تِزٙر أوزلو - ثلج.. ترجمتها عن التركية: مي عاشور

إلى أسين

بعد وقت طويل جداً حَلّ المساء. أدجن ليله بشكل غير عادي، وعميق، وداهم للغاية. أتذكر أننا مشينا تحت الأشجار لفترة وجيزة، ثم قفز الذين كانوا بصحبتي إلى الماء؛ فربما عدت إلى المنزل لذلك السبب. لا أدري، ولا أتذكر.

في البيت كرسي بذراعين أجلس عليه يومياً، لأتأمل جداراً متعرجاً غير مستو، وشجرة سفرجل، وتراكم التراب، والحشائش الجافة من النافذة، وكأنني أراها حتى ولو كان ظلاماً؛ لأنني أحفظ هذا البيت وحديقته جيداً.

عندما دخلت كان الظلام يُهيمن على كل الجوانب. أتكئ على الباب المؤدي للشارع وأنتظر، لكي تعتاده عيني، ولكنها لا تعتاد. مستحيل التقاط أي شيء، فكل شيء بات غير ممكن، أحاول العثور على الأشياء بيدي.

لا يوجد أي شيء.

تُضيء فجأة شمعة في الصالة، ولكنها لا تُنير. أخطو إلى الصالون مباشرة، وأينما أدرت رأسي أرى شعلات الشموع الضئيلة المتلألئة التي لا ينبعث منها نور. تبدأ الأرض فجأة بالاهتزاز، فأنتفض أنا والبيت والشمع مترنحين، وأثناء هذا الاهتزاز يلوح فأر فجأة؛ فأنا أفزع من الفئران منذ طفولتي (يفقز هذا إلى ذهني فجأة). رفع الفأر رأسه بغتة وهو يقفز في سكون.

لديه عينان سوداوان على جانبي وجهه (يخطر في بالي دون مقدمات أن هذا الفأر يختلف تماماً عن الفئران التى كنت أراها في طفولتي). لم أر قط فأراً بهذا اللون الرمادي، وهاتان العينان الكبيرتان اللتان تجحظان من وجهه. بينما كنت أفكر في هذا، أخذ المكان يمتلئ بالفئران أينما أجلت عيوني. عدد لا حصر له من الشموع المشتعلة وكذلك من الفئران الرمادية ذات العيون السوداء في كل مكان، وأنا أدور متأرجحة بينها. أنا خائفة جداً. أتذكر أنه يوجد باب خلفي، أتراجع إلى الخلف فوراً، سأفتح الباب وأخرج إلى الشارع، ولكن في هذه اللحظة بالضبط، يقف فأر ذو عينين سوداوتين، ضخامته عجيبة غير معهودة، وبكبر حجم رأسي في منتصف الباب، ألن يقفز على صدري؟، بل ويغرز مخالبه فيه، وعندما أحاول فكه، يندس إلى داخلي أكثر.

كنت أصرخ، بينما أضع كلتا يدي على صدري أيضاً، كأنني كنت أريد انتزاع شيء من على صدري. كانت الشمس أشرقت لتوها، ولكنني خفت من النوم مجدداً.

كان بيتنا الموجود في الريف يقع فوق مُنحدر؛ فيه قاعة كبيرة رحيبة، وفي كل زاوية من زواياها الأربع غرفة شاسعة. في أشهر الشتاء، كنا ننزوي في واحدة من تلك الغرف المزودة بالتدفئة، لكن عندما كان يداهمني النعاس، كانت أمي ترسلني إلى غرفة محاذية تمامًا للحجرة التي كنا نقبع فيها طوال الشتاء. عند خروجي من الحجرة الدافئة والمكتومة، كانت تبدو لي القاعة الكبيرة، باردة، مفزعة ومعتمة جداً.

ما كدت أخطو إلى الحجرة المقابلة، حتى أنظر أسفل السرير، وبعد ذلك أدخلها، وكنت أسحب اللحاف إلى رأسي وأدفنه تحته، وحينها كنت أبدأ في الخوف والارتجاف. لا أذكر ما كان يجول بخاطري حينذاك، ولكنني أعلم كم أن نوم كل منا هو مرور بوحدة كبيرة بداخل ذلك البيت الضخم.

تمددت جدتي على فراش الموت لفترة طويلة، وكان سريرها الذي ترقد عليه محاذياً تماماً لسريري. كُنت أكبر، وكانت تموت. عندما كنت آوي إلى الفراش، في ذلك الوقت، كنت أفكر متى سيحين موعد موتها. في الحقيقة كنت أتطلع إلى موتها، كان موتها ضرويًا؛ لأن جسدها كان يذوب وينحف، وكانت تتأوه، بل وكان جلدها يتهدل على عظامها. كنت أنام في حضنها في نفس الفراش، بمجرد أن أستفيق في الصباح؛ ولكنني أعتقد أن هذا كان قبل مرضها المميت. كنت أجدها قد استيقظت منذ وقت طويل وارتدت نظارتها المستديرة، وكانت الدموع تنزلق من تحت نظارتها على وجنتيها.

كنت أقول: هل تبكين؟

فكانت تقول: لا، عيوني تدمع.

كنت أقول: لأنها قد اعتادت جداً على الدموع.

ظننت أن الضيق الذي يواجهه المرء في الصباح بمجرد أن يستفيق في هذا البيت الكبير، يمكنه أن يُبكيه، وكذلك الخوف الذي يسبق النوم أيضاً. ذات يوم عندما دخلت إلى المطبخ الموجود عند ممر البهو المعتم، (كُنت ما زلت عند الباب)، رأيت بطن جدتي عارياً، وقد صوبت سكيناً إلى بطنها، بينما كانت تنتظر. أما أنا فانتظرت عند عتبة الباب لبرهة، وكانت هي تقف متسمرة، فحتى يدها لم تكن ترتعش، ولم تكن تفعل أي شيء، وكذلك أنا. لم تكن تراني، ولكنني كنت أراها.

وبعد ذلك ذهبت إلى جوارها. لماذا جئتُ إلى المطبخ؟ نسيت.

قلت: ماذا تفعلين؟

فقالت: أقتل نفسي.

لم أفهم أي شيء، ولا أتذكر إذا كنتُ أخذت السكين من يدها أم لا.

ولكنني أعرف، أنها لم تقتل نفسها. ذات يوم هربت مجدداً من البيت؛ كان هذا، إلى السهل الذي كنا نذهب إليه في الصيف في المدينة التي كنا نسكن فيها من قبل. كان هناك بحيرة وبستان تفاح بمحاذاة بيتنا.

كنا نتسلق الشجر ونأكل التفاح طوال اليوم. وفي المساء تضع أمي سلة أمامها، وتقشر لنا التفاح واحدة تلو الأخرى، ثم تطعمه لنا. سئمنا جميعاً من التفاح. وهناك هربت جدتي من البيت، خرجنا للبحث عنها، خرجت بمفردي، ثم وجدتها بعيداً، في حفرة بجانب شجرة الكستناء، كان منديلها معقوداً على رأسها، وترتدي نظارة مستديرة، وتنظر صوبي، ولكنها لا تراني، لم تكن تتحدث معي، وكان وجهها النحيل شاحباً، دنوت منها خائفةً. لا لم أخف، بل فرحت كثيراً لعثوري عليها، حسبتها ذهبت إلى أماكن لن أعثر عليها فيها فعلاً. أذهلتني وقفتها في الحفرة بهذا الشكل.

سألتها: لماذا دخلتي إلى الحفرة؟.

بينما كنت أقول سأُضيع نفسي، وسأذهب خلف هذه الجبال، كانت تشير إلى "جبال البوز"* الموجودة ورائي. لم أفهم إطلاقاً ماذا يكون الضياع تجوالاً في الجبال. لا أتذكر إذا كنا عدنا إلى البيت معاً أم لا، ولكنني أعرف موتها عن ظهر قلب. أرادوا أن يجروا لها عملية في المستشفى التي أدخلناها إياها، ولكنها صممت على الرفض. (ممن سمعت هذا؟ ، فهم لم يأخذوني معهم إلى المستشفى حينذاك؛ لأنني كنت صغيرة جداً).

رحلت جدتي، ولم أستوعب أي شيء من موتها. وكذلك لم أخف. فقط كنت أعرف عندما كنت أنظر من طابق العلوي للمنزل، أنها تُحمل في سيارة الجنازة الذاهبة، والتي كانت بالأسفل. أرغمتني امرأة على اللهو بالألعاب، هل يبدو أنني أفهم الآن شيئًا من موت الغير؟

ومن موتي؟

بقينا أنا وأمي وحدنا لمدة عام في البلدة، وفي ذلك الوقت كنا ننام معاً. كانت الثلوج تغلق المدينة لوقت طويل. كم كنا وحيدتين في النوم الذين كنا نخلد إليه معاً في هذا البيت الضخم. كبرتُ من دون استيعاب موتي. فذات يوم بقيت معلقة بذراع واحدة في شرفة بيت عال، وكان جسدي يتدلى إلى الشارع؛ كان الشارع مزدحمًا وخاوياً، وكانت سيارة الجنازة التي تحمل جدتي ذاهبة، كنت خائفة من النظر إلى أسفل، فكل محاولة كنت أقوم بها بيدٍ واحدة لأدخل إلى الشرفة، وحتى لا أسقط في قاع الشارع كانت تشكل خطراً. فأنا لا أستطيع الدخول ولا الوقوع في الشارع كذلك، هل هذا منام؟ أأفكر بأن هذا حلم بينما أترنح في الهاوية؟ أتذكر أنني كنت أفكر إن كان هذا حلماً أم لا، ولكنني لا أذكر إن كنت قد استيقظت منه أم لا. لا أدري. أنام مع أمي، وقُبيل الصباح يوقظنا طرق على الباب. قد جاءت خادمة المدرسة، وكانت تصرخ وتريد منا أن نذهب معها.

لم يكن قد اجتاز أحد بعد تلك الثلوج المتراكمة العالية.

يسيرون هم في المقدمة.

وأتبعهم أنا في الخلف.
الثلج يصل حتى ركبهم.
ويصل إلى كتفي.
إلى أين تأخذنا هذه المرأة يا ترى؟

حين رجعنا إلى المنزل، انتاب أمي الحزن مجدداً. وأنا أيضاً، لم أفهم شيئاً. تصرخ أمي لسقوطي من النافذة، بينما أنا أستمع إلى صوتها وأفكر في شيء ما.

هل سأجد نفسي في حضن أمي حينما أستيقظ؟

أم في فراغ مختلف تماماً؟


(*) جبال البوز: سلسلة جبال في تركيا.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* تِزَر أوزلو كاتبة تركية معاصرة، ولدت عام 1943 في بلدة سيماف بمحافظة كوتاهيا، في منطقة الأناضول الغربية، لأبوين يعملان بالتدريس، وهي أخت الروائي والقاص التركي دمير أوزلو. تِزَر أوزلو واحدة من الأقلام المتميزة التي خسرها الأدب التركي في وقت مبكر، درست تِزَر في المدرسة النمساوية الثانوية للبنات بإسطنبول.

صدر أول كتاب لها عام 1978 تحت اسم "الحديقة القديمة"، وهو مجموعة قصصية. كما صدرت لها أول رواية تحت عنوان "ليالي الطفولة الباردة" عام 1980. حصل كتابها الذي كتبته بالألمانية "بعد آثار الانتحار" على جائزة ماربورغ للأدب 1983، وترجمته واختارت له في ما بعد باللغة التركية عنوان "رحلة إلى حافة الحياة".

أصيبت بمرض عضال وتوفيت في مدينة زيورخ بسويسرا سنة 1986، ودفنت بإسطنبول




* منقةل عن:
ثلج – مي عاشور – Medium




تزر.jpeg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى