نجم عبد الله - هل يُلغي الجنس الأدبي أجناساً أخرى؟

(1)
لعلنا نتجاوز ما اعتادت الدراسات الأكاديمية التي تؤجل الإجابة على السؤال الذي قد تطرحه إلى ما بعد البحث والمناقشة وتقليب الأمور من جميع نواحيها، ببساطة لأننا لا نقدم هنا دراسة أكاديمية، بقدر ما هي مقالة قصيرة تقدم وجهة نظر محدودة، فنجيب على سؤالها، بالقول: قد يُلغي الجنس الأدبي أخرى، ولكن هذا لا يحدث بشكل متواتر، بل هو قد يقترب من أن يكون نادراً. والواقع أننا سمع كثيراً بموت أجناس أدبية أو نهايتها، أو بالأحرى بتوقع مثل هذا الموت أو النهاية، وهي على أية حال لم تقتصر على الأجناس بل تتعداها إلى مفردات أدبية أخرى، من مؤلف ونقد ونخبة.. إلخ. وضمن هذه السلسلة وآخرها يأتي القول من جديد باقتراب الشعر من الدخول في أزمة وجود، هذا إذا لم نقل من الموت، بعد أن سبق القول به قبل عقود عدة ثم انطفأ، نعني القول بالموت لا الشعر، وتحديداً أمام الصعود الدراماتيكي للرواية التي يكاد عصرنا يصير عصرها. يجتهد من يجتهد، ويتوقع من يتوقع، بل قد ينظّر من ينظّر لمثل هذه الأقوال والتوقعات والتنظيرات، ليقترب أحياناً من الثقة بها والحسم في ما يطرحه بشأن النهاية أو الموت أو الأزمة، فيردد خلفه المردّدون والمريدون، دون التمحيص والمراجعة ومناقشة الطروحات.. ووسط هذا كله لا تعلو إلا كلمة النهاية أو الموت. في خضم هذا الهوس غير الطبيعي، ولاسيما عند نقاد وباحثين وأدباء بعينهم، تكون المفاجأة، التي بظننا لم ينتبه إليها الكثيرون، وهي أنْ ليس من قول أو توقّع واحد بموت أو نهاية مما تم ترديده خلال أكثر من نصف قرن، سواءٌ أكان ذلك في الغرب أم عندنا، قد تحقق فعلاً، بل لعلنا لا نبالغ إذا ما قلنا ما من واحد منها اقترب من ذلك. وهنا حين نخوض في هذا، قد يكفي أن نتعرض لواحد من أولئك الذين قالوا بالموت أو النهاية لهذه المفردة أو هذا العنصر أو ذك الجنس الأدبي، وهو بظني الأبرز والأكثر شغفاً بهذه المقولات والتوقعات، نعني الناقد الكبير عبدالله الغذامي الذي كدنا، من كثرة ما توقعه من نهايات وميتات في الأدب، أن نسمّيه (عزرائيل الأدب). ولكن قبلاً لنعد إلى بعض مقولات الموت التي شهدتها العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة.

(2)
وبداية من المفيد أن ننتبه إلى طبيعة ما نراها الأولى بين مقولات النهاية والموت اليوم، نعني الإعلان عن موت الأدب والكلمة، خصوصاً في ظل حضور الصورة وتنامي ثقافة الصورة التي لا نتقبل إلا بشكل جزئي وضعها في تعارض مع ثقافة الكلمة، لنجد أنها تأتي بصيغة التبشير أو الإعلان غير المبني على وقائع موثّقة وعلمية، بل هي تأتي ضمن موجة عارمة من إعلانات الموت في الوسط الأدبي. وقد شملت هذه الموجة، في (قضائها وقدرها): المؤلف، والشعر، والرواية، والكلمة، والكتاب، وأخيراً النقد الأدبي والقارئ والنخبة. ولا نظن أن السلسلة ستتوقف قريباً، ونحن نسمعها باطراد غير عادي من أكثر من عقدين، مع أن عمرها، في الحقيقة، أطول من ذلك، كما نوّهنا. ويتسلل اليوم ما يمهد لشيء آخر من ذلك يُضاف إلى القائمة، ويتعلق تحديداً بالشعر الذي يعود، كما قلنا، إلى الواجهة من جديد أمام المد الروائي العارم، ونحن نعرف أن وجوده كان قد تعرّض لأوائل الهزّات المهددة بالموت، على المستوى الظاهري والنظري على الأقل، في الغرب في سبعينيات القرن الماضي. المهمّ هنا، وتعلقاً بالموضوعية أو افتقادها، أن هذه الموجة صارت في السنوات الأخيرة نوعاً من الهوس غير العادي، خصوصاً حين انجر إليها العشرات من الأدباء والنقاد والدارسين، ومن أشهرهم، كما قلنا، الناقد الدكتور عبدالله الغذامي. فقد عرفنا الغذامي في السنوات الأخيرة مندفعاً بشغف غريب وغير مبرر وغير موضوعي بإعلانات موت في الأدب تتوالى منه الواحد بعد الآخر، مع أن أصل هذا الشغف- حين لم يكن شغفاً تماماً- قد بدأ لديه من مدة ليست بالقصيرة لا بالإعلان، بل بتبنّي هذا الإعلان، وتحديداً عن (موت المؤلف) الذي نعرف أن صاحبه هو رولان بارت.
والآن، هل هذه الميتات، أو الإعلانات عنها، سواء أكانت من الغذامي أم من غيره، حقيقية وصحيحة؟ نعتقد أنها ليست كذلك إلا في النادر جداً، وهي في هذا النادر قد لا تكون موتاً متحققاً أو قريباً منه بقدر كونها ضعفاً يمكن علاجه أو تجاوزه. وأشهر أمثلة ذلك على المستوى العالمي، ما قيل في الغرب ورُدّد عندنا، قبل أربعة عقود تقريباً، عن قرب نهاية الرواية أو موتها، في ظل ما شهدته من انحسار وربما ضعف، لتأتي المفارقة، ليس متأخراً، المتمثّلة لا في عودتها فحسب بل في عودتها قوية صاخبة، وليصير ما افتُرض أنه “عصر نهاية الرواية” عصر الرواية. وقيل بعد ذلك، في الغرب تحديداً، عن قرب موت الشعر، كما أشرنا، وهو ما امتلك في وقتها حصة من الصحة إلى حد ما، تمثلت في نكوص القارئ الغربي عن قراءة وانزوائه عن الجمهور، بل حتى عن قرّاء الأدب، واكتفائه لا بالنخبة، بل بما يمكن أن نسميه نخبة النخبة. ونعرف اليوم أن الشعر قد عادت إليه الحياة في ذلك الغرب، وإن لم يكن كما كان. ويأتي بعد ذلك أشهر مقولات الموت أو الإعلانات عنها في الأوساط الأدبية، على المستوى العالمي والعربي، نعني مقولة (موت المؤلف) الذي نعرف أنها لا تنتمي بالطبع إلى الميتات التي نحن بصددها، لأنها معرفية نقدية، بينما الميتات الأخرى والقول بها تنتمي إلى النشاط والحقل الثقافي العام. وعلى أية حال نعرف أيضاً أن صاحبها قد تراجع، على الأقل عن حدّتها، قبل غيره من نقادنا، مع أنها بقيت تمتلك شيئاً من الصحة التي تتمثل في ما نسميه تغييب المؤلف أو تحييده في قراءة الأدب وتحليله واستنطاقه. وتأتي مؤخراً مقولات موت النقد الأدبي الذي لم يحقق صاحبه عبدالله الغذامي، هذه المرة، أي درجة من الإقناع، وموت الكلمة والأدب، وثقافة الكلمة والأدب، بالصورة وثقافة الصورة، ولنعترف أن هذه لمّا تزل تحظى بالمناقشة وبمنطقية مختلف وجهات النظر. وعلى أية حال، هذه المقولات أو فوضى المقولات تحتاج إلى مراجعات، ليس هذا مكانها، ونزعم أنها كفيلة بالكشف عن زيف غالبيتها.

(3)
وفي العودة إلى سؤال العنوان “هل يُلغي الجنس أجناساً أخرى؟”، نعود لنقول أيضاً: حتى إذا حدث مثل هذا أو قد يحدث، فإن الأصل باعتقادنا أن لا يُلغي جنس جنساً أو أجناساً أخرى إلا في النادر، ببساطة لأن كل جنس يتناغم مع موضوعات وذائقات وطبائع معينة، تختلف بدرجة أو بأخرى عن تلك التي تتناغم معها الأجناس الأخرى، وإلا ما كان لهذا الجنس الأدبي أن يكون أصلاً. وإذا كانت الأجناس الأدبية، في تلبية كلّ منها لقراء معينين ولذائقات معينة ولموضوعات معينة، تقترب من المذاهب الأدبية والتيارات الفنية والمناهج النقدية.. إلخ، فإنها، كونها كيانات، لا تستجيب بالشكل الذي تستجيب به تلك. إن المذاهب والتيارات والمناهج وسائل وصيغ تظهر لتلبي احتياجات وظروفاً وذائقات متغيرة، وعليه فإن الجديد منها حين يظهر فإنه عادة ما يسفّه القديم أو السابقَ، كما فعلت الرومانسية مع الكلاسيكية، والواقعية مع الرومانسية، وكما فعلت المناهج النصية مع المناهج السياقية.. إلخ. أما الأجناس فهي من جهة تمتلك عادة ثوابت ومتغيرات، فثابت الرواية مثلاً الحدث وسرده، ومتغيرها الموضوع وتقنيات سرد الحدث، وثابت الشعر الإيقاع والموسيقى، أياً كان نوعهما، ومتغيره المذهب الفني الذي يخضع له. وهكذا هي، في امتلاكها لهذا، تكون قادرة أصلاً على الاستجابة لتنوع الاحتياجات والذائقات، كما تكون قادرة على الاستجابة للمتغيرات بتغيير متغيرها الذاتي، كما حدث للشعر حين صار الغموض خصيصة من خصائصه مثملاً. وحتى حين يمس المتغير الثوابت حين لا تعود، بدرجة أو بأخرى، مناسبة لعصر أو ذائقة أو ظروف تاريخية جوهرية، فإن نهاية الجنس الأدبي لا تقع بسهولة، بل هو غالباً ما يتعرض إلى الانحسار الذي قد يؤدي إلى أحد النتائج الآتية: أولاً، نهاية الجنس، وهذا ما لا يحدث إلا عبر القرون والعصور، كما حدث للملحمة. ثانياً، التكيّف والاستجابة إلى المتغيرات ليشهد الجنس انعطافات بنيوية أو كيانية، كما حدث للمسرحية بعد قرون طويلة من عمرها، حين تحولت من الشعر، وإن لم تتركه كلياً، إلى النثر. ثالثاً، ولادة جنس أو أجناس أخرى، كما حدث حين وُلدت القصة القصيرة جداً، سواءُ أكانت جنساً أدبياً أو شكلاً من أشكال القصة القصيرة، وحين انبثق الشعر الحر.
والآن، إذا كان موت الجنس الأدبي من الندرة بحث ليس من السهولة توقعه، كما يفعل البعض باطراد غير مقنع، فإن ما يبدو لنا منظوراً هو أن الشعر، موضوع مقالنا، بعيد حالياً عن أن ينتهي أو يموت أو نحسر انحساراً كبيراً، فلا نظن ممكناً لقارئه أو متذوقه أن يجد بديلاً آخر عن قول بدر شاكر السياب، مثلاً:
الليل يطبق مرة أخرى، فتشربه المدينه
والعابرون، إلى القرارة.. مثل أغنية حزينه
وتفتحت، كأزاهر الدفلى، مصابيح الطريق،
كعيون (ميدوزا) تُحجّر كل قلب بالضغينه،
وكأنها نذرٌ تبشّر أهل (بابل) بالحريق

أو قول نزار قباني:
تعال يا غودو..
وخلِّصنا من الطغاة والطغيانْ..
فنحن محبوسون في محطة التاريخ كالخرفانْ
تعال يا غودو.. وجفف دمعنا..
وانقذ الإنسان من مخالب الإنسان..
تعال يا غودو..
فقد تخشبت أقدامنا انتظارْ
تعال يا غودو فإنَّ أرضنا
ترفض أن تزورها الأمطارْ
أو قول رسول حمزاتوف:
حبيبتي
إن كان هناك مئة مخلوق في العالم
يحبونك
فاعلمي أن حمزاتوف أحدهم
وإذا كان الذين يحبونك عشرة فقط
فتأكدي يقيناً
“أن رسول حمزاتوف
هو أحدهم أيضاً،
أما إذا كان لا يحبك في هذه الدنيا
سوى مخلوق واحد
فاعلمي أنه سيكون حتماً
رسول حمزاتوف،
أما إذا كنت حزينة ووحيدة
ولا أحد يحبك في هذا العالم
فاعلمي أن رسول حمزاتوف
قد ماتْ
فقد مات السياب وقباني وحمزاتوف، ولكن أشعارهم لم تمت ولا نظنها ستموت، كما أن الجنس الأدبي الذي وُلدت فيه لن يموت.


د. نجم عبدالله كاظم
أستاذ النقد والأدب المقارن والحديث
كلية الآداب – جامعة بغداد

* منقول للفائدة عن:
هل يُلغي الجنس الأدبي أجناساً أخرى؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى