رشيد سكري - بين المرصفي و البارودي

لا حديث عن نهضة آداب اللغة العربية ، دون الحديث عن رواد أسسوا منهاج تلقي العلوم الحديثة ، وساهموا في بناء الفكر الأدبي الحديث ، كما أن لهم امتدادا وازنا في الأدب المعاصر . وذلك عن طريق تناولهم القضايا الأدبيَّة الكبرى و السِّجالات التاريخية حول تجديد الشعر العربي القديم وعلوم اللغة و البلاغة العربية .

من المؤكد جدا ، أن أواخر القرن التاسع عشر كان بمثابة الانطلاقة الفعلية نحو تجديد البنى الثقافية ، ومعانقة النهضة الفكرية في الأدب العربي ، علاوة على الانخراط الفعلي في رسم خارطة الصَّحوة الأدبيَّة الحقيقية . و الفضل كل الفضل يعود إلى تطور فن الطباعة الحديث ، بعد حدث اكتشاف مطبعة بولاق الأميرية . إن من بين هؤلاء الرواد الأشاوس ، الذين انخرطوا في وطيس بعث التراث الأدبي و الفكري العربيين نجد : الشيخ حسين أحمد المرصفي في النقد و محمود سامي البارودي في الشعر .

من أثيل الصدف أن يعيشا هذين العملاقين في زمن ثقافي واحد ، وأن يعودا إلى التراث العربي القديم ؛ كي ينهالا عليه بالدرس و التحليل ؛ لاستخلاص العبر و الدروس ، والوقوف على أسسه المتينة ، التي تضمن العبور الآمن نحو النهضة الشاملة في الفكر والأدب . فكان لحملة نابليون بونابرت على مصر ، في نهاية القرن الثامن عشر، دور هام في بعث الحياة الثقافية و الفكرية ، وجعلها أحد المنابع الصافية ؛ لتذوق الفن في الآداب العالمية . بمقتضى ذلك ، كان التخلي عن الإسفاف و الرَّطانة في التعبير ، وخصوصا النثر الفني ، من أبرز العوامل ، التي دفعت نحو الإقلاع الحقيقي للتجديد . علاوة على الاتصال المباشر بثقافة الغرب عن طريق البعثات الطلابيَّة ، التي كان لها رأيٌ آخرُ بخصوص المقاربة الجديدة ، التي يجب أن يحظى بها الفكر و الأدب . بالموازاة ، استطاعت هذه البعثات أن تخلق خطوط التماس الثقافي و الأدبي بين الشرق و الغرب ، لا سيما بعد الاحتكاك و التمرُّس ، الفعلي ، بالجمال الفني في الشعر و النثر، الذي تقوم عليه الحضارة الغربية . وفي ذات المسعى كانت أصوات ملأت الدنيا و شغلت الناس حول الوظيفة ، التي يجب أن يضطلع بها الأدب الحديث ؛ خصوصا عندما بدأت الشعوب المستضعفة في العالم

الثالث تدخل براثن القتامة الاستعمارية . فما كان للأدب إلا أن يعبر عن المعاناة و المكابدة جرَّاء فقدان الوطن ، وأن يكون وسيلة للتعبير عن تجربة الضياع و الهجرة الجماعية للأدباء والمفكرين نحو أوربا و أمريكا ؛ مدافعين عن أدب ميْسمه الحرية و الثورة ، و بعث اللغة العربية من جمودها ؛ باستنبات صيغ و تعابيرَ ممتدة في الخيال و الشعور .

ـ 1 ـ

إن لحدث ظهور حسين أحمد المرصفي ، كناقد ، وقعا كالزلزال على الثقافة و الفكر في مصر . وأحد أعلامها البارزين في علوم اللغة و الأدب والبلاغة . ففيما كان ينهلُ المرصفي من معين العلم والمعرفة ، من جامعة الأزهر العتيدة ، ذاع صيته بشكل ملفت للنظر ، بل أصبح حديث ، كل مشايخ الأزهر، عن صبي ضرير من المراصفة ملأ السَّمع و البصر ؛ وعن ذكائه و فطنته وتفوقه عن سائر أقرانه . وأمام اشتداد عوده و إبانة عن علو كعبه و نجابته في التفوق و الاجتهاد تولى التدريس بجامعة الأزهر . فأصبحت محاضراته محجا حقيقيا لكل طلاب العلم و المعرفة . وعلى هذا النحو ، كان المرصفي يحاضر على شاكلتين ؛ في علم الأدب تارة وفي علمي التفسير و الحديث تارة أخرى . ولهذا الغرض كان يستقطب شريحة غفيرة من الطلبة من مختلف المشارب المعرفية ، فضلا عن محاضراته ، كما أشار محمد مندور في كتابه " النقد و النقاد المعاصرون " ، التي كانت تلقى في يومي الأحد والأربعاء من كل أسبوع . لهذا الغرض ، كانت هذه الدروس ، التي كان يلقيها المرصفي في مدرجات جامعة الأزهر ، بمثابة الشرارة الأولى ، التي ساهمت في إنشاء مدرسة دار العلوم المصرية .

إن لهذا الحدث صدى غوير رجَّ في كل أنحاء المعمور ، فانفسحت الحياة الثقافية المصرية على علوم الأدب الحديثة ، متجاوزة العلوم الشرعية ، التي كانت تروج لها جامعة الأزهر . غير أن هذه المغامرة ، غير محسوبة العواقب ، لاقت مقاومة شرسة من داخل الأزهر نفسه ، حيث لم يستسغ علماؤه أن يُسْحب البساط من تحت أقدامهم ، وأن تجاري دار العلوم جامعتهم في البحث و الدراسة و الإشعاع . وأكثر من هذا كانت لدار العلوم يد سابغة في إدخال الأدبَ الحديث من عنق الزجاجة إلى العامة ، بل أصبحت المواضيع ، التي كانت حِكرا على جامعة الأزهر ، تتنعَّم بالحرية ؛ و انفسح أمامها بابٌ جديدٌ للبحث والتأمل و الاستقصاء . وبمقتضى ذلك ، رأت النور بصياغة أدبية ممشوقة ، و بأسلوب غير مسبوق من الكتابة عن التاريخ العربي و عن الإسلام ؛ استساغها القراء ، وأقبلوا عليها بنهم .

وبالموازاة ، كان للمرصفي قصَب السبْق في تحرير الخطاب الديني من احتكار التقليد ، انطلاقا مما خلفه من دخائرَ نفيسة ، جمع فيها بين المضمون الاجتماعي و القومي المتمثل في الحرية و الوطن و العدالة و السياسة ...

إن " زهرة الرسائل " و " الكلمات الثمان " و " الوسيلة الأدبية للعلوم العربية " فِلذات تركها الشيخ لتـُسنـِّمُه إلى مصاف المجددين الأكفاء في الثقافة و الأدب . وما كان الجيل الثقافي من بعده سوى امتدادا شرعيا لأفكاره و توجّهاته و توجّساته ، إذ ساروا على دربه ؛ بتحريرهم الخطاب الديني من الهيمنة الشـَّعواء ، التي أضرت بالفكر و الدين و الأمة . وعلى رأسهم محمود تيمور في مجموعاته الأولى " الشيخ سيد العبيط " و " الشيخ جمعة ". لتأتي ، بعد ذلك ، دراسات جادة لكل من محمد حسين هيكل في كتابه الرَّائد " حياة محمد " ، وعباس محمود العقاد في " العبقريات " ؛ لتحتل العقلانية و التبصر مساحة كبيرة من حياة الناس . والحالة هذه ، تسلم عميدُ الأدب العربي طه حسين ، باعتباره تلميذ المرصفي ، مشعل هذا التوجه الجديد في التأليف والإبداع من خلال إسلامياته " على هامش السيرة " و " الشيخان " و " المعركة الكبرى" ، جاعلا من الخطاب الحداثي جزءا لا يتجزأ من الخطاب الديني .

إن للبعد النقدي في حياة الشيخ المرصفي منازل َ متعددةً ، لاسيما في كتابه المتميز " الوسيلة الأدبية للعلوم العربية " ، حيث ضم بين دفتيه محاضراته النقدية ، التي ألقاها على طلبة دار العلوم . وعبرها رسم لطلابه السَّمْت الصحيح لتذوق الإبداع الأدبي ، مؤكدا على البعد الفني الجمالي ، من خلال خلق استعارات و تشبيهات ، علاوة على تصيد المحسنات البديعية تغني الصُّور الأدبية ، والإئتلافات بمختلف ألوانها ، وتنأى به ـ أي البعد الفني ـ عن التقريرية الجامدة. و في الاتجاه ذاته ، قارب محمد مندور في كتابه النقدي " النقد والنقاد المعاصرون " الوسيلة الأدبية " للشيخ المرصفي من خلال " الأورجانون " ؛ مجموع كتب الفيلسوف أرسططاليس ، حيث إنها الوسيلة و الأداة للتفكير و الفهم الفلسفي والنقدي.

ـ 2 ـ

لا ندخل عالم محمود سامي البارودي الشعري ، إلا عبر بوابة النهضة و التجديد و النفي الذي لحقه . انحدر البارودي من عائلة تدور في فلك المدارس الحربية ، تفتقت شاعريته منذ نعومة أظافره ، حيث اطلع على الكثير من الدواوين الشعرية ؛ خصوصا شعراء العباسيين ، مستبينا حكمتها و متذوقا أسلوبها الرصين في التصوير الشعري الجيد والمتين. لم تقتصر مغامرته على الشعر العربي فحسب ، بل قرأ روائع الشعر الفارسي والتركي ؛ ليكون ذلك حدثا مهما ، مهَّد لمرحلة مهمة في تاريخ الشعر العربي ؛ ألا وهي مرحلة تجديد البنى في القصيدة العربية الحديثة و المعاصرة .

عرف البارودي بلقب " شاعر السَّيف و القلم " ، انخرط في العمل السياسي ، مساندا ثورة أحمد عرابي ضد فساد حكم الخديوي توفيق ؛ فنـُفي جرَّاء هذا النشاط إلى جزيرة سرنديب فسلخ فيها ما يقارب سبعة عشر عاما . كان لها كبير الأثر في مسيرته الأدبية ، لاسيما أنه

راسل خلالها كبار الأدباء ، وأنشد العديد من القصائد تلهج بالشوق و الحنين إلى الوطن . ومن أشهر قصائده في هذا الباب قصيدة " رسالة إلى الوطن " من البسيط ، مطلعها :

سمعت صوتك منسابا إلى أذني حتى أهاج بصدري كامن الشجن

تربَّع البارودي على عرش مدرسة البعث و الإحياء ، التي تنادي بضرورة الاهتمام بالشعر العربي ، و الارتقاء به إلى مصاف الشعر الغربي . ولهذا السبب كان الإبداع الشعري دعامة أساسية ، ومفتاح سبل الحداثة ، التي يتوهَّج عندها المبدعون ؛ من شعراءَ و نقادٍ .

ـ 3 ـ

لقد كانت الدُّربة و المِران من الوسائل الأساسية ، التي ركز عليها المرصفي في محاضراته بدار العلوم ، مستهدفا بها طلبته ، الذين يستهويهم الميول الشعري ، رافضا بذلك التعريف العروضي للشعر . وبذلك سحب البساط من تحت أقدام أمهات المصادر في تاريخ الشعر العربي ، التي بنت الثقافة العربية بالإسمنت المسلح ، إذ يعرِّف قـُدامة بن جعفر الشعر في كتابه " نقد الشعر" بما يلي : " الشعرُ كلامٌ موزون و مقفى يدل على معنى " إن هذا التعريف العروضي للشعر ، في نظر المرصفي ، لم يشمل الملكة ، التي تـُصْقل بالدُّربة و المِران . فما كان البارودي إلا شاعرا حفـَّاظا للشعر ، نسَّاجا على غرار الأقدمين . ففي محاضراته كان المرصفي يستدل بالبارودي ، وذلك بفضل رهافة سمعه وتصيُّده الكلام الموزون ، بل تعقـَّل تراكيب اللغة العربية ، وفنونها عن طريق جـِبـِلة الحفظ والتذكر . وبمقتضى ذلك ، ظل البارودي وسيلة في يد المرصفي ، ومعبرا آمنا إلى نقد أمهات المصادر في تاريخ الأدب العربي ، بل أسس نهضة جديدة تقوم على تجاوز الثوابت وإحلال بدلها المتغيرات ، فضلا عن بعث الصناعة في النثر و الشعر عن طريق استجاشت الملكات و المواهب لرواد الثقافة والأدب في ما بعد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى