مالك الواسطي - الحداثة وملامح القصيدة الجديدة… بيان في الشعرية الحديثة

إن التجريب في الكتابة بمختلف ضروبها ومنها الشعر سمة من سمات الحداثة والتجديد التي لا بد لها من أن تستند على مفاهيم حداثية تعتمد الرؤى الجديدة والمعاصرة التي تعالج ما يمكن له أن يولد إبداعا حداثيا أو خلقا حداثيا قابلا للحياة.
فالحداثة لا تنحصر كينونتها في مسالة الشكل والخروج عليه إلى فضاءات جديدة تولد اللاشكل. فاللاشكل في التفكير والتصور والبناء وحتى التخيل وهم غير قابل للصيرورة بل أن الخروج على الشكل هو تهشيم له قد يؤدي إلى بناء شكل جديد أو إلى خلق شكل فوضوي لا يمكن له إلا أن يكون تعبيرا عن هوس عابر وضمورا واضحا للفعل الإبداعي المتجدد عبر العصور. فغياب الشعر في الكثير من النصوص التي أصبحت ظاهرة إعلامية أكثر مما هي ظاهرة أدبية لا تكمن أزمتها في الشعر ذاته بل تكمن أزمتها بمن يكتب هذا النوع الذي يطلق عليه جزافا بـ”قصيدة النثر”. فالشعر في جميع اللغات والثقافات البشرية اعتمد على براعة ودراية الشاعر الخالق للنشوة الشعرية الكامنة في الترابط التفاعلي الطبيعي والغامض بعض الشيء بين مكوناته الثلاثة المنحصرة في العاطفة والكلمة والموسيقى. وهذا ما يشير إليه بشكل جلي وواضح الباحث والشاعر العراقي فوزي كريم عندما يقول:” إن (طبيعة) خطورة هذا “الترابط العضوي”، هو الذي يفرد “العاطفة الشعرية” عن سياق العاطفة الإنسانية المألوفة، ويفرد “الكلمة الشعرية” عن سياق الاستعمال القاموسي أو الحياتي للكلمات، كما يفرد ” الموسيقى الشعرية” عن سياق الإيقاع الموسيقي المجرد. هذا الترابط يولد هذه العناصر بعضها من البعض الآخر لذلك تبدو العاطفة الشعرية فريدة بفعل انتمائها لنص بعينه وكذلك الكلمة والموسيقى”( ). فلم يعد الشعر وما كان يوما لصيق الوزن والقافية أي الشكل وحده بل كان وما يزال جامعا لجذوة الروح وبراعة خلق التصورات المتخيلة عبر جرس الكلمات المشحونة بمعان ودلالات العاطفة المتجسدة بروح الكلمات. فالكلمة خارج النص الشعري وجود لا يثير إلا المعنى الذهني المتعارف عليه والذي هو في حقيقة وجوده وسيلة للتفاهم مع الآخر إلا أن الكلمة ذاتها عندما تكون جزءا من النص الشعري المولد لجذوة النشوة الشعرية تصبح تلك الكلمة وسيلة تواصل مع الآخر وليس وسيلة تفاهم فقط بل تمتد لان تلتصق بالآخر وتثير فيه ذات النشوة التي قد تولدت لدى الشاعر حال كتابة للنص. فكم هو جميل ذلك الخلق الإنساني الذي يسمح للشاعر المبدع أن يهمس في مخيلة قارئه بتصورات جديدة تولد فيه رغبة الكشف عن الجديد المدهش كما تولد فيه حالة التسامي في كسب معارف جديدة تعتمد الحس والإيقاع وتتجسد بدلالات الكلمة وجرسها الذي يمثل لوحده معنا ملتصقا بالكلمة ذاتها لأنه جسد الكلمة المسموع ، إضافة إلى المعاني التي تشحنها الكلمة بارتباطها بتكوين الجملة الشعرية والتي تفيض عادة عن معان متعارف عليها . فالكلمة في النص يختلف تأثيرها كليا عما كانت عليه قبل ولوجها النص الشعري ككلمة قاموسية لا تثير شيئا يمكن أن يكون سفرا جديدا نحو الآخر. فالكلمة الشعرية بذاتها قد انتقلت بمعانيها ودلالاتها من عوالم الذهن العقلي الجمعي إلى عوالم المتخيل الجمعي المفتوح على مساحات التكوين الشاسعة التي تحتضن الجدة والحداثة معا.
فالجديد لا يتمثل بقيام جدته في الشكل القديم مهما يكن الشاعر قديرا ،( ) كما في تجارب أقطاب الشعر الكلاسيكي الحديث كالزهاوي واحمد طه وشوقي والجواهري بل في تبني الرؤى الحداثية التي تفجر الصيغ البلاغة القديمة من اجل خلق الجديد المعتمد على تصورات ومفاهيم معاصرة ينطلق منها بناء الشعر الجديد سواء في توظيفه لينبوع الإيقاع المتدفق ( التفعيلة) أو في الخروج على الإيقاع الذي لا يرتبط قط بالتفعيلة التقليدية أو الكلاسيكية فقط بل انه جزء من روح اللغة وبنيتها المكون عبر الزمن تراكما إيقاعيا ونسقا بنائيا موسيقيا للذاكرة الحية للغة الأمة. فإن ما جاءنا من شعر بشكله القديم كان مستجيبا إلى نوع من الوقع الموسيقي في البناء يتطابق وتصورات الشاعر آنذاك الذي كان يرى في القصيدة وسيلة للوصف أو جزءا من الحدث أما الحداثة التي تخرج على هذا التصور لابد لها من أن تخرج أيضا على تلك التصورات سواء في الشكل أو المضمون بغية تحديد مسارات جديدة في الوقع الموسيقي الشكلي في القصيدة لأنه المدخل الرئيسي لبقاء الفعل الشعري في الذاكرة الحاضرة للأمة دون أن يؤدي هذا الخروج إلى إلغاء ونسف ذاكرة لغة الأمة الموسيقية وتغيب فاعلية الإيقاع في بناء المضمون الشعري وخلق نشوة الجديد لان ذلك سوف يعني الكتابة شعرا بلغة أخرى غير العربية. فالحداثة التي ترى في الشعر مصدرا جديدا للمعرفة تواجه اليوم كما واجهت منذ ظهورها مهمة خلق تصور جديد في الشكل والمضمون يضمن للقصيدة أن تعبر عن روح العصر الحديث وأن تبقى مرآة الرؤى الجديدة في التفكير المعاصر. فالمعرفة في الشعر الحداثي هي كشف حسي ودلالي للحياة المعاشة عبر نشوة التخيل القائمة في مستقبل الرؤى. فالشعر بشكله التقليدي الذي عبر عن تصورات المبدعين العرب من الشعراء عبر العصور المختلفة كان متماثلا ووعي كل مرحلة من مراحل الحياة الثقافية والحضارية والروحية في كل عصر وكان الشعر في أكثره واصفا للحدث ولم يكن جزءا منه إلا في بعض التجارب المتميزة والتي أضاءت قدرة التخيل على تسجيل تلك التجارب وتميزها كتجارب تجديد في الشعر كما هو الحال في بعض تجارب شعراء العربية المجددين كطرفة وبشار وأبي نؤاس وابن الرومي والمعري إلا أن جذوة التجديد هذه سرعان ما همشت وانزوت بعيدا عن المألوف بانتظار من يوقد فيها حرارة التجديد والحداثة. فالحداثة في عصرنا قد دفعت القصيدة بل دفعت الشاعر إلا أن يتجاوز وظيفة المغني ليكون المبتكر والخالق لرؤى وتصورات يمكن لها أن تؤسس عملا دراميا جديدا يعبر عن تطلعات حضارة متجددة عبر تجارب شعرائها الذاتية بالدرجة الأولى.( )فالشاعر عندما يكتب عن تجربته الذاتية بالذات وعبر مخزونه الثقافي والحضاري والروحي الممتزج بروح اللغة التي يكتب بها فهو يكتب عن مرحلة تاريخية لأمة بكاملها ، فالأمة في الشاعر تختصر بروحه وبكيانه وبمشاعره لهذا فمهمة الشاعر اليوم مهمة صعبة جدا فهو لابد له من أن يكون صوتا لامته وليس صوتا لحزب فيها أو طائفة فيها لأنه لو تمسك بطائفة أو حزب أو بقومية لإختصر دوره في أن يكون مغنيا إن كان مبدعا حقا وغاب عنه في أن يكون مبتكرا وخالقا لنشوة تخيل تحتضن صوت إبداع الأمة. فالحداثة في الشعر هي حداثة في الرؤى ومعاصرة في الحياة والخلق والحداثة المنشودة لا ترى في القصيدة وسيطا للوصف أو الكد في الصنعة والهيام بالشكل أو التمسك بهيكلية الإيقاع الثابت بل هي الحدث ذاته المتمسك بالرؤى الجمالية الجديدة وبنشوة الفعل الدرامي الدائم الإقامة في التجديد كما تدل عليه تجارب رواد الشعر الحديث كبدر شاكر السياب وبلند الحيدري والبياتي وحسب الشيخ جعفر وسعدي يوسف الذين اتخذوا من تجاربهم وثقافاتهم مدخلا لولوج فعل تحديث القصيدة العربية وكذلك الحال في تجارب الشاعر السوري علي احمد سعيد (أدونيس)، الذي إنداحت تصوراته نحو التجريد المطلق أو ما يمكن تسميته بالقصيدة الذهنية التي أصبحت مأخوذة بسحر الشكل وصياغة اللفظ والصور الذهنية التي لا تدل ولا تثير في أكثر الأحيان على معان أو ظلال معان تمهد للشعور بوجودها المتخيل فهو بهذه التجربة الفريدة حقا بين شعراء العربية اليوم وأعني هنا ما كتبة هذا الشاعر من شعر ملازم لإيقاع التفعيلة وليس ما كتبه نثرا ، قد أسهم في إرساء “دعائم الهوة بين التجربة الروحية المستقبلية وبين النص الشعري المكتوب بمعزل عنها”.( )

* * * *

إن أزمة الحداثة وإشكالاتها في ثقافتنا العربية المعاصرة لا تقتصر على الشعر بل أنها تمتد لتشمل جميع معالم الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي نعيشها اليوم. فأزمتنا هي أزمة ثقافية بالدرجة الأولى وأزمة حضارة وهوية ووجود ، فالدولة العربية الحديثة التي ولدت في ظل استعمار أوروبي بشع لم تأت إلا لتفتيت الوحدة التي كانت في ظل الخلافة هي ذاتها عائمة وغامضة في التفكير الجمعي للأمة ومنقسمة في ذات الوقت على مفاهيم مختلفة للخلافة والولاء وهذا ما مهد ولادة وخلق كيانات متعددة وإحياء ما هو سلفي في التفكير والإدارة والتنظيم الاجتماعي والسياسي معا لذا فقد استبعدت الحكومات العربية ( الجمهورية منها والملكية) بشكل خاص مفهوم المواطنة على سبيل المثال من قاموس وفهم الدولة الحديثة مما ولد في هيكلياتها أمرات وممالك شخصية تعود ملكيتها إلى عوائل بعينها إضافة إلى إحيائها مفاهيم القبيلة والإقطاع إلى جانب النعرات القومية والطائفية التي أسهمت بتفتيت كيان الأمة ومهدت ظهور أمم متعددة أصبحت مع الزمن كيانات جديدة تتمتع بانفصالها (استقلالها) الجغرافي وتعيش بشكل منعزل صراعاتها الداخلية السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية وهذه الولادات الجديدة ألغت بالضرورة الحديث عن امة واحدة وغيبت كذلك أي مشروع وطني نتيجة احتمائها التام خلف الانتماءات الطائفية والقبلية والقومية لهذا لم يكن اللقاء المحتم بين ثقافة المستعمِر وثقافة المُستعمَر حافزا لولادة مشروع حضاري جديد متكامل يستمد شرعيته من تراث الأمة وحاجاتها المعاصرة في التجديد وذلك لغياب الظروف الداخلية بالدرجة الأولى الملائمة والدافعة إلى مثل هذا التجديد مما دفع البعض من المثقفين إلى نسف كل ما هو صحيح في تراث الأمة والتمسك بثياب ثقافة المستعمِر مولدا بذلك عقدة النقص الملازمة للكثير من مثقفي العربية الذين تبنوا التيارات والمدارس الفكرية الأوروبية التي كانت نتيجة لظروف حضارية وفكرية أوروبية وليست عربية وهي في ذات الوقت غير قابلة للنقل الحرفي مما ولدت في جسد الثقافة العربية المعاصرة تيارين من السلفية والجمود احدهما شرقي قبلي وطائفي وقومي والأخر أوروبي تبادلا ادوار القيادة للأمة عبر صراعات داخلية أدت إلى تدهور جديد ما يزال ينخر جسد الأمة بكاملها.
فالفهم الصحيح لحداثة ممكنة في الأدب العربي وفي كتابة القصيدة بشكل خاص ، والذي جاء به شعراء العراق الرواد كالسياب الذي كان رافده الثقافي الانجليزي (ثقافة المستعِر) حافزا مهما في خلق الجديد حيث إن تأثره الواضح بشعراء الانجليزية قد دفعه إلى محاولة التجديد الشعري انطلاقا من بنية القصيدة التقليدية وتصوراتها فاتحا آفاقا جديدة من خلال تجربته الشخصية القصيرة العمر ومولدا لتيار قصيدة الشعر الحر فلم يكن السياب داعيا إلى التحرر الكلي وبالتالي تهشيم وإلغاء إيقاع التفعيلة بل دعا إلى حرية الشاعر في الكشف عن ما يختبئ في ظلال التفعيلة من إيقاع حديث وعصري خالقا بذلك نسقا إيقاعيا جديدا محافظا على روح اللغة وموسيقاها ولم يزل مشروعه بكرا شاخصا إمام أعين الجميع محفزا لحداثة معاصرة تكمل الكشوفات التي قد بدأت مع السياب وشعراء العراق الرواد. وهذا الحداثة الواضحة لم تجد حضورا ثقافيا وحياتيا يسمح لها بالتواصل مما طويت وسقطت تحت ضربات التطرف والسلفية الأوروبية التي أطلقتها ورعتها في البدء مجلة “شعر” اللبنانية في بيروت حيث كانت وما تزال هذه المدينة كما يقول البعض صدى دائم لما تتقيأه باريس من ظواهر اجتماعية وثقافية قد تغيب بشكل سريع في باريس موطنها الأم إلا أنها تجد ديمومتها وبقائها لأطول فترة زمنية في مدينة بيروت.
فما يسمى بقصيدة النثر التي تنتسب كليا إلى ظاهرة أدبية فرنسية مارسها بعض شعراء الفرنسية ضمن ظروف ثقافية وتاريخية خاصة كبولدير ورامبو ومالارميه وفاليري كما مارسها كتاب نثر لم يكتبوا الشعر قط كتورجنيف وكورتازا رغم أن شهرة الشعراء الفرنسيين الذين مارسوا هذا النوع من الكتابة قد انحصرت فيما كتبوه من شعر موزون وما محاولاتهم في كتابة الشعر نثرا إلا حالة خاصة أرادوا بها التعبير عن غضبهم الحضاري والثقافي لما كانوا يرونه في حياتهم الأوروبية من اختناق الإنسان الأوروبي وانسحاقه أمام عجلة الحداثة العسكرية مما ولد لديهم حالة من الرفض ورغبة في التهديم وخروجا على المقاييس في الكتابة. وهذه الظاهرة التي كانت حالة توقف ومراجعة روحية وثقافية فرنسية الثياب وليست حتى أوروبية لم تجد لها ديمومتها في الثقافة الفرنسية نفسها كما لم تولد تيارا ثقافيا شعريا إن أردنا التخصيص في جميع ثقافات العالم بل لن تولد هذه الظاهرة في الثقافات الأوروبية مجتمعة سوى ما أحدثته بشكل مذهل وسريع كأنه المودة في ثقافتنا العربية التي تبنت انطباعات دارسي هذه الظاهرة من الفرنسيين وخاصة انطباعات الباحثة الفرنسية سوزان برنار في كتابها الموسوم ” قصيدة النثر من بولدير حتى الوقت الراهن” ، أساسا نظرية في فهم وكتابة القصيدة الحداثية وهذا دون شك سلفية واضحة وجهل تام لواقعنا العربي وحاجاته الرئيسية في صناعة وصياغة حداثة خاصة به كي يكون فاعلا في ذاته أولا ومتواصلا من الأخر ومساهما في النهاية في صياغة حضارة العصر الإنسانية والمتعددة الروافد.
فشعراء “قصيدة النثر” الإعلامية قد وجدوا في سهولة كتابة هذا النوع من السف مدخلا للتكاثر كما أن رغبتهم الجامحة إلى الهدم والإلغاء وجدت في هذا النوع من الكتابة سبيلا في إعفائهم عن البحث في ينابيع تجاربهم الروحية والحياتية كما أنهم وجدوا أنفسهم مؤسسين لثقافة عصرية جديدة لا جذور لها تعيش في مستقبل آت لهذا فهي غامضة في دلالاتها ليس على القراء فحسب بل على كتابها أنفسهم . فمنهم من يجد في هذا النوع من الكتابة متعة خاصة وآخرون يجدون في هذا النوع من الكتابة سبيلا لإلغاء الآخرين بل عدم الاكتراث بالقارئ بالدرجة الأولى فالكتابة لم تعد مع هذا الفريق سفر إلى الأخر بل انطواء على الذات المجهولة الغائبة والمندثرة في بدايات الحضارة البشرية التي لا يمكن استكشافها إلا في العودة إلى تخيل تلك المعالم عبر الحلم والكابوس اليومي وهذا الخروج والتطرف في كتابة اللاكتابة جعل بعض كتاب هذا الفريق ومن المؤيدين الرئيسيين لهذه الظاهرة التي طفحت على السطح الأدبي والإعلامي العراقي خلال أعوام الثمانينات من القرن الفائت ( سنوات الحرب العراقية الإيرانية والهجرة الجماعية إلى أوروبا والى العالم العربي للكثير من مثقفي العراق وأدبائه)، شاعر قصيدة النثر زاهر الجيزاني أن يبدي اندهاشه وهو يقرأ نصا لشاعر ثمانيني قائلا: إن الشاعر في هذا النص يقبض حفنة من الكلمات وينثرها على الورق كيفما اتفق لتخرج لنا على هذه الهيئة العجائبية.( ) فكتاب ” قصيدة النثر”، قد عمدوا على إلغاء المعنى والإغراق في الغموض والقول بالوحدة العضوية في النص وموسيقاها الداخلية المعقدة التي لا يمكن الكشف عنها عبر الشكل لأنها لا تفيض بإسرارها إلا داخل التراكيب المفككة لنسيج الجملة وليس لها حضورا شكليا سوى حضور تلك “الحفنة من الكلمات” كما يقول الجيزاني على الورق. فهل تستحق هذه التجارب الخالية من التجارب الحياتية أن تسمى أدبا ومجازا أن تسمى شعرا؟!.
إن عدم فهم الحداثة كفعل تجديدي في التصور والخلق وتبني الرؤى الحياتية الجديدة يخلق وهما حداثيا يلتصق به القاصرون على إدراك ذواتهم الثقافية والحضارية واللغوية مما يوهمهم بالجديد الذي لا يتعدى على أن يكون رغبة في التفكيك والهدم لبٌنى ومفاهيم تقليدية بالفعل دون خلق بنى ومفاهيم جديدة تعبر عن تصورات جديدة مستقبلية بالفعل لهذا تبقى هذه الظاهرة غير قابلة للديمومة يعتاش عليها دون شك أنصاف المثقفين والغارقون بسحر (المودة) وهؤلاء يعيشون واقعا ثقافي ذهني غريب عن واقعهم الثقافي الحياتي اليومي وكأنهم هم ذاتهم غير موجودين وما ينتجونه إن جاز لنا تسميته بإنتاج خاليا من ابسط قواعد الوجود والكينونة وما هو إلا حالة من الغوص في زوبعة تشتد وتضعف قياسا بعدد مريديها الذين يتنامون بالضرورة عند نمو تسلطهم الإعلامي والفئوي ولا يمكن لهذه الظاهر من أن تؤسس لثقافة حداثية ورؤى جديدة في حضارة امة مهما وصلت تلك الحضارة من مستوى في الانخفاض والتدهور من إدراك ذاتها وطاقاتها الإبداعية الكامنة فيها.

د.مالك الواسطي – نابولي – ايطاليا
في 10 من شهر سبتمبر عام 2008

———————
1- فوزي كريم : تهافت الستينيين “أهواء المثقف ومخاطر الفعل السياسي”، ص: 124. دار المدى عام 2006م.
2- محمد النويهي : قضية الشعر الجديد. ص: 93.
3- في رسالة كتبها الأستاذ سلامة موسى للشاعر احمد زكي على اثر صدور ديوانه ( الشفق الباكي)، عام 1927م ونشرها الباحث والشاعر العراقي فوزي كريم ضمن هوامش كتابة ( ثياب الإمبراطور) جاء فيها : ” نشأت على أن أتذوق القليل من الشعر العربي بل أني لا أكتمك كراهيتي لملوك الشعر العربي كالمتنبي وأضرابه ، وحبي لصعاليكه كأبي نواس والبهاء زهير، وقد ملت إلى الشعر الأوروبي وخاصة الانجليزي الذي لا أظن أن في العالم شعرا يساويه ولا أقول يسمو عليه. وما ذلك إلا لأن لفظة ( شاعر) عند الأوروبيين تعني العامل المبتكر، وهي عند العرب تعني المغني لأن “شعر” مشتق من “شير” العبرانية بمعنى الغناء. ومن هنا صار من تقاليد الأدب عند العرب أن يقتصر الشاعر مجهوده على الزخرفة اللفظية ، بينما هو يخترع ويبتكر عند الأوروبيين ، وأي شيء أدل على الابتكار من الدرامة التي عرفها الأوروبي وجهلها العربي ؟!”
4- فوزي كريم :”تهافت الستينيين) ، ص: 147.
5- زاهر الجيزاني في المنتدى الأدبي – دمشق – نقله لنا الكاتب احمد عبد الحسين في قرطاس.


* منقول للفائدة عن:
الحداثة وملامح القصيدة الجديدة… بيان في الشعرية الحديثة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى