابن الشيخ في رسالتها عن "الصورة الفنية في الخطاب الشعري بين شعر الملحون والروايس" ؛ والأستاذة خديجة صدوق في رسالتها عن "الأدب الشعبي المغربي: قضاياه ومناهجه". وربما كان من أهم ما أنتج على الصعيد الجامعي، بحث الأستاذ عبد الصمد بلكبير عضو لجنة "موسوعة الملحون" ؛ وعنوانه: "الشعر الملحون: الظاهرة ودلالاتها".(18)

__________________________

(14) صدر منها خمسة أجزاء صغيرة (طبع دار إفران للطباعة والنشر – طنجة 2004).

(15) الطبعة الأولى – الدار البيضاء 2007م.

(16) وتجدر الإشارة إلى أن بعض المعتنين من الدارسين الجزائريين بالملحون نشروا مجموعات غنية بالنصوص المغربية لعل من أهم ما طبع منها مؤخراً كتاب "من بستان الملحون: مختارات" للسيد توزوت محمد (طبع دار النشر –قصر الكتاب –البليدة).

وفي سياق هذا الاعتناء، يشار إلى أشياخ جزائريين وفدوا إلى المغرب أو لم يفدوا ولكن يروى الحفاظ المغاربة قصائدهم، كأحمد التريكي، والأخضر بن خلوف، والدباغ القسنطيني، وسعيد التلمساني، ومحمد بن امْسايب التلمساني.

(17) منشورات مؤسسة دكالة عبدة للثقافة والتنمية (مطبعة النجاح الجديدة – الطبعة الأولى – نونبر 2001).

(18) وقد جعل له ثلاثة ملاحق: الأول ضم ديوان والده محققاً، والثاني بيبليوغرافيا، والثالث عن المصطلحات ؛ حسبما أخبرني الأستاذ الدكتور حسن جلاب الذي كان المشرف على هذا البحث الذي نال به صاحبه – مؤخراً – درجة الدكتوراه، من كلية آداب جامعة القاضي عياض بمراكش.

وهكذا، لم يكن غريباً بعد أن أخذ "الملحون" موقعه في مقررات بعض الجامعات وما ينجز فيها من دراسات، أن يبرز فيها، وفي المراكز المعنية بالتراث الشعبي، باحثون تسنى لي – بكثير من الفخر والاعتزاز – أن أقف على بعض ما قدموا من عروض عميقة في هذا المجال برؤى جديدة ومناهج متطورة. ولعلي أن أذكر من بينهم الأساتذة السادة: محمد جودات، وعبد الفتاح فهدي، وسميرة الكنوسي، ومحمد بلاجي من الدار البيضاء ؛ وعبد الإله بوشامة، ونور الدين لحلو، ومولاي على الخامري، وعبد العزيز إدريسي أزمي من الجديدة ؛ ومصطفى الحسوني من المحمدية ؛ ومبارك أشبرو من أرفود ؛ وعبد الصادق سالم من الرشيدية.

وموازاة مع هذا النهوض الذي يعرفه "الملحون" سواء في ميدان النظم أو الدراسة، برزت عناية فائقة بالإنشاد المتطلب مهارات خاصة في الأداء، بكل ما تقتضيه قراءة الشعر من تعبير سليم وصوت رخيم وضبط للإيقاع وما إلى ذلك مما كان يتميز به أشياخ من أمثال عبد الكريم ﮔنون، والفقيه ابن الهاشمي، والتهامي الهروشي، ومحمد بن غانم، وبنعيسى الفاسي، والتهامي العلوي، والحاج محمد بن سعيد، والحسين التولالي، والتهامي بن عمر، وأحمد ابن الراضي، ومحمد برﮔاش، والحسين ابن ادريس، وعبد الحميد العلوي، وأحمد حمّان، ومحمد بن عبد السلام العلمي، ومحمد ابن موسى المراكشي، وأحمد الدمناتي، والمحجوب الزيتوني. وعلى هديهم يسير منشدون أتاحوا لقصيدة الملحون أن تنتشر، خاصة بين الشباب.

وسنذكر بعضهم ضمن أعضاء لجنة الموسوعة. ونود أن نضيف إليهم السادة أحمد أمنزو وأخاه محمد، وامحمد بن عمر الملحوني من مراكش، والحاج امحمد الحضري من فاس، ومحمد الخياطي بوتابت، وادريس الزعروري، وعبد اللطيف التوير من مكناس، والرحيمي عبد المجيد وجواد السجعي من أزمور، ومحترم، وخليل لَبْزَار، وشوقي الوراتي من أسفي. كما نود أن نضيف إليهم بعض الأصوات النسائية التي نالت حظاً وافراً من الإقبال بما توفره أجهزة الإعلام من برامج، والتي يكفي أن نشير من بينها إلى الأوانس والسيدات ثريا الحضراوي من الدار البيضاء، وماجدة اليحياوي ونعيمة الطاهري وحياة بوخريص وليلى المريني من مكناس، وسناء مراحاتي من أزمور، وأسماء الأزرق من تارودانت.

** ** **

هذا، وفي نطاق اهتمام أكاديمية المملكة بالتراث في جميع أشكاله، ورغبة منها في مواصلة خدمة "الملحون" وإبراز أهميته وجمع نصوصه ونشر دخائره، بعد أن كانت أصدرت "معلمة" الأستاذ المرحوم محمد الفاسي، وسعياً منها إلى أن يتسم العمل الأكاديمي بما ينبغي له من دقة التقصي والبحث، فإنها خططت لمشروع كبير يتمثل في "موسوعة الملحون". وقد بدأت أولى مراحل تنفيذه بتشكيل لجنة تشرفت برئاستها، تتكون بالإضافة إلى أعضاء لجنة التراث بالأكاديمية، من معظم المعتنين بهذا المجال، المشهود لهم بالتبريز فيه، إنشاءً وإنشاداً وجمعاً ودراسة ؛ مع مراعاة تمثيلها – قدر الإمكان – لمختلف المدن والأقاليم التي لا يخفى ما لكل منها من مساهمة ثرية في هذا المضمار.

وهم السادة الآتية أسماؤهم مرتبة أبجديا حسب المدينة:

منير البصكري، ومولاي اسماعيل العلوي السلسولي من أسفي ؛ وعبد الإله جنان من الجديدة ؛ وجمال الدين بنحدو من الدار البيضاء ؛ ومصطفى عبد السميع العلوي، ومبارك أشبرو من الرشيدية ؛ وعبد الله شقرون، وأحمد الطيب لعلج، وعبد الله ملين، وعبد العطي لحلو، وادريس أخروز، وأحمد شوقي بنبين من الرباط ؛ وعمر بوري، وأحمد أبو زيد من تارودانت ؛ ومالك بنونة من تطوان ؛ وعبد الله الحسوني، وأبو بكر بنسليمان من سلا ؛ وعبد المالك اليوبي، والسوسي محمد، ومحمد بوزوبع من فاس ؛ وعبد الرحمن الملحوني، وعبد الصمد بلكبير، وعبد الله الشليح، وحسن جلاب من مراكش ؛ وعبد العزيز بن عبد الجليل، ومحمد أمين العلوي، وعلي كرزازي من مكناس ؛ وإلهام بن سيمو من ميدلت.

وكان أول عمل قام به الأعضاء، هو تقديم ما لديهم من مجاميع وكنانيش أصلية أو مصورة، ومن نصـوص متفرقة، أضيفت إلى ما في الخزانة الحسنية والخزانة العامة ؛ مما توافرت به دخيرة هائلة ضمت نحو ستة آلاف قصيدة، كان فيها بعض المكرر، وكذا تفاوت في الجودة سواء من حيث الخط أو سلامة النص، أو ما قد يكون فيه من بتر.

وبعد ذلك، وعلى إثر عدة لقاآت نوقشت فيها مختلف القضايا المتصلة بتحقيق الغاية المتوخاة، تم الاتفاق على منهج العمل الكفيل بتنفيذ هذا المشروع الضخم الذي يقضي بعد الجمع والتوثيق، أن تخرج الأعمال التي تبدو تامة على شكل دواوين، مع إمكان نشر ما قد يقدم من دراسات، ولا سيما ما ينجز في الجامعات من رسائل وأطاريح.

وباقتراح من الجميع، وحتى تَسهل إجراآت التنفيذ ويتغلب عليها بطريقة عملية، تفرغت عن اللجنة الكبرى لجنة مصغرة ضمت الأساتذة السادة أبا بكر بنسليمان، وعبد الله الحسوني، وعبد الرحمن الملحوني، وعبد المالك اليوبي، ومحمد أمين العلوي ؛ لمزيد من التمحيص والتأمل، في ضوء الكمية الهائلة التي تراكمت من النصوص.

ثم تبين أنه لكي تتبلور الإجراآت المنهجية المتفق عليها ويتحقق التنفيذ بطريقة عملية، أسند الإعداد للخبيرين بنسليمان والحسوني اللذين أشهد لهما بما قاما به من عمل دؤوب وشاق اقتضى فرز النصوص ومقارنتها والترجيح بينها، اعتماداً على سلامة المعنى واعتبار القافية. كما اقتضى رقن هذه النصوص بمساعدة موظفين من إدارة الأكاديمية، وكذا ترتيبها وفهرستها حسب قوافيها ؛ مع اعتماد كتابة تقترب من كتابة النصوص المعربة، دون إهمال الشكل المساعد على القراءة، في مراعاة قدر الإمكان لبعض الخصائص التي يتطلبها الإنشاد من مد وتمطيط، وغير ذلك مما هو راجع للمنشد نفسه ومدى طاقته وقدرته على التعامل مع النص في الأداء ؛ دون إغفال ما في هذه المراعاة من صعوبة لا تنكر، ودون إغفال كذلك لطبيعة الملحون القائمة في الأصل على سرد "لكْلام" قبل تلحينه والتغني به.

وحين كانت توجد قصائد مبتورة، كأن ينقصها صدر أو عجز أو بيت كامل أو حتى قسم برمته، فإن مكان النقص يبقى فارغاً وفق ما تتطلبه الأمانة العلمية. كذلك حين تكون النصوص متعددة لشاعر واحد وفي نفس الغرض، فإنها ترقم متتابعة، دون اعتبار ترتيبها الزمني ؛ مع التنبيه في هذا الصدد إلى الخلط الذي تعرض له نسخ بعض النصوص، بين "الحربة" و "الدخول". كما تم الاتفاق على إفراد "السرارب" بسفر خاص، دون إلحاقها بالقصائد التي تنشد معها، حتى حين تكون النسبة لأصحابها معروفة. وذلكم بسبب الخلط الذي تعرض له هذا النمط من النظم في الملحون، ولا سيما عند الإنشاد.

ونظراً لارتباط القصائد بتسميات معينة تعرف بها، فقد تقرر إعطاؤها الأسماء الرائجة المتداولة عند أهل الملحون ؛ وذلكم تفادياً لأي خلط قد يقع إذا ما غيرت التسميات. أما القصائد المنسوبة بشيء من الشك، فقد تقرر نشرها ضمن إنتاج الشاعر المنسوبة إليه، مع الإشارة إلى ذلك.

وكان بالإمكان ربط تدوين النصوص بتحقيقها، وفق ما تستوجبه عملية التحقيق العلمي المتعارف على منهجه في نشر كتب التراث، من مقابلة وتعليق وتعريف بالأعلام وشرح بعض الغوامض، ولكن تبين أن الأمر يتطلب جهداً إضافياً ووقتاً طويلاً، مما كان لا شك سيعطل بلوغ الغاية المنشودة التي هي إخراج تلك النصوص وتوفيرها للباحث المهتم، وكذا للقارئ العادي سهلة، دون إثقالها بهوامش قد لا تهم إلا فئة معينة من المعتنين.

وبهذا العمل الذي استغرق زمناً غير يسير، تمت معالجة النصوص عن طريق الحاسوب، بتسجيلها وإثبات اسمها وحربتها ومطلعها، مما أمكن معه إنشاء قاعدة معطيات متناسقة ومتكاملة يسهل رجوع الباحثين والمهتمين إليها.

ومن ثم أمكن جمع دواوين لكبار شعراء الملحون، أمثال المغراوي وامتيرد وابن علي وعبد القادر العلمي والتهامي المدغري وابن عمر الملحوني وابن الكبير وغيـرهم ؛ وكذا بعض الذين كانت قد جمعت قصائدهم في دواوين، ولكنها تحتاج إلى أن تُراجع وتستكمل وتُخرج من جديد، كما هو الشأن بالنسبة لديوان السلطان المولى عبد الحفيظ العلوي، المتنازل عن الملك إثر دخول الحماية عام اثني عشر وتسعمائة وألف للميلاد، والمتوفى سنة سبع وثلاثين وتسعمائة وألف ؛ وكان قد نشر على عهده في طبعة حجرية بفاس دون تاريخ.

ثم وقع الاتفاق على البدء بإخراج ديوان الشيخ عبد العزيز المغراوي، لما له من سبق تاريخي وفني ؛ ويضم سبعاً وأربعين قصيدة ثابتة النسبة للشاعر، ومعها خمس أخرى مشكوك في نسبتها إليه. وهو الذي أسعد بكتابة هذا التقديم له، كفاتحة لـ: "موسوعة الملحون" التي تعتزم الأكاديمية إصدارها موصولة ومتتابعة بإذن الله ؛ في سعي إلى أن تكون مستوفية للنصوص قدر الإمكان، وفي تطلع إلى تلقي كل الملاحظات والاقتراحات التي قد تبدو لقرائها الكرام.

** ** **

وإذا كان لا بد من تعريف وجيز بالشاعر الذي نحن بصدد نشر ديوانه في هذا السفر الجليل، فإنه يكفينا أن نذكر أنه من آمغرا في صحراء تافيلالت التي يعتز بالانتساب إليها، على حد قوله يرد على بعض خصومه:

فيلالي يا حْزين ما نْكُر حَسْبي مَن جَدّْ الجَدّْ
مَن اقْريـش إِلى عثمـان

ثم انتقل منها إلى فاس حيث استقر وأقام. وهو يعد من كبار الأشياخ وأوائلهم الذين ساهموا بحظ وافر في تطوير الملحون وإغنائه، بما كان له فيه من إبداع تجلى في طبيعة الأغراض التي أبدع فيها، وكذا في ابتكاره للدندنة كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ثم في اتخاذه "العروبيات" التي يقدم بها للأقسام، كقوله يقدم "لقصيدة الغاوي"(19) التي حربتها:

_______________________

(19) لم نقف على النص الكامل لهذه القصيدة التي نظم على منوالها محمد بن علي ولد ارزين قصيدة "الهاوي"، وحربتها:

يالهـاوي من لايله سطـوة توب يا راسي وارجع للغني القوي
ردّْ بَالَكْ لَلْقَبْـلا رَا الحـالْ ضَوَّا
وُلَقْبُول امْن اللَّهْ امْقَرَّبْ لَخْطَاوِي

فقد قدم لأحد أقسامها بهذا العروبي:

يَـا رَاسِـي تُبْ شُفْ لَمْآثَــمْ يَقْوَاوْا
تُب المُـولاَك تُبْ يـا هذَا المَغْـوي
واعمَلْ حَسنَات قَبْل لَصَحُوفْ يَنْطوَاوْا
تَلقَاهُمْ فَـارْغِين واتْوَلِّـي مَكْــوِي
يَبْليسْ امــع النّفس في الغَيّْ اتْوَاوْا

وانْتَ مـا زال غَابَـطْ وُزايَدْ تَهْوِ***************
رَاسِــي لَلَّهْ لِينْ غَادي يَا مَغْـوِي



وعلى الرغم من أنا لا نعرف بالضبط تاريخ ميلاده ووفاته، فإن الرجوع إلى بعض قصائده قد يفيد في تحديد تقريبي لهما.

فهو في قصيدته المطولة "تشقيق القمر" التي أولها:

سبحان لَعْزيز الواحَدْ الرَّحمـانْ
المُولَـى لَقْديـم الدَّايَـمْ الـمَنَّان
إِلاَهـاً اخْتـارْ الأنبيَّا الأَعْيـان
وارْفَعْ اقْدرهُمْ بَالمعجزات اوْشَان

يشير إلى أنه نظمها عام اثنين وعشرين وألف للهجرة، وعمره نحو الخمسين، إذ يقول في آخرها رامزاً للألْف بالشين وفق حساب الجمَّل:

في عـامْ اثْنَا وْاعَشْرين بعد الشِّيـن
انظَمْ دا القصيدْ أوَّل الرّبيعْ في الحِينْ
عُمْرو فـي ذا التّاريخ قرَّب الخمسين
بَاللَّه زَاوْدُوه ابْـرحْمَتْ الـرحمـان

كما أنه في آخر بيت من قصيدته المطولة كذلك والمعنونة بـ: "التّْفافَحْ" التي حربتها:

صَلِّيوْا وسلّْموا اعْلَى شَارَقْ لَنْوارْ
مُـحـمـد سـيَّـدْ لـمْــلاَح

يشير بنفس الحساب (ش-م) إلى أنه أنشأها عام خمسين وألف للهجرة، مما يدل على أن عمره إذ ذاك كان يقارب الثمانين:

نُورِي تـاريخ لقْصِيدا في لَشْطارْ
الشِّينْ والنُّونْ يالسَّامَعْ دَا التَّوْشَاحْ

ومن المرجح أنه توفي في الغرفة بتافيلالت حيث قبره فيها معروف.

ومهما تكن هذه المقاربة لمعرفة تاريخ ولادته ووفاته، فإن من المؤكد أنه عاش في العصر السعدي، على عهد أحمد المنصور الذهبي الذي تولى على إثر وقعة وادي المخازن سنة ست وثمانين وتسعمائة للهجرة، وتوفي عام اثني عشر وألف. وقد رثاه المغراوي بقصيدته التي تسمى "لَعْزُو"، أي العزاء، وفي حربتها يقول:

عامْ شايَبْ مات الذَّهبِي اخْيارْ لَتْرابْ
ما بْقَى لَلسَّعْـدِيَّ بَاشْ ايْرجْحُــو

ومع قول المغراوي في عدة أغراض كالغزل والرثاء، إلا أنه اشتهر بالقصائد الدينية التي تنم عن نفَسه الطويل، وعن معرفة واسعة بالسيرة النبوية والتاريخ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

وبلغت به المكانة التي أدركها بين معاصريه أنه لقب بـ "شجرة لكْلام"، وأنه كان لطول قامته يقال في مدحه بها: "كُلّْ اطْوِيل خَاوي غِير النَّخْلاَ والمغراوي".

وتجدر الإشارة إلى أن المصمودي هو أبرز الذين عاصروه. فقد خلفه في عمادة الملحون، إذ اعتبر امتداداً له وفق ما تكشف العبارة المتداولة عند أصحاب هذا الفن: "المغراوي شجرة لكلام والمصمودي فرع من فروعها". وقد سبق لنا ذكر التفعيلة التي ظهر بها المصمودي متمثلة في "مالي مالي". ولعلنا أن نضيف أنه أول من نظم في "المراسلة"، على نحو ما قال في قصيدة "يَامْنَة" التي حربتها:

قُولوا الْيَامْنَا تَهْلِيل العُثْماني
مِينا يا مينا امْعاكْ شَرْع الله

هذا، ويبدو أن شهرة المغراوي تجاوزت المغرب إلى أقطار أخرى كالجزائر وتونس، إذ كانت له رحلة طويلة إليهما، لا يستبعد أن تكون خلفت آثاراً متبادلة بينه وبين نظرائه من الشعراء في هذين البلدين ؛ مما يمكن ملاحظته في الزجل التونسي من وجود وزن يطلقون عليه " المغراوي".

** ** **

وبعد، فإذا كان مشروع "موسوعة الملحون" قد أخذ طريقه للتنفيذ بهذا الديوان الذي يضم ما أمكن الوصول إليه من قصائد الشاعر، فإن الفضل في ذلك يرجع إلى أكاديمية المملكة المغربية والقائمين عليها، في حرص على النهوض بأعبائها، والسهر على منجزاتها، ولا سيما الاخوة الكرام، أمين سرها الدائم البروفسور عبد اللطيف بربيش، ونائبه الدكتور عبد اللطيف بنعبد الجليل، ومدير إدارتها العلمية الدكتور أحمد رمزي، ومقررها الدكتور مصطفى القباج.

فإليهم جميعاً نقدم عبارات الشكر والثناء، على ما بذلوا ويبذلون لإنجاز هذا المشروع، وما وفروا له من إمكانات مادية وبشرية في رحاب الأكاديمية، وكذا لتحقيق كثير غيره مما يخطط من برامج قيمة.

وإن هذه العبارات - مشفوعة بالكثير من التقدير - لَتُسَاق إلى الزملاء الكرام أعضاء لجنة التراث بالأكاديمية، وإلى جميع الأساتذة الأجلاء الذين تضمهم "لجنة الملحون"، مع تنويه خاص بالخبيرين الفاضلين أبي بكر بنسليمان وعبد الله الحسوني اللذين كانا – ولا يزالان – مجندين بشغف خالص وتفان صادق لإخراج كنوز هذا الإبداع المغربي الأصيل ومواصلة إصداراته.

والله من وراء القصد.


الرباط في 29 ذي القعدة 1428هـ
المـوافق 10 دجنبـر 2007م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى