نصرت مردان - السرداب.. قصة قصيرة

كان طقسا غريبا ، ذلك الذي يحدث في بيتنا ، لم يعتد عليه أو يسمع به أحد. يتلخص في زيارة جدي القابع منذ سنوات لاعلم لي بها في سرداب بيتنا . وهي زيارة تتكرر في أزمان مختلفة.

لم يكن الشوق إلى أولاد أو أحفاده هو مايدفع جدي على الظهور ، بل كان يخرج في كل مرة ليردد نفس السؤال ، وليعود بعده بهدوء وسكينة إلى سردابه ليظل فيه سنوات وسنوات .

رغم مرور سنوات على غيابه في كل مرة إلا تقاسيم وجهه لم تكن تتغير ، وكأن الأعوام عاجزة عن وضع بصماتها على وجهه الذي ظل يحتفظ بنفس السحنة التي نزل بها إلى السرداب .

كان يبدو كما ذكر لي أبي ذلك ، بأن الزمن لا يملك سلطانا على جدي الذي سمعت عنه كثيرا ، ولم أره إلا مرة واحدة .

كان جدي هو الذي يختار زمن ظهوره في كل مرة من السرداب ، بعد أن يزور والدي في حلمه. لم يكن مكان اللقاء إلا بيتنا بغرفه الواسعة ، وشجرة الزيتون التي تتوسطه ، وسطحه الذي يقرب منا السماء والنجوم في ليال الصيف ، بحيث تبدو السماء أكثر ألفة وألقاً .

على الرغم من وجود معظم أفراد الأسرة في اللقاء الغرائبي من الأبناء والأحفاد ، إلا ان سؤال جدي في كل زياراته لم يكن يتغير قط ،ويظل للحظات ينتظر في كل مرة بشرى سارة طال انتظاره لها ، لذلك لم يكن يسأل خلال اللقاء القصير عن أحوال أبنائه وأحفاده ، بل يظل مهووسا بالعثور على جواب لسؤاله الذي لا يتغير رغم تقادم السنين .

كان أبي يوصيني بالسكوت والصمت وعدم البوح أو الكشف لكائن من كان عن الزيارات السرية لجدي ، خوفا من أن نتهم بالجنون . وكان يقول ، ان مايجري هو اكبر من أن يستوعبه ذهن حمد ،الفار من العسكرية ، او زاير ، الذي يوصل بسكره الليل بالنهار ، او الحاج لطيف المهووس بحكايات الجن والعفاريت ، أو نعيمة الدلالة التي لا تجيد إلا نقل أسرار البيوت إلى نساء الحي الثرثرات ، أو العسكري أبو نادية ، المطرود من الخدمة بسبب رشوة ، والمستعد للوشاية حتى على أخيه في سبيل أن تعود النجمات العسكرية للمعان فوق كتفيه اللتين هدهما الحزن على أمجاده الضائعة .

لم أجد جوابا لسؤال ظل قابعا في ذاكرتي ، ماالذي يدفع جدي في كل مرة للخروج من السرداب ليلقي بسؤاله الذي لا يتغير ؟..وماالذي سيجديه من الجواب الذي كان يتغير في كل زيارة عكس سؤاله الثابت ؟ ..رغم ذلك ظل جدي مصرا وبإصرار أكثر من ذي قبل على سؤاله الذي أعتاد أن يسأله بعناد وإصرار .

لم أكن أعلم بعمر جدي بالضبط ، ولا أسباب غيابه في سرداب بيتنا الكبير . كان يخرج ويعود إليه وكأنه طيف حلم أو شبح . لم يكن يسأل إلا سؤالا واحدا لا يتغير :

ـ هل استقر العراق ؟

حدثني أبي بأن وجه جدي ينضح بالحكمة والمهابة ،وبأن بداية الطقس الغرائبي هذا بدأ عندما

خرج لأول مرة من سردابه الذي اختفى فيه ، بعد شهور من اغتيال العائلة المالكة ، وسأله :

ـ هل استقر العراق ياولدي ؟

قال له أبي في حينه :

ـ عبدالكريم قاسم ، سيبني عراقا جديدا ، لا مكان فيه للمستعمر يا أبي !

أشرقت ابتسامة مثل نهار ندي على وجهه المرهق ، وهو في طريق العودة إلى السرداب .

بعد اغتيال عبدالكريم قاسم في إذاعة بغداد ، وعندما أوشك فيه أن يتبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض ، جلس جدي قبالة أبي وسأله :

ـ هل استقر العراق ياولدي ؟

ـ عبدالسلام عارف يعد بعراق مزدهر يا أبي !

أشرقت ابتسامة صافية ورائقة على وجهه ، وهو يتوجه بخطى متفائلة إلى مستقره .

عاد جدي بعد سنوات في ليلة كان القمر فيها بدرا .سعل قليلا ، وقال متأملا النجوم التي كانت تلمع كعناقيد فضة في السماء المظلم .

ـ هل استقر العراق ياولدي ؟

ـ عبدالرحمن عارف خلف أخيه الذي احترق في الطائرة التي كانت تقله ..وهو يعد بعراق هاديء ، بعيد عن المشاحنات السياسية يا أبي !

هبط جدي سلالم سردابه مبتسما ، متفائلا كالعادة .

لم يطل غياب جدي كثيرا ، سرعان مابشر أبي أفراد العائلة ببشرى زيارته لنا في قيظ تموز ، حيث كانت المسامير الكبيرة على باب الخشبي لبيتنا على وشك أن ينصهر من شدة الحر .

ـ هل استقر العراق يا ولدي ؟

ـ أحمد حسن البكر يا جدي يبشر بعراق جديد ، وبعهد للحرية والكرامة .

شعت كالعادة الابتسامة على تجاعيد وجهه ، وهو يتسلل بهدوء إلى السرداب .

عاد جدي يعد سنوات متلهفا ، ينظر إلى وجه أبنائه وأحفاده .

ـ هل استقر العراق يا ولدي ؟

ـ صدام حسين أصبح حاكما للعراق .. نأمل خيرا يا ابي !

ارتاحت أسارير وجهه وعاد بهدوء من حيث أتى .

في زيارته الأخيرة حدق في وجهي طويلا . أحسست بنوع من التوتر. كان في وجهه الذي ينتظر البشرى منذ عقود ، سحنة الحكماء والشيوخ الذين خبروا الحياة والدهر . كنت أود ان احتضنه أو يحتويني بحنو بين ذراعيه . لكنه لم يفعل ، بل اكتفى بسؤاله الثابت الذي لم يتغير رغم تغير الأيام والمواسم والسنوات .

كانت قد مرت سنوات على احتلال العراق ، لسبب لا أدريه ، كان يحدق في وجهي هذه المرة . وهو يردد سؤاله المعتاد :

ـ هل استقر العراق يا ولدي ؟

ـ …

12/1/2008
السابعة والنصف صباحا

""

* عن الناقد العراقي
نصرت مردان: السرداب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى