عبدالله إبراهيم - صنعة السرد

دعوني أطلق هذا التعريف للسرد: السرد هو تلك الوسيلة الجبّارة التي يبني بها الكاتب عالما افتراضيا موازيا للعالم الواقعي. ليس السرد رواية أخبار، وإيراد وقائع، بل هو تلك العملية الشاقة من النسج اللغوي التي يُنشيء بها الروائيون عالما خياليا، عالما يتألّف من شخصيات تتحرك في مكان، وأحداث تقع في زمان، ومعنى يتأتّى عن مجموع العلاقات بين تلك الأحداث والشخصيات والخلفيات الزمانية والمكانية، فلا يراد بالسرد، والحال هذه، أحد عناصر الكتابة إنما هو كل ما يتصل بها، وكل ما يتأدّى عنها. في السرد ينبغي أن يحيل الكاتب أفكاره الى صور، فلا يستقيم السرد بدون تحويل الأفكار الى أشكال حكائية، أي نظم الكلمات بما يجعلها تكوّن صورًا في مخيّلة القارئ. يتولّى القارئ تحويل الحكايات الملفوظة الى حكايات مصوّرة، غير أنّ الرواية ليست بحكاية بل هي عالم متنوع من الأفكار والآراء والشخصيات والأحداث وقد انتظمت في سياق شامل له دلالة، فتكون الحكاية بؤرة تصدر عنها أو تنجذب اليها عناصر السرد كافة.

الرواية مجموع من الأحداث ما وقعت قط في أي وقت من الأوقات، ولن تقع في يوم ما، غير أنّ من يقرأها يتوّهم أنها وقعت بحقّ وحقيق، لأن السرد هو الوسيلة القادرة على تعزيز هذا الوهم في خيال المتلقّي. يتولّى الروائي بالسرد أمر تنظيم العالم المبعثر من حوله، ولكي يتمكّن من ذلك يلجأ إلى أمرين: الانتقاء واصطناع الحبكة؛ فهو ينتقي، من ناحية، ما يراه داعما للعالم الافتراضي الذي ابتكره من عناصر متناثرة، ويقوم، من ناحية ثانية، بالعثور على نقطة تتماسك فيها مكونات ذلك العالم الافتراضي، وذلك هو التحبيك الذي يدرج في إطار واحد مكونات لاسبيل إلى نظمها في العالم الواقعي. من الناحية الوصفية يبدو أن العالمين الواقعي والافتراضي متوازيان، لكنهما، من الناحية التأويلية، متداخلان، يفسّر أحدهما الآخر، ويضفي عليه معنى خاصا، ونقطة التقاء هذين العالمين في خيال القارئ هي التي تجعل للسرد وظيفة اجتماعية.

يحتاج القارئ إلى معرفة الكيفية التي يجعل بها الرواية جزءا من وعيه، ويدرجها في نظام فكره وذوقه، بحيث يتآلف معها، ويفكّر بها، فتصبح معاشرة الظاهرة السردية متعة لابديل لها عنده، وما أن يتأسّس ذلك التآلف حتى ينبثق نوع من التحالف، إذ تستجيب الرواية لمتطلبات القارئ حينما تعرض عليه نماذج لاتحصى من الموضوعات والأفكار، وتسرّب إليه أسئلة كثيرة حول الحياة، وربما تقترح عليه حلولا يهتدي بها من دون أن يكون ملزما بتطبيقها، وإلى كلّ ذلك، تستجيب الرواية للقارئ حينما تمنح نفسها لتأملاته وتأويلاته، فتنفتح عوالمها له، ويتمكّن من قراءة شفراتها على نحو صحيح، وهذا التفاعل بين القارئ والرواية يثري الظاهرة السردية والظاهرة القرائية، ولعله يفضي إلى اثراء معايير الكتابة مثلما يصوغ أساليب القراءة، فالعلاقة المتفاعلة بين الاثنين سوف تتمخض عن تطور مزدوج يشمل الطرفين، فمداومة القارئ على الرواية تجعله قادرا على تلمّس اتجاهاتها، وكلّما غطس فيها تكشفت له أسرارها، فالقارئ العجول سوف يعزف عن تأسيس صلة بروايات كافكا، وسيصاب بالخيبة من جويس، وسيضل الطريق برفقة بروست، ويتعذّر عليه معرفة تضاريس الجنوب الأمريكي مع فولكنر، وسوف يقشعر بدنه حينما يقرأ ماركيز الذي اختلق قرية في يابسة الكاريبي الاستوائية، ورمى فيها بستة أجيال، اقتلعتها عاصفة في نهاية المطاف، فإذا بالأمر كله نبؤة دوّنت على رقاق غجري.

والراجح أن ذلك القارئ المتعجّل سوف ينعت بورخس بالحذلقة إذا هو يوثّق أحداث قصصه بمصادر مزّورة لم تُكتب على الاطلاق، وما صدرت عن مطبعة في أي بلد من بلدان العالم بل في خيال بورخس نفسه، وظنّي بأنه سيرمي نجيب محفوظ بالهرطقة حينما يتمحّل بتأويل شخصياته تأويلا قائما على رغبته في وضع تفسير جاهز لما يقرأ، وربما يتهم جبرا ابراهيم جبرا بالاباحية لأن شخصياته تغرق في متعها الدنيوية دونما تروّي، وسيتهم الطيب صالح بالعدوانية، وربما العنصرية، لأنه سمح لأحد أبطال رواياته الاقتصاص من نساء بيضاوات، وقد يتهم إميل حبيبي بممالأة الإسرائيليين لأن شخصياته تعايشت معهم في الأرض المحتلة، وقد يبدو له أورهان باموك كارها للتاريخ التركي لأنه أقرّ بمذابح الأقليات في نهاية حقبة السلطنة، وسيتّهم فؤاد التكرلي بالمحلّية العراقية الضيقة جدا لأن شخصياته تتحدث بلهجة أحد أحياء بغداد دون سواها ما يتعذر على القارئ فهمها، وربما يتخيّل أمبرتو إيكو محققا في القضاء لأن عماد بعض رواياته يقوم على التحقيق المعمّق، وسوف يحسب أغاثا كريستي خريجة كلية الشرطة في لندن.

يحدث كل ذلك حينما يكون القارئ غريبا عن عالم السرد، لكن مداومته عليه تصطنع ألفة بينهما، وتخلّف معرفة، وتنشيء حوارا، يتيح للتأويل أن يحلّ محل التفسير الحرفي للنصوص السردية، فينفتح عالم كافكا باعتباره مكافئا سرديا لعالم واقعي محاط بالعجز، وملفوف باللغز. ويتقبل عالم جويس بوصفه نظيرا لغويا للعالم، وفيه تتقاطع حركة االشخصيات في مدينة ساكنة، هي دبلن، فتلوذ بخواطرها، وتتداعى ذكرياتها، وكأنها تعبر عن حيرة الإنسان الحديث. وسيجد رفقة بروست ممتعة لأن الأشياء تبعث زمنا مضى في نفوس شخصياته، وتخفي غزارة اللغة حركة شاحبة لمجتمع يرفل بالحيرة، غير أنه برفقة فولكنر سيختزل أمريكا إلى تلك المنطقة المتخيلة "يوكناباتوفا" حيث يريد المجتمع الانقطاع عن ماض وينفتح على حاضر، وما يتخلل ذلك من نزاعات، وتعارض في الأفكار. وسوف ينفتح له مع ماركيز ذلك المرجل الساخن للنزوات، وسفاح المحارم، والشبق، والقتل، والاستبداد، والخداع، والسحر، فتكون "ماكوندو" بؤرة تحيل على تاريخ قارة طوال قرن كامل، وفي القلب من ذلك تنمو تلك الأمثولة القائمة على النبوءة، وكل خرق لها سيؤدي إلى فناء سلالة "بونديا" وفحوى النبوءة يذهب إلى أنه في حال حدوث سفاح المحارم بين أفراد السلالة فالمولود سيحمل معه دليل ذلك الإثم، وهو ذنب نابت في مؤخرته، فتعمل السلالة لمئة عام على ألا يحدث ذلك لكنها في لاوعيها تعمل خلال تلك المدة على تحقيق مضمون التحذير، فتتلاشى قرية ماكوندو في آخر صفحة من "مئة عالم من العزلة" كأنها آخر صفحة في كتاب الوجود.

ما أن تتأسس الألفة بين السرد والقارئ حتى تغمره المتعة وهو يرافق بورخس في تلك الألاعيب السردية المكثفة التي يختبر بها صبره وصبر قرّائه في نسج حكايات جدلية لانظير لها، وسيتفّهم سخرية إميل حبيبي، ورمزية محفوظ، ومحلّية التكرلي، وهوية باموك، وحيويّة جبرا، وألغاز إيكو، واغتراب الطيب صالح، وفذلكات أغاثا كريستي. السرد صنعة جديرة بالتقدير، وحسن الظن، وتزدهر بالقراءة الذكية التي تقوم على التآلف ثم التحالف بين القارئ والكاتب.




جريدة الرياض | صنعة السرد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى